“بقلة و”فجل”.. ذاكرة “الضاحية” الزراعية في سوق “الريڤولي” ببيروت

لم يتبدّل اسمها على مرّ الأيّام وحسب، من “ساحل المتن الجنوبيّ” إلى “ضاحية بيروت الجنوبيّة”، بل تبدّلت معالمها وطبيعتها ونمط الإنتاج فيها وبشكل جذريّ، من قرى صغيرة تضم بيوتًا متناثرة، إلى غابة إسمنتية، ومن أراضٍ زراعيّة إلى أسواق تجاريّة. هذا هو قدر الضاحية التي تتنازع التبعيّة لها كل من بيروت وجبل لبنان، وبينما تتبع اسميًّا إلى الأولى، تتبع إداريًّا وانتخابيًّا إلى جبل لبنان.

من يجل في الضاحية اليوم ويشاهد الفوضى العمرانيّة التي تعمّها، لا يمكن أن يتخيّل أبدًا أنّها كانت في يومٍ من الأيّام، سهولًا زراعية خصبة، ترفد أسواق بيروت بكلّ أنواع الخضار، لا بل أكثر من ذلك، إذ تؤكّد مصادر تاريخيّة أنّ الزراعة فيها تجاوزت “الفجل والبقلة”، فشملت زراعة القطن في العهد العثمانيّ، والتوت وتربية دود القزّ في عهد الأمير فخرالدين الثاني، وصولًا إلى زمن سوق “الريفولي” في ساحة البرج، حيث كانت تُباع الخضار بعد نقلها على ظهور الدواب من الضاحيّة إلى بيروت.

اليوم، يلجأ تُجّار الخضار في الضاحية الجنوبيّة إلى سوق الخُضار الرئيسيّة في بيروت لشراء احتياجاتهم من المنتجات الزراعيّة، في مفارقة لافتة، إذ كانت الضاحية ذات يوم جزءًا من القرى التي تزوّد العاصمة بالمؤن والخضروات. من بين هذه القرى التي شكّلت في زمنٍ مضى، السلّة الزراعيّة لبيروت: برج البراجنة، الشيّاح، الغبيري، حيّ ماضي، بئر العبد، الصفير، المريجة والليلكي وصولًا إلى صحراء الشويفات.

كشافة فوج الإمام علي والوفد الفرنسي في ضاحية بيروت الجنوبية العام 1938
زمن الحقول والآبار

في ستينيّات القرن الماضي، كانت الضاحية بمعظمها مناطق زراعيّة، يعمل أبناؤها معظمهم في الزراعة. كانت تحويطة الغدير في برج البراجنة مركز الزراعة نظرًا إلى وفرة آبار المياه فيها، فتنوّعت محاصيلها من الباذنجان والبندورة والخيار والبقدونس والكزبرة، وصولًا إلى البقلة والفجل والخسّ والبطاطا والجزر والبازلّاء، وقد واكبت الضاحية أساليب الزراعة الحديثة آنذاك.

عند الثانية ظهرًا، كان مزارعو الشيّاح ينتظرون “الطنبر” الذي سيحمل منتجاتهم الزراعيّة نحو سوق “الريفولي” في ساحة البرج. لكن قبل العبور، كان يتوجّب على ناقلي البضائع دفع “الضريبة الدخوليّة” في محطّة الطيّونة، فيما كان بعضهم ينجح في تهريب البضائع عبر الأزقّة والزواريب الضيّقة.

شارع عبد الكريم قبل حرب السواتر

في الماضي، كان القسم الأكبر من شارع عبد الكريم الخليل في الشيّاح، يُزرع باذنجانًا وبطاطا. يستعيد ابن الشيّاح فضل حسن الخليل، أبو حسن (88 عامًا)، ، تفاصيل تلك الفترة وذكرياتها، يروي كيف كانت البطاطا تُخزَّن في باطن الأرض ثمّ تُستخرج شتاءً للاستهلاك.

مع اندلاع الحرب الأهليّة العام 1975، تحوّلت الحقول الخضراء إلى أراضٍ قاحلة أُقيمت عليها سواتر ترابيّة ومحاور قتال، فاضطرّ الأهالي إلى النزوح

عمل الخليل في شبابه مع والده حسن في الزراعة، قبل أن يُصاب الأخير بمرض جعله يتوقّف عن العمل. نصحه الطبيب بالعودة إلى الحقول فاستعاد عافيته. يقول الخليل لـ “مناطق نت”: “الزراعة ليست عملًا وحسب، بل دواء يشفي الإنسان من أوجاعه”.

كانت عائلات عديدة في الشيّاح تعمل في الزراعة، مثل آل كنج، فرحات، والحاج. لكن مع الهجرة الجنوبيّة باتّجاه الشيّاح مطلع الستّينيّات، بدأت المنطقة تتحوّل تدريجًا من مركز زراعيّ إلى تجاريّ وصناعيّ. ومع اندلاع الحرب الأهليّة العام 1975، تحوّلت الحقول الخضراء إلى أراضٍ قاحلة أُقيمت عليها سواتر ترابيّة ومحاور قتال، فاضطرّ الأهالي إلى النزوح.

آبار بعد الحرب

بعد الحرب، عانت الشيّاح من انقطاع طويل في المياه. يقول الخليل إنّ والده كان من القلائل الذين نالوا رخصة لحفر بئر مياه ارتوازيّة “فسارع الناس إلى مدّ الأنابيب من البئر لتلبية احتياجاتهم”.

عن فورة التعمير في الشيّاح يقول الخليل إنّ “تجّار البناء استغلّوا الأزمة وحاجة الناس إلى السكن، فاشتركوا مع أصحاب الأراضي التي كانت بمعظمها زراعيّة في البناء على أراضيهم، ما قضى على ما تبقّى من الزراعة وحوّل الشياح إلى منطقة سكنيّة مكتظّة”.

اليوم، يحنّ الخليل إلى طعم الخسّ والملفوف القديم، فيقصد ما تبقّى من حقول برج البراجنة لشراء الخضار التي تذكّره بمذاق خيرات الشيّاح في الماضي.

كانت مياه برج البراجنة عذبة، يشرب منها الأطفال بثقة، لكنّها اليوم مالحة بنسبة 12 في المئة، ما يجبر المزارعين على شراء مياه حلوة من أجل ريّ مزروعاتهم

برج البراجنة ذاكرة مياه عذبة

يروي محمّد علي خليل لـ “مناطق نت” ذكريات والده مع الزراعة في برج البراجنة، حين لم يكن هناك شرائط أو حلقات مطّاطة للفّ باقات البقدونس، فكانوا يستعينون بخصل البلح.

كانت مياه برج البراجنة عذبة، يشرب منها الأطفال بثقة، لكنّها اليوم مالحة بنسبة 12 في المئة، ما يجبر المزارعين على شراء مياه حلوة من أجل ريّ مزروعاتهم. يقول خليل: “كنّا نغمر رؤوسنا في البرك لثقتنا بنظافة المياه، أمّا اليوم فهي لا تصلح حتّى للخدمة”.

يوم كان التراب يطعم المدينة

في تحويطة الغدير، يجلس علي سليم السبع (87 عامًا) قرب منزله محاطًا بأصدقائه، يستعيد أيّام سوق “الريفولي” وتجّار كفرشيما الذين كانوا يشترون المزروعات من والده.

يقول السبع لـ “مناطق نت”: “كان مزارعو الجبل يجلبون معهم العنب والتين والفخّار لبيعه في ساحة البرج، ونحن نرسل معهم الخضار إلى الجبل”. ويشير السبع إلى أنّ “حدود تحويطة الغدير كانت أوسع بكثير ممّا هي عليه اليوم، لكن توسيع ‘مطار رفيق الحريري الدولي‘ اقتطع مساحات شاسعة من الأراضي الزراعيّة الخصبة.

يتذكّر السبع غدران المياه التي “كانت تفيض من الأمطار وتوفّر الريّ لكلّ المزروعات، أمّا اليوم فتحوّلت المنطقة إلى مدرّج شرقيّ للمطار”.

ابن برج البراجنة المزارع علي السبع

مع اندلاع الحرب الأهليّة، باع كثيرون من المسيحيّين في برج البراجنة أراضيهم، فاشترى السبع إحداها بعدما تضرّرت مصبغته في رأس النبع، ليبدأ مشروعه الزراعيّ الجديد.

زراعة حديثة بتراب طينيّ

استحدث علي السبع ضمن أرضه، بسطة خضار صغيرة لبيع إنتاجه الزراعيّ بشكل مباشر. يشرف عليها ابنه سالم، الذي تخصّص في هندسة الكهرباء، لكّنه فضّل البقاء في الأرض ومساعدة والده في الزراعة.

يقول سالم لـ “مناطق نت”: “بدأنا الزراعة بأسلوب تقليديّ، ثمّ طوّرناها إلى خيم بلاستيكيّة وأنظمة ريّ بالبخّاخات بدل الريّ اليدويّ”.

اتّجه سالم نحو زراعة الفجل، وانتقل إلى الخيم التي حسّنت المذاق وزادت الطلب. نجح أيضًا في زراعة البقلة التي لاقت إقبالًا من أبرز مطاعم لبنان، “بسبب طعمها المميّز” كما يقول سالم.

يلتقط سالم حفنة من التراب قائلًا: “ما يميّز خضروات البرج هو هذا التراب الذي يحتفظ بمياه المطر ويمنح المزروعات نكهتها الفريدة”.

يعتمد سالم في زراعته على الأسمدة الطبيعيّة وتنوّع مصادر الزبل (السماد العضويّ)، وينوّع الزراعات الموسميّة، فيستغل فصل الشتاء لزراعة السلق والهندباء والفجل والرشاد والقرنبيط وغيرها من المزروعات الشتوية.

سالم السبع يقف أمام بعض ما تبقى من حقول برج البراجنة الزراعية
مئة دونم فقط

بحسب تقدير سالم السبع، فإنّ الأراضي الزراعيّة في برج البراجنة، انخفضت إلى نحو مئة دونم فقط، ولم يبقَ سوى بضع عائلات تمارس الزراعة مثل آل السبع، اسماعيل وحرب.

عن إهتمام وزارة الزراعة والمساعدة في الحفاظ على الزراعة التقليديّة والتراثيّة في الضاحية يقول سالم “وزارة الزراعة دعتنا قبل خمس سنوات إلى اجتماع سمعنا في خلاله وعودًا كثيرة، لكن حتّى اليوم لم نتلقّ أيّ دعم”.

على رغم كلّ الصعوبات، تلمس عائلة السبع إقبالًا من أبناء البلدة ممّن يؤثرون خضار البرج على سواها. وفي هذا الإطار يشير سالم إلى أنّ “بعض الزبائن يأتون من بعيد لشراء خُضرتنا لأنّهم يعرفون جودتها”.

في ختام الحديث، يحزن سالم السبع لتهاون أبناء المنطقة بأراضيهم، مستذكرًا قصّة الأرض المجاورة التي “بيعت خلال الحرب العالميّة الثانية بكيس طحين”. بالنسبة إليه، الزراعة ليست تجارة وحسب، “بل ذاكرة وكفاح وكرامة”، وهو من قلّة ما زالوا متمسّكين بتراب البرج، ويزرعونه بإصرار.

سالم السبع أمام مزروعاته في برج البراجنة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى