بلدتي شمسطار.. حكاية الحرب والنزوح والمجازر
إنّها السادسة من صباح الـ 23 من أيلول (سبتمبر) 2024، وجه الصباح في أوّل نوره والناس نيام، قلّة منهم من يحضّر نفسه للذهاب إلى العمل، دَوِيّ انفجارٍ كبيرٍ يُسمع في الأرجاء، يتلوه في ثوانٍ صوتٌ ثانٍ وثالث ورابع. ينهض الجميع مذهولين، يخرجون إلى الطرقات بعيونٍ تفتّش عن مكان الأصوات، فتظهر أعمدة الدخان في سماء الجرد القريب حدّ الخطر من الأحياء والبيوت.
يدرك الجميع أنّ الحرب بدأت، وأنّ ما يُسمع ويُرعب هو بداية القصف والتدمير. لحظات متسارعة مترافقة مع الوجل والإرباك والقلق، ثمّ راحت الطائرات الاسرائيليّة تلقي بصواريخها الجهنّميّة على سلسلةٍ جرديّةٍ تمتدّ على طول أحراج غربيّ بعلبك، من شمسطار إلى اليمّونة كوجبةٍ أولى، قبل إلقاء حمم النار الطائرة على المباني والآمنين.
ساعة الرحيل
كان اليوم الأوّل من الحرب على البقاع “مطَمْئنًا” بعض الشيء، فالأهداف جرديّة والغارات محدودة، وعليه لا داعي للاسترسال بالقلق والخوف. “تمرجل” الأهالي وتشجّعوا للبقاء في منازلهم، لكنّ الأيدي على القلوب من تطوّرٍ سريعٍ يطيح بالشعور في الأمان. يحصل في اليوم التالي ما تمنّاه الناس ألّا يأتي، فهذه المرّة ثمّة صواريخ تسقط على المنازل، تنهمر كالمطر على الجوار والمنطقة بأكملها. عندها اتُّخذ القرار بالرحيل الطوعيّ وإن كان قسريًّا.
الجميع يلملمون حقائب “السفر” في وقتٍ لا يدركه صوت الرعب الآتي من السماء، جمعوا ما استطاعوا من أشياء وارتحلوا إلى حيث الأمان التائه في خيالات الناس، الهائمين على وجوههم غير مدركين إلى أين المفرّ.
يدرك الجميع أنّ الحرب بدأت، وأنّ ما يُسمع ويُرعب هو بداية القصف والتدمير. لحظات متسارعة مترافقة مع الوجل والإرباك والقلق، ثمّ راحت الطائرات الاسرائيليّة تلقي بصواريخها الجهنّميّة
رحل الجميع إلّا قلّة قليلة ممّن أرادوا الصمود متوكّلين على قضاء الله الذي “لا أحد سواه يُنهي الأجل”. لقد فرغت البلدة من ضجيج سيّاراتها وأصوات أبنائها وأحاديثهم، وأغاني أطفالها وحكاياتهم، وحده صوت الآذان بقيَ يصدح عند كلّ صلاةٍ وفي دعاء الداعين.
الأماكن الجديدة
أبناء شمسطار، وبقضاءٍ لم يكتبوه، ينتشرون على مساحات الوطن ليملأوا المناطق التي شرّعت لهم أبواب منازلها ومدارسها وكنائسها حاملين معهم أمل النجاة من موتٍ هربوا منه، وأحلام العودة وهم على قيد الحياة.
أماكنهم الجديدة حيث وقعُ الحياة مختلفٌ، نزوح مُرّ مع كل ما يرافقه من شظف عيش ومعاناة. وعلى الرغم من سعة الأماكن التي ارتحلوا إليها، من تأمين مستلزمات العيش فيها، إلّا أنّها بقيَت غريبةً على ساكنيها كغربتهم عن ديارهم التي غادروها على وقع الدموع ونزف المآقي.
هم يأنفون التهجير وتَرْك المكان الذي على أرضه وُلِدوا وإلى ترابه يعودون. هكذا علّمتهم الأرض وخيراتها فتمسّكوا بها حدّ التماهي مع جغرافيا النفس والهويّة العصيّة على الانتزاع.
قلوب على الصامدين
ترك أبناء شمسطار بلدتهم وقلوبهم متعلّقة بمن بقيَ منهم، يتوجّسون الخطر عليهم ولو استطاعوا لحموْهم بكلّ ما أوتيوا من قوّة الدفاع. عيونهم شاخصة إلى الشاشات، متسمّرة ليل نهار. آذانهم مستنفَرة على الدوام، حتّى إذا ما رنّت خدْمات الهواتف، فتحوها بقلوبٍ واجفةٍ، مخافة سماعهم خبر صاروخٍ دمّر منزلًا هنا، أو قتل أحدًا من أبنائهم هناك. لم يشفع لهم هدوء المكان الذي هم فيه ليطمئن بالهم المفتوح دومًا على الخوف من سماع ما لا يرغبون.
إنّه الانتماء المتحرّك في كينونتهم أنّى أضحى مكانهم، وكيفما كان زمانهم، يخفق قلوبهم ساعة الخطر ويُقلق نفوسهم إذا ما استشعروا على إخوانهم سوءًا.
الأخبار المؤلمة
هكذا وقع المحظور وأتى ما كان يُقلقهم؛ قصفٌ لمنزلٍ مدنيّ يضمّ خمسة أفرادٍ بينهم نساء، سقط على رؤوس من كان فيه وحوّلهم إلى جثامين مطحونةٍ في ثوانٍ. أفجع الخبر قلوب النازحين من شمسطار وهزّ كيانهم. إنّها آلة القتل الاسرائيليّة بدأت تستهدف أبناء بلدتهم! صار الخوف ملازمًا لهم، والقلوب مشدودة نحو ديارها.
افتتح القتل جريمته الأولى، وبات الآتي همًّا ثقيلًا على من تركوا إخوتهم وجيرانهم وأحبّتهم قسرًا في بلدةٍ سجّل العدوّ فيها أولى مجازره التي كانت بداية لمجازر متلاحقة على امتداد أيّام الحرب. وكرّت سُبحة القصف. استهداف آخر يطال هنغارًا وسط البلدة يودي بحياة سوريّيْن (أب وابنه)، لتَليه في يومٍ آخر صواريخ معادية ذات قوّةٍ تدميريّةٍ هائلةٍ تسقط على محالّ صناعيّةٍ فيَحول القضاء دون خسائر بشريّة.
لم تكتفِ طائرات الموت الإسرائيليّة بما قامت به من غارات قتل ودمار، بل عمدت في ليلةٍ سوداء أخرى، إلى استهداف منزلٍ بداخله ثلاثّة من شبّان البلدة وحوّلتهم إلى أشلاء، وأكملت بغارةٍ في يومٍ آخر فدمّرت منزلًا من ثلاث طبقاتٍ قضى بداخله شابٌ آخر.
هكذا وقع المحظور وأتى ما كان يُقلقهم؛ قصفٌ لمنزلٍ مدنيّ يضمّ خمسة أفرادٍ بينهم نساء، سقط على رؤوس من كان فيه وحوّلهم إلى جثامين مطحونةٍ في ثوانٍ
يستمرّ مسلسل الغارات الإسرائيليّة المتلاحقة، لتستهدف طائرات الغدر منزلًا آخر في البلدة مرتكبةً مجزرةً بحقّ أربعةٍ من شبّانها، ليرتفع بذلك عدّاد القتل الآثم، وتزداد معه الفواجع والمآسي التي كسرت ظهورًا وأدْمت قلوبًا حتّى الصميم.
المذبحة الكبرى
تأبى الحرب أن تغادر بلدتي شمسطار إلّا لتزرع في أرجائها مزيدًا من الدمار والموت، وهذا ما حصل قبل وقف إطلاق النار بأيّامٍ قليلةٍ حيث ختمها العدوّ الاسرائيليّ بمذبحةٍ مروّعةٍ، اقشعرّت لها الأبدان ذهب ضحيّتها 18 فردًا من عائلة آل حيدر أحمد بينهم أطفال ونساء، تناثرت أشلاؤهم في المكان الذي امتزج بالدماء واللحم البشريّ البريء، حيث تحوّل المنزل المكوّن من ثلاث طبقات مع ساكنيه إلى أجزاء وحطامٍ بفعل صاروخٍ غادرٍ لا يرحم.
مواساة دماء شمسطار
لشمسطار سجلّ زاخر بالتضحية والعطاء وتقديم الأنفس والأرواح فداءً للحرّيّة والكرامة وللوطن. ولها في ذمّة التاريخ ألف حكايةٍ وحكايةٍ، في البذل والمقاومة والكفاح منذ العهد العثمانيّ مرورًا بكلّ الأحداث التي عصفت بلبنان وتطلّبت وقفةً حرّةً في الساحات والجبهات، فكانت حيث كان الواجب الوطنيّ.
اليوم واست شمسطار الأبيّة الدماء التي أريقت على امتداد جغرافيا الوطن، وشاركت الضحايا محنتهم وآلامهم بتقديمها 25 فردًا من أبنائها المدنيّين ونحو 30 شابًّا من مقاوميها ممّن سقطوا بين جنباتها وعلى الجبهة الجنوبيّة في مواجهة العدو. في حين لا يزال مصير عددٍ من شبّانها مجهولًا، على أمل أن يعودوا إلى بلدتهم سالمين ويُثلجوا قلوب ذويهم وقلوب اخوتهم “الشمسطاريّين” الذين أثقلهم الفقد والفراق وحفر الحزن عميقًا في نفوسهم وفي التاريخ.