“تسليع” الحجاب في الـ ABC.. وكلٌ “يقونن” على ليلاه
بالرغم من أن “الجسم اللبناني” لديه خاصية مميزة في طريقة هضمه للأحداث ولفظها بسرعة، إلا أن حادثة الـ ABC (وبالرغم من أنها ليست الأولى ولن تكون الأخيرة)، فإنها تستحق التوقف عندها لما لها من دلالات وما استدعته من ردود فعل وجدل لن يتوقف مع ابتعاد الواقعة وركونها طي الأحداث.
الجدل حول حادثة منع الفتاة المحجبة من العمل في مجمع الـ ABC ومسألة الحجاب تحديداً ليس وليد اللحظة، بل عمره مئات السنين، ومنذ ذلك الوقت البعض يعتبره فرضًا والآخر مجرد رمز يمكن التخلص منه. لكن هناك قسم كبير- بل غالبية عظمى- تسلم بالزامية الحجاب وضرورة ارتدائه من جميع النساء. لذا فنحن لا نستطيع أن نتعامل مع الحجاب كأنه وشم ديني مثلًا، أو مسبحة أو رداء معين.
لكن في الوقت نفسه، انتقاد الحجاب بصفته أنه يحد من نشاط المرأة أو يقمع حريتها هو انتقاد مشروع. إلا أن انتقاده والحرب عليه كفكرة، والذي يندرج حكماً تحت عنوان حرية الرأي والتعبير، يختلف كليًا عن الحرب ضد المحجبات. إذ أن منع المحجبة من ممارسة وظيفة ما، أو الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة لن يجعل العائلة المسلمة تخلع الحجاب، بل سيقود إلى رد فعل عكسي يقضي بالتمسك بالحجاب كمعتقد ديني مقدس على حساب العمل أو التعليم، وسيجعل النساء المحجبات سجينات منازلهن ومنعزلات عن المجتمع، وهذا يتناقض تمامًا مع الهدف المرجو من المنع؛ ألا وهو تحرير المرأة.
قوانين المؤسسات.. على هواها
أما عن حق المؤسسة (كونها مؤسسة خاصة)، بسن القوانين التي تحلو لها، فهذا أيضا فيه شيئ من الغرابة. إذ أن على المؤسسات احترام قانون العمل والتشريعات والدستور، وهي جميعها تحترم حق المعتقد من جهة وحق الجميع في الحصول على عمل من جهة أخرى. الملفت أيضاً أن الموظفة ليست تابعة مباشرة للمجمع، بل تعمل في مؤسسة قامت باستئجار مساحة معينة لعرض بضائعها. ما يعني أن إدارة الـ ABC تمنع التعامل مع المحجبة بكلتا الحالتين. لكن المفارقة في الشعائر الدينية التي يزعم المجمع أنه يحجبها، فإنها لا تشمل إغلاقه باكرًا أثناء عيد الميلاد، أو الاقفال الكلي يوم عيد الفصح. وهنا السؤال الذي يُطرح بداهة، لماذا لا يعتمد المجمع المعايير نفسها؟
بالرغم من التناقضات الكثيرة التي يقع بها المدافعون عن القرار، فإننا نجد شريحة أخرى من المدافعين عن الحجاب تقع في مغالطات متشابهة. إذ برزت شريحة كبيرة من الرجال تتحدث عن الحرب على الاسلام والهجمة المتعمدة لافساد أخلاق بناتنا. ولكن العديد من هؤلاء الرجال يلتزمون الصمت عندما يتعلق الأمر بجرائم قتل النساء وقرارات المحاكم الشرعية والجعفرية بحرمان النساء من أطفالهن، أو عندما تُضرب هذه النساء وتجبر على الحجاب، أو الزواج وهن قاصرات، أو غيرها من الأمور الجائرة التي تتعرض لها النساء يومياً.
كثيرون يلتزمون الصمت عندما يتعلق الأمر بجرائم قتل النساء وقرارات المحاكم الشرعية والجعفرية بحرمان النساء من أطفالهن، أو عندما تُضرب هذه النساء وتجبر على الحجاب، أو الزواج وهن قاصرات، أو غيرها من الأمور الجائرة التي تتعرض لها النساء يومياً
وكأن الحق الوحيد للنساء هو أن تغطي نفسها فقط. لا أحد يتحدث عن سياسة تلفزيون “المنار” في عدم توظيف مراسلات غير محجبات، أو عن المعلمات في “مدارس المصطفى” الذين يُجبرون على الحجاب داخل المدرسة وخارجها أو يُطردن من وظيفتهن، فضلًا عن إجبار البنات على ارتداء الحجاب وهنّ في صف الرابع، أي في عمر 10 سنوات فقط، أو عن مستشفى الرسول الأعظم التي لا توظف غير المحجبات. هؤلاء يأخذن حجة “المؤسسة الخاصة” نفسها لتبرير هكذا قرارات إنما يعترضون على عكسها، ليرونا أن المشكلة لا تتعلق بحق المرأة، بل برغبتهم الشديدة في جعلها محجبة. فتأتي هذه النفحة النسوية فقط عندما يتعلق الأمر بمحجبة لم يسمح لها في العمل أو الدخول الى مطعم أو منتجع – وهما بالفعل أمران مستفزان- إلا أن هذه النفحة تختفي عند أي مفترق آخر.
أين صوت المرأة؟
لكن ما غاب على الطرفين، إن كانا مع أم ضد، هو سؤال النساء ماذا يردن فعلا؟. فالكثير ممن يدعون الدفاع عن حقوق النساء بلبس الحجاب لاتمام واجباتهن الدينية، أو عن وجوب خلع الحجاب كونه ينتقص من حريتها ويستعبدها، لا يتحدثن إلى اللواتي يتكلمون بالنيابة عنها. ففي العديد من الحالات تكون النساء مجبرات على الحجاب، وبالتالي هكذا قوانين تقف في وجه تحقيقها لذاتها ولمحاولة تأمين نفسها من أجل العبور نحو الحرية، فتصبح أسيرة قوانين تواطأت مع من أجبرها على الحجاب سجنتها في منزلها.
في المقابل، هناك العديد من النساء يجدن في الحجاب جزءاً أساسياً من الالتزام الديني والمعتقدي. هؤلاء النساء لم يظلمهن أحد، بل اخترن هذا الطريق بكامل إرادتهن، ولعل من دواعي الغرابة العمل على قمع حقهن في العمل بسبب خيار لجأن اليه بكامل رغبتهن، لأن في ذلك ظلماً واستعباد آخر لحق بهنّ. استطراداً المرأة تقف على طرفي نقيض فيما يخصها وكلاهما يصبان في الخانة نفسها. الأول يعتبرها عورة ناقصة عقل تحتاج وصيًا يقرر عنها، والثاني يعتبرها غبية لا تستطيع أن تميز أن الحجاب يقمعها؟ وفي الحالتين تغيب الدعوة للمساواة والحرية وتُعتبر تلك المعادلة شكلًا من أشكال الذكورية، تتعارض بالشكل إنما تتشابه في المضمون مع من يحاول إلغاء صوت المرأة وسلب قرارها؟
المرأة تقف على طرفي نقيض فيما يخصها وكلاهما يصبان في الخانة نفسها. الأول يعتبرها عورة ناقصة عقل تحتاج وصيًا يقرر عنها، والثاني يعتبرها غبية لا تستطيع أن تميز أن الحجاب يقمعها؟
ردود الفعل على قرار مجمع الـ ABC بشأن حادثة الفتاة المحجبة والذي تطور إلى اعتصام أمام المجمع، لم يتطرق أو يأبه للممارسات غير الإنسانية التي تقوم به إدارة المجمع والتي تفوق حادثة الفتاة المحجبة بأشواط، ومنها طرد حوالي ٥٠٠ عامل وعاملة دون أي سابق إنذار، وذلك خلال فترة الاغلاق أثناء جائحة كورونا. ليعود المجمع بعد فتح أبوابه، إعادة بعضهم بشروط منها حسم تعويض الثلاث أشهر الذين فُصلوا أثناءها عن العمل.
الـ ABC تاريخ حافل بالانتهاكات
تاريخ مجمع الـ ABC حافل بالانتهاكات الحقوقية والانسانية، ولن يتوقف عند حادثة الفتاة المحجبة. وهذه الانتهاكات هي عبارة عن شهادات أدلى بها بعض العاملين في المجمع وأمام الإعلام. قرارات الإدارة تمنع الموظفين من الاستراحة لأكثر من بضعة دقائق في مناوبات عمل تصل إلى ثماني ساعات وقوفاً طوال الوقت. أيضاً تمنع الموظفين من الذهاب إلى المرحاض حتى تأمين من يقف مكانهم، وهذا الأمر ينطبق على النساء خلال دورتهن الشهرية، إذ عليهن تأمين البديل لتستطعن الذهاب إلى المرحاض. ممارسات الإدارة لا تتوقف عند ذلك فقط، بل بادرت في بعض الحالات إلى فصل النساء من عملهن بعد الولادة وهذا مخالف للقانون الذي يمنح المرأة فترة أمومة. أيضاً لا تمنح عطلة مرضية للنساء اللواتي تعرّضن للإجهاض والقائمة تطول.
حادثة الفتاة المحجبة في مجمع الـ ABC هي نقطة في بحر انتهاكات أخرى تمتد على مساحة الوطن ولا أحد يكترث لها. وهي بالتأكيد أكثر فجاجة من تلك التي تعرضت لها الفتاة المحجبة. الملفت أن الجدال الذي يشتعل دائماً حول قضايا النساء وحقوقهنّ لا يصل إلى نتيجة، فيبقى معلقاً ومؤجلاً إلى حدث آخر ليعود ويشتعل من جديد. ومعه يعود الجدل ذاته حول حق المرأة في كذا وفي كذا، لكن الغائب الدائم هو رأي المرأة وحقها في تقرير ما يتصل بها ويخصها.