بيت عبد الغني الرفاعيّ في بعلبك معلم تراثي يأكله الإهمال

لا يمثّل بيت عبد الغني الرفاعيّ التراثيّ، والكائن في ساحة جمال عبد الناصر جزءًا من تراث بعلبك الغنيّ فحسب، بل أيضًا وجهًا من وجوه التهميش الذي لحق بالمدينة وطال كلّ شيء فيها، وبخاصة تراثها المهمل والمهمّ في الوقت نفسه. بيت الرفاعيّ لا يزال صامدًا بعد أن كُتبت له النجاة، ويُحاكي معالم تراثيّة كثيرة في بعلبك لم يتح لها الصمود، فجرفها الإهمال والجشع والفوضى والحروب ولم يبقَ منها شيئًا.

أن تلج باب بيت عبد الغني الرفاعيّ الضخم، لا بدّ من أن يُعيدك ذلك إلى السلاطين الأتراك، ممّن شاهدنا قصصهم في المسلسلات والأفلام السينمائيّة التي تناولت حقبةً تاريخيّةً قديمة مرّت على بلادنا. يملك الآن قسمًا من البيت حفيد علي توفيق الرفاعيّ الذي يحمل اسم جدّه، مع أنّه لا يمتُ بقرابة إلى عبد الغني الرفاعيّ باني البيت وصاحب لقب البيك (بك).

يقول الرفاعيّ الحفيد في حديثٍ لـ “مناطق نت”: “إنّ عبد الغني بك الرفاعيّ الذي كان صاحب نفوذ في جميع أرجاء المدينة، شيَّد البيت في العام 1905 أو العام 1323 هجري، إبّان فترة الحكم العثمانيّ وعلى يد مهندسين إيطاليّين. وهو التاريخ الذي نُقِش عند بوّابته التي كانت مزخرفة بالنجوم مع إكليلٍ من القرميد الأحمر على السطح”.

مدخل منزل عبد الغني الرفاعي
“بيت الرفاعيّ” ذاكرة الزمن

بمجرّد الدخول إلى البيت، يلفت نظرك طابق سفليّ مصمّم بعناية ليضمّ غرف المؤونة والمطابخ وجناح الخدم المعروف بـ “الخدملك”. وهو يتّصل بالطابق العلويّ عبر درجٍ خشبيٍّ أنيق، يقود إلى شرفةٍ داخليّةٍ تضفي على المكان لمسةً دافئة. في الماضي، احتوى البيت على مدخنةً واحدة تُعرف بـ”الموقدة” كانت مخصّصة للطبخ، قبل أن تتحوّل لاحقًا إلى مدفأة. أمّا الطابق العلويّ، فيتضمّن بهوًا رحبًا يُعرف اليوم بالصالون، وتحيط به غُرف النوم وغرفة الطعام.

ويضمّ المنزل نحو 15 غرفة بالإضافة إلى غرفتيّ استقبال، بمساحة بلغت نحو 60 مترًا مربّعًا لكلّ غرفة. ويتميّز بأسقفٍ ترتفع ستّة أمتار تحمل لوحاتٍ كثيرة، مثل رسومٍ لأسوار اسطنبول تتوسّط أسقف البهو الرئيس، وتتدلّى منها ثريّاتٍ ضخمة تعكس فخامة المكان، بينما تتزيّن الجدران بكتاباتٍ قرآنيّة تتناغم مع الأثاث الشرقيّ الأنيق.

وعلى جري تلك الأيام، كانت اسطبلات الخيل تحوط الدار، وتشغلها محال تجاريّة حديثة اليوم، لتبقى شاهدة على حكايات لا تزال تسكن في زواياه.

يضمّ المنزل نحو 15 غرفة بالإضافة إلى غرفتيّ استقبال، بمساحة بلغت نحو 60 مترًا مربّعًا لكلّ غرفة. ويتميّز بأسقفٍ ترتفع ستّة أمتار تحمل لوحاتٍ كثيرة

حكاية عبد الغني الرفاعيّ

يروي غيث الرفاعيّ حفيد شقيق عبد الغني بك وأحد ورثة البيت قصّة صاحبه، إذ كان أحد أقطاب الإقطاع. وكان آنذاك آل رعد والرفاعيّ ومرتضى وغيرهم، من أكبر العائلات عددًا في المدينة ما عكس سلطتهم على العائلات الأُخرى.

ويتابع غيث الرفاعيّ لـ “مناطق نت”: “خلال الحقبة العثمانيّة، كان لقب “بك” يُمنح لأصحاب المراكز في الجيش والسلطة، ثمّ توسّع لاحقًا ليشمل أصحاب النفوذ والأملاك. وكان عبد الغني من الشخصيّات النافذة في بلاد الشام، إذ امتدّت سطوته من لبنان وسوريّا إلى الأردنّ والعراق، حيث تابع دراسته. وكان أيضًا من أبرز المُلّاك في بعلبك، ممّا خوّله كل ذلك الحصول على لقب البكويّة من السلطان العثمانيّ عبد الحميد الذي عَرض عليه تولّي منصب والي العراق، لكنّه رفض وفضّل البقاء في البلد بسبب تعلّقه الشديد بابنه الوحيد أديب”.

وورد في أحد الكتب التي تناولت حياة رجال الإقطاع خلال الحكم العثمانيّ في لبنان، أنّ عبد الغني بك الرفاعيّ كان قطبًا روحيًّا وسياسيًّا في بلاد الشام، فاستضاف في داره عددًا من الشخصيّات البارزة مثل الملك فيصل ابن الشريف حسين، سلطان باشا الأطرش، هاشم بك الأتاسيّ، وطالب باشا الرفاعيّ الذي كان مرشّحًا لاعتلاء عرش العراق في حينه. كذلك ضمّت قائمة ضيوفه، خالد بابا رئيس وزراء الأردن، ورضا باشا الركابيّ القائد العسكريّ في دمشق الذي أصبح لاحقًا رئيسًا للوزراء، المفوّض الساميّ الفرنسيّ في لبنان وسوريا، والشيخ بشارة الخوري وسليم بك تقلا محافظ البقاع آنذاك.

وفي العام 1916، حُكم على عبد الغني بك بالإعدام خلال فترة حكم الوالي العثمانيّ جمال باشا المُلقّب ب ـ”السفّاح” الذي نفّذ أحكام إعدام بحقّ عديد من الشخصيّات البارزة في لبنان وسوريا. إلّا أنّه تمكّن من الحصول على عفوٍ خاص والخروج من السجن، وواصل حياته حتّى وافته المنيّة في العام 1926.

“بيت الرفاعيّ” بعين الاهمال

كان بيت عبد الغني بك عند بنائه، يتألّف من قسمين متساويين ومتشابهين كأنّهما الشيء ومرآته. وبعد وفاته ورث أبناء شقيقه القسم الأوّل منه، لأنّ أبناءه رحلوا في سنٍّ مبكرة. أما القسم الثاني فاشتراه علي توفيق الرفاعيّ الذي لا تجمعه قرابة بعبد الغني في العام 1940.

عند التجوال في البيت الجامع بين الأصالة والتراث، يُلاحظ اهمال القسم الأوّل بشكلٍ كبير، ويُحتمل أن يعود السبب إلى الكلف الباهظة التي تتطلّبها العناية الدائمة والمستمرّة لأيّ بيتٍ تراثيّ. ويتألف القسم الثاني من طابقين، إذ سكنته قديمًا كلّ عائلة في طابقٍ منفصل. وجرى الحفاظ بشكلٍ خاص على تصميم البهو وأثاثه، ما يجعله يبدو للناظر إليه تحفة فنّيّة نادرة.

يتفقّد الحفيد علي توفيق الرفاعيّ الطابق العلويّ بشكلٍ مستمرّ، حرصًا منه عليه بسبب ارتباطه العاطفيّ بهذا المنزل، وذكرياته العائليّة التي تحتضنها جدرانه. يرمّم البيت بشكلٍ دائم على نفقته الخاصّة، ولم تقدّم له المديريّة العامّة للآثار في وزارة الثقافة التي أدرجت البيت على لائحة الجرد العام سوى مساهمة بسيطة جدًّا في العام 1996، تمثّلت في ترميم القرميد ودعمه من الخارج، مع الحفاظ على المعالم الرئيسة من دون أيّ تغييرات ملحوظة.

ينصّ القانون على أنّ الدولة مسؤولة عن تنفيذ أعمال الترميم بشكلٍ كاملٍ ودائم، وعن مراقبة محاولات سكّان البيوت التراثيّة تغيير هويّتها الهندسيّة، سواء عبر هدم الجدران أو تعديل هيكلها، وتحميلهم المسؤوليّة الجزائيّة في حال وقوع أيّ مخالفة لذلك. لكن في الواقع، تعرّض قرميد البيت لأضرارٍ طفيفة بسبب الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على لبنان، واضطرّ الرفاعيّ إلى إصلاحه على حسابه الشخصيّ كما اعتاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى