بلدة اللوبية الجنوبية تتغنّى بأفرانها لا بزراعة اللوبياء

أردّد كلّ صباح: “اليوم لن آكل مناقيش”. ليس اليوم، وكلّ يوم أفشل. بإمكان رائحة الصعتر (الزعتر) إفشال مخطّطاتي كلّ صباح، إذ يبعد فرن “أبو وديع” عن بيتي أقلّ من 50 مترًا، وبإمكاني أن أشتمّ رائحة مناقيش الزعتر أو “اللحم بعجين” على مدار ساعات الصباح وحتّى الظهر. لا تصلني الرائحة فقط من الفرن، بل من الجيران الذين يعبرون أمامي وأنا أجلس في حديقة بيتي.
يقع الفرن وبيتي في بلدة اللوبية (الزهراني) وتحديدًا في حيّ البيدر، واللوبية تبعد عن بيروت 66 كيلومترًا، وعن صور 22 كيلومترًا وعن صيدا 20 كيلومترًا. ترتفع اللوبية عن سطح البحر تقريبًا 130 مترًا بينما لا تتجاوز مساحتها الـ 2.50 كيلومتر مربّع. تجاورها قرى وبلدات: أنصاريّة والسكسكيّة وعدلون. ومن الغرب يحدّها شاطئ البحر. إنّ أقرب بلدة ساحليّة للوبية هي خيزران. يسكن في حيّ البيدر حوالي 25 عائلة جميعها من آل الأسعد أو الحسين، بينما يتوسّط فرن أبو وديع هذا الحيّ.
اللوبية وعلاقتها باسمها
سألت وبحثت ومحّصت ولم أحصل على إجابات مؤكّدة بشأن تسمية قريتي “اللوبية” بهذا الاسم، لكنني فهمت ألّا علاقة لخضار “اللوبية” وأكلتها بهذه التسمية. ربّما يكون أصل الاسم سريانيّ، وربّما يعني “اللبوة”. في بيروت ومنذ صغري كنت أقابل دائمًا من يشعر بضرورة إلقاء مزاح أو فكاهة: “لوبية بزيت أو بلحمة؟” عندما يسمع اسم ضيعتي، ويظنّ أنّه أوّل من أطلق هذه النكتة وأنّني سأضحك. ضحكت أوّل ثلاث مرّات فقط من أصل مئات المرّات. و”اللوبية” لا تشتهر بزراعة “اللوبية” اللفظة العامّيّة للوبياء، وإن كنّا نزرعها، لكنّها تشتهر بكثرة فرّانيها وأصحاب الأفران.
العمل في الأفران
كمعظم أهل الجنوب، كان توجّه أهل اللوبيّة إلى بيروت بحثًا عن فرص عمل أمرًا بديهيًّا، وبخاصّة أنّ اللوبية بلدة صغيرة والخيارات فيها محدودة. ويبدو أن حظوظ أهلها كانت مركّزة في عالم الأفران، فكان وجود شخص يعمل فرّانًا أو يمتلك فرنًا في بيروت كافٍ ليؤمّن عملًا لكثير من معارفه وأقربائه.
كان المردود المادّيّ من العمل في الأفران كافٍ لفتح بيت أو إبقاء البيت مفتوحًا، ولكن الميزة الأبرز والتي شكّلت عامل جذبٍ للشبّان هي أنّ قبض بدل الأتعاب يتمّ بشكل يوميّ، فكان الشغل في الفرن خيارًا متوافرًا بشكل دائم كعمل حرّ “فري لانس”، مكّنهم من العمل ما يكفي لكسب بعض المال ثمّ الانقطاع عن العمل لصرف ما جمعوه في بيروت التي كانت في عزّها قبل الحرب أو بعدها بقليل، لكنّ ما حدث أنّ معظم العائلات حافظت على إتقان هذه المهنة وعادت بها إلى الجنوب وتحديدًا إلى الخطّ الساحليّ الممتدّ من صيدا إلى خيزران.
من فرن إلى فرن إلى اللوبية
لم يكن فرن أبو وديع وحده فرن المناقيش في اللوبية، إذ فيها أربعة أفران للمناقيش. وأبو وديع واسمه عماد الحسين من مواليد العام 1956، تعلّم المصلحة في أواخر الستينيّات في فرن والده “أبو حسين” في منطقة أبو الأسود الواقعة على الطريق الساحلية بين صيدا وصور، ثمّ انتقل وهو بسنّ الـ 15 إلى بيروت للعمل في فرن في الدكوانة لصاحبه من آل مطر وهو من اللوبية أيضًا، وفي فرن لآل حطيط وحسّون، من البابليّة التي تبعد ثمانية كيلومترات عن اللوبية، في محلّة بشارة الخوري حيث عمل عمّه حسيب الحسين “أبو ناصر” (1928-1990).

بعدها انتقل للعمل في فرن بمنطقة الغبيري وفي فرن بمار مارون في الجمّيزة الذي كان لعبد الحسن خليل “أبو مالك” (1892-1972) من اللوبية شراكة مع آل سبيليني، وبقي الفرن معهم من منتصف الخمسينيّات ولغاية منتصف السبعينيّات، ثمّ باعوه وتركوا بيروت وعادوا إلى جنوب لبنان وفتحوا فرن “قصر البحر” في منطقة خيزران. هكذا، فقد أسّس أبو وديع بدايته مع الجيل الذي سبقه إلى بيروت وإلى عالم الأفران إلى أن امتلك فرن الحطب في حيّ البيدر.
عمل “أبو ناصر” أيضًا في فرن “الشاليش” في الأشرفيّة الذي يعود لآل سبليني من اللوبية. تاريخيًّا كان هذا الفرن للأتراك وعمره يفوق 137 سنة، وما زالت الفتحة التي كانوا يسلّمون من خلالها الخبز إلى الزبائن موجودة، لكنّ الفرن صار “فرن الأشرفيّة” ويملكه منذ 18 سنة طلال حسّون (وهو ابن صاحب الفرن في بشارة الخوري) وكان فتًى عندما كان أبو ناصر فرّانًا، ولم يزل يذكر عنّه أنّه كان “معلّم كعكة عصريّة” ومرحًا ولم يكن يقبل أن يشرب الشاي إلّا إذا حضّره بنفسه.
“أبو ناصر” هو جدّي والد أمّي، أنا أيضًا أذكر علاقته بالشاي، مثلما أذكر رائحة الكعك الذي كان يحضّره عند عودته من الفرن. كنت صغيرة وكنّا نعيش معًا في حارة حريك، ويبدو أنّني ورثت كأمّي عنه (وعن كلّ الفرانين) حبّنا لشرب الشاي.
حال أبو ناصر كحال عديد من شباب اللوبية آنذاك ورجالها قبلهم، نزلوا إلى بيروت وعملوا في أفرانها ومعظمهم امتلك فرنًا فيها وفتح باب رزقٍ أمام كثيرين من أهل اللوبية.
كان المردود المادّيّ من العمل في الأفران كافٍ لفتح بيت أو إبقاء البيت مفتوحًا، ولكن الميزة الأبرز والتي شكّلت عامل جذبٍ للشبّان هي أنّ قبض بدل الأتعاب يتمّ بشكل يوميّ
الفرانون الأوائل والعودة
إنّ أوّل من فتح من أهل اللوبية فرنًا في بيروت كان حسين موسى طالب، صاحب فرن “كرم الزيتون”، بعدها اشتراه منه “أبو صالح” محمد صالح خليل في نهاية الأربعينيّات وعمل معه هناك أولاده علي (1931- 2010) وصالح (1937-2022) لغاية أواخر السبعينيّات مع احتدام الحرب الأهليّة، فعادوا إلى الجنوب وفتحوا فرن الحياة في العاقبيّة ثمّ في صيدا (2001) وأصبح بعدهم لأولادهم.
اشترى إبراهيم عبد خليل “أبو عادل” (1938-1999) فرن “كرم الزيتون” من أولاد أبو صالح ثم بعد 10 سنوات تركوه وغادروا بيروت إلى الجنوب وفتحوا أفران “القلعة الحديثة” مع شريك من آل يونس من اللوبية أيضًا وبعد سنوات انفصلوا وفتحوا أفران “القلعة الجديدة” في منطقة خيزران.
تعتبر أفران “الحياة” و”القلعة” و”قصر البحر” حاليًّا من أهم ثلاثة أفران على الخطّ الساحليّ بين صيدا وخيزران، وعلى الرغم من أنّ جميع أصحابها من اللوبية ومن آل خليل غير ألّا قرابة مباشرة تجمعهم.
كانت حصّة أهل اللوبية من أفران بيروت (بشارة الخوري، الأوزاعي، البدّاوي، رياض الصلح، الأشرفيّة) كبيرة وكانت لآل طعمة وصبرا وأسعد أفران فيها، بالإضافة إلى أفران الملوك والأمراء والياسمين في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، وأيضًا فروع على الخطّ الساحليّ بين صيدا ومنطقة خيزران. ثمّة أفران أخرى تقع على خطّ الساحل جنوبًا وأصحابها من اللوبية، هي: “أفران ملحم” لحسن ملحم الذي عمل في أفران كثيرة قبل أن يذهب إلى العمل في بيروت في التسعينيّات في فرن المصيطبة، وبعيد حرب تموز (يوليو) 2006 ترك بيروت وعاد وفتح فرنًا مع أخيه في أنصار وأخيرًا فتح فرعًا ثانيًا عند مفرق مغدوشة بين الغازية وصيدا، وهناك أفران منصور في صيدا، وله فرع آخر على طريق عام الزهراني.
صعتر وسمّاق ومناقيش
“في اللوبية نزرع الصعتر، نقطفه، نشمّسه، نهزّه ليهرّ وننقّيه ثم نطحنه ونضيف إليه السمّاق المزروع في اللوبية أيضًا، وبعدها السمسم المحمّص ثمّ الزيت، ونحمله إلى أحد أفراننا الأربعة (أنا شخصيًا أحمله لعند أبو وديع حصرًا) ونفرده على العجين (عادة أختار عجينة الجريش وأشرحها بيدي، فيقول لي أبو وديع: إنّني فرّانة بالفطرة)؛ وننقش أقراص العجين وفوقها خلطة الزعتر بأصابعنا ونسلّمها إلى الفران وننتظرها بفارغ الصبر. أمّا خبزنا وكعكنا فنشتريه مباشرة من أحد الأفران المنتشرة على طول خطّ الساحل أو من دكاكين الضيعة التي تصلها طازجة من تلك الأفران يوميًّا.
كلّ ليلة، قبيل الفجر نسمع أصوات محرّكات السيّارات والفانات، فنعرف أنّ الفرّانين يغادرون إلى أفرانهم لإعداد خبزنا. ونراهم ظهرًا يعودون فنعرف أنّ غداءً ما يحبّونه في انتظارهم، ويليه نوم ثمّ استيقاظ وسهرة قصيرة قبل نوم مبكر لاستيقاظ جديد قبيل فجر جديد.