تلامذة الجنوب النازحون.. ضياع ومعاناة وتخبّط رسمي

لن تفتح أكثر من 45 مدرسة رسميّة تضمّ آلاف الطلّاب وتقع ضمن ما اصطلح على تسميته قرى وبلدات الحافّة الأماميّة وتمتدّ من الناقورة غربًا إلى شبعا شرقًا، أبوابها أمام طلّابها هذا العام، لأنّها بلدات تتعرّض بشكل شبه يوميّ للقصف والغارات الإسرائيليّة منذ 11 شهرًا كاملة، ممّا يعني أنّه سيتكرّر مشهد إقفال المدارس فيها للعام الثاني على التوالي، بعدما ضاع على عدد كبير من طلّابها عامهم الدراسيّ الماضي بسبب النزوح والمعاناة.

يضغط هذا الواقع بثقله على النازحين سواء أولئك الذين هجّروا قسرًا إلى قرى وبلدات خلفيّة، أو ممّن لا يزالون في قراهم وهم قلّة، إذ لا شيء يوازي حجم المعاناة التي يواجهها النازحون مع انطلاق العام الدراسيّ الجديد، في وقت لم ترقَ فيه أيّ قرارات أو إجراءات إلى مستوى التحدّيات التي يواجهها النازحون، خصوصًا وأنّ المعاناة أضحت ماثلة في جميع تفاصيل حياتهم اليوميّة، ولا تقتصر على تعليم أبنائهم فقط، في ظلّ غياب الاستقرار والأمان ومختلف الاحتياجات التي فقدوها.

لا نبالغ إن قلنا إنّ جزءًا كبيرًا من هؤلاء لم يعد بإمكانهم تأمين احتياجاتهم الأساسيّة من طعام وماء ومسكن، وهم متروكون اليوم لمواجهة تحدٍّ جديد متمثّل بتأمين أولادهم في المدارس، وسط حال من تخبّط تربويّ وخطّة لا ترقى إلى مستوى الأزمة.

حيال ذلك، جالت “مناطق نت” على بعض المدارس، لا سيّما في أماكن النزوح، ورصدت حجم المعاناة التي يعيشها الطلّاب وذووهم، والتحدّيات التي تواجههم.

لن تفتح أكثر من 45 مدرسة رسميّة تضمّ آلاف الطلّاب وتقع ضمن ما اصطلح على تسميته قرى وبلدات الحافّة الأماميّة وتمتدّ من الناقورة غربًا إلى شبعا شرقًا، أبوابها أمام طلّابها هذا العام

نزوح إلى المدارس الرسمية

بداية، لا بدّ من الإشارة إلى قرار صدر عن وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال عباس الحلبي قبل أيّام يحمل الرقم 702/م/2014، حول انطلاق العام الدراسيّ وبدء الأعمال التحضيريّة في المدارس والثانويّات الرسميّة وتنظيم انتساب التلاميذ وتسجيلهم للعام (2024-2025)، فتقرّر بدء السنة الدراسيّة في المدارس والثانويّات الرسميّة صباح يوم الثلاثاء في الـ17 من الشهر الجاري، ليبدأ التدريس يوم الاثنين في الـ 30 منه لمختلف المراحل.

تزامن هذا القرار مع حركة نزوح كبيرة من المدارس الخاصّة إلى المدارس الرسميّة، والسبب زيادة الاقساط التي أصبحت حديث الساعة في ظلّ ظروف معيشيّة قاسية فرضت على اللبنانيّين البحث عن خيارات أقلّ كلفة. هذا المشهد يزداد سوءًا مع إغلاق أكثر من 45 مدرسة رسمية في المناطق التي تتعرّض للعدوان الاسرائيليّ بعدما نزح أهلها إلى مناطق أقلّ خطورة وهم أيضًا بغالبيّتهم يبحثون عن مطارح لأولادهم في المدارس الرسميّة بعد أن أصبح التعليم في المدارس الخاصّة لمن استطاع إليه سبيلًا.

الطامّة الكبرى تظلّ حاضرة في القدرة الاستيعابيّة للمدارس الرسميّة ومداها، فهل سيجد كلّ هؤلاء أماكن لهم تمكنّهم من متابعة الدراسة؟ وهل سيتعاون معهم مدراء المدارس الرسميّة أم سيواجهون تمييزًا جديدًا في مجال التعليم وضرب كلّ التوصيات والتشريعات المتعلّقة بالموضوع بعرض الحائط؟

ضياع ومعاناة

في هذا السياق، يقول حسن رضا من بلدة عيتا الشعب (قضاء بنت جبيل) النازح إلى دير قانون النهر (صور) في حديث لـ “مناطق نت”: “في البلدة التي نزحت إليها توجد 64 عائلة من عيتا الشعب وحوالي 75 تلميذًا في المرحلتين التأسيسيّة والمتوسّطة، ثمّة حاجة إلى مقاعد دراسيّة والالتحاق حضوريًّا في المدرسة الرسميّة، هذا إذا ما احتسبنا أولادنا في المرحله الثانوية، ممّا سيرفع العدد إلى 110 تلامذة”.

أضرار في أحد الصفوف في مدرسة عيتا الشعب الرسمية

يتابع: “لدي أربعة أبناء لم أسجلهم بعد، وكانوا قد التحقوا العام الماضي مدة ثلاثه أشهر في مدرسة دير قانون النهر الرسميّة وعاودوا الالتحاق بمدرستهم الأصليّة عبر الـ (أون لاين)، وهذا ما سبب لهم حال ضياع وتشرذم خلال عامهم الدراسيّ، وكي أسجّلهم العام الحالي توجّهت إلى المدرسة القريبة من سكن النزوح بناء على توصيات وزير التربية، لكن فوجئت بطلب مديرة المدرسة الرسمية أن أسجّلهم كتلامذة أصيلين، وأن أدفع الرسوم، وهذا ما يتعارض مع توصيات اللقاء التشاوري حول تحدّيات انطلاق العام الدراسي”.

تخبّط وغطرسة

التخبّط هو الوصف الذي يمكن إطلاقه على مشهد التحضير للعام الدراسيّ، إذ إنّ الوزير عبّاس الحلبي كان قد أوصى بإعفاء تلامذة المناطق الحدوديّة من دفع رسوم التسجيل في المدارس والثانويّات والمعاهد الرسميّة وترك الخيار للطالب بين التعلّم عن بعد في حال الطلّاب الصامدين أو الالتحاق حضوريًّا في مكان النزوح في حال الطلّاب النازحين، بينما الواقع على الأرض شيء آخر.

عّما سيقرّره بخصوص أبنائه يقول رضا: “سأنتظر إلى ما بعد 17 أيلول (سبتمبر) كي أبادر إلى تسجيلهم، أيّ بعد انتهاء تسجيل التلامذة القدامى، ولست أدري إذا كان الانتظار إلى هذا التاريخ سيبقي لأولادي مقاعد في الصفوف أم أنهّم سيخسرون عامهم الدراسي؟ ولا نعلم كذلك كيف ستنتهي بنا الحال مع التخبّط الذي تعيشه المدارس الرسميّة والغطرسة الممارسة من بعض المديرين علينا”.

دفع الرسوم

ما تحدّث عن رضا لا يختلف كثيرًا عمّا يذكره كثر يتابعون العام الدراسيّ. هذا ما أكّدته مديرة إحدى الثانويّات في قضاء صور (آثرت عدم ذكر اسمها) لـ “مناطق نت” من أنّها ستباشر “بتسجيل التلامذة القدامى، أيّ الأصيلين، ومن يودّ الالتحاق بالثانويّة من النازحين عليه أن يقوم بالتسجيل مباشرة في المدرسة ودفع الرسوم وإحضار أوراقه الرسميّة كاملة، سواء كان نازحًا أم مقيًما”. وتستند في قرارها إلى أنّ الوزير لم يصدر حتّى اليوم قرارًا رسميًّا يقضي بإعفاء التلامذة النازحين من المساهمة المدرسيّة.

التخبّط هو الوصف الذي يمكن إطلاقه على مشهد التحضير للعام الدراسيّ، إذ إنّ الوزير عبّاس الحلبي كان قد أوصى بإعفاء تلامذة المناطق الحدوديّة من دفع رسوم التسجيل في المدارس والثانويّات والمعاهد الرسميّة، بينما الواقع على الأرض شيء آخر

التعليم حقّ لكلّ مواطن

على هامش الرسم أو ما سمّي بمساهمة الأهل، يحضر السؤال الآتي: هل استباح وزير التربية حقّ الوصول إلى التعليم ومجّانيّته؟ وهل من مساهمة إلزاميّة؟

وفقًا للقانون 680 العام 2024 فرض وزير التربية عبّاس الحلبي على أهالي التلامذة في المرحله الأساسيّة مبلغًا يعادل 50 دولارًا أمريكيّة وما يعادل 100 دولار للمرحلة الثانويّة، وهذا قرار يخالف أحكام الدستور والقوانين المرعيّة الإجراء وفقا للمادة 49 من المرسوم الاجتماعيّ رقم 134 العام 1959، والتي نصّت على أنّ التعليم مجّانيّ في المرحلة الابتدائيّة، ثمّ عدّلت المادّة نفسها في قانون العام 2011 ليصبح التعليم إلزاميًّا في مرحلة التعليم الأساسيّ ومجّانيًّا في المدارس الرسميّة، وهو حقّ لكلّ لبنانيّ في سنّ الدراسة لهذه المرحلة.

أمر غير إنسانيّ

يقول مدير “ثانوية المربّي محمّد فلحة الرسمية” في بلدة ميس الجبل، فرج زين بدران: “في مـا يخصّ مدرستنا وقرار إقفالها، من المعروف اليوم أنّ بلدة ميس الجبل هي إحدى قرى المواجهة، وقد نزح عنها جميع أبنائها، وتعرّضت الثانويّة للقصف المباشر عدّة مرّات، وقد باشرنا في التسجيل انطلاقًا من قرار نهاية العام الماضي والذي ينصّ على إمكانيّة التسجيل خلال العطلة الصيفيّة، بين شهري تموز (يوليو) وآب (أغسطس) وقد توافقنا مع الأهالي في هذا المجال، استنادًا إلى قرار الوزير في العام الماضي بالتسجيل في المدرسة الأساسيّة قبل الحرب والالتحاق بأقرب مركز أو التعليم عن بعد مع المدرسة الأساسيّة”.

مدرسة المربّي محمد فلحة في ميس الجبل والتي تعرّضت للقصف المباشر عدة مرات

وفي مـا يتعلّق بتوجّه المدارس والثانويّات الرسمية في أماكن النزوح يضيف بدران لـ “مناطق نت”: “إنّ جميع المديرين ملزمون بتنفيذ قرارات وتوجيهات وزارة التربية، ولا يحقّ لأيّ إدارة وضع شروط على الأهالي تتعارض مع هذه القرارات والتوجيهات”, ويرى أنّ “موضوع دفع الرسوم في المدارس الأساسيّة والتحاق التلميذ في مدرسة قريبة من مكان إقامته الجديد قد يبرّر امتعاض بعض المديرين وعرقلتهم للعمليّة، لكنّه حتمًا أمر غير إنسانيّ ونحن كموظّفين في القطاع العام نعلم جيّدًا ما هو القهر”.

ويردف: “يجب أن نأخذ بعين الاعتبار معاناة التلامذة والأهالي النازحين قسرًا عن قراهم وبلداتهم”، مؤكّدًا أنّ “التعليم عن بعد سيكون متاحًا أيضًا لمن يرغب من التلامذة المسجّلين في الثانويّة”، مشيرًا في الوقت عينه إلى أنّ “هناك عائلات صامدة في قراها والقرى المجاورة ولم تنزح إلى أيّ مكان”.

فروع جديدة للمدارس الخاصة

من جهته يقول مدير فروع مدرسة البراعم في كل من بنت جبيل سلعا وتبنين المربي حسن فواز لـ “مناطق نت”: “إن ما نقوم به هو واجب تجاه أهلنا. خلال العام الدراسي الفائت كنا قد بدأنا التدريس حضوريًا ثم بالمراسلة للبعض والبعض الآخر، إلى أن بدأ التهجير فعمدنا إلى استقبالهم بمدرسة البراعم تبنين وسلعا”.

يتابع فواز “إلا إنه ومع نزوح معظم أهالي القرى الحدودية، لن نتمكن خلال هذه السنة الدراسية من فتح مدرستنا في بنت جبيل والمخاطرة بالتلامذة، وستكون الأولوية لمن بقي من التلامذة، إذ سنقوم باستقبالهم في فرعينا في تبنين وسلعا، مع تخفيض الأقساط المدرسية على المهجرين تبعاً لواقع كل حالة، وبحال استقرار الأوضاع مستقبلاً من الطبيعي العودة إلى بنت جبيل والدراسة في مبنى المدرسة إن شاء الله”.

على خطى مدرسة البراعم سلكت مدارس عدة طريقها واعتمدت فروعها الثانية في مناطق آمنة مراكز لاستقبال تلامذتها المهجرين.

بنت جبيل

تقول بتول حبيب سعد أمّ لثلاثه أولاد، وهي صامدة مع عائلتها في بنت جبيل لـ “مناطق نت”: ما زلنا في بلدتنا هنا لارتباطنا بعملنا ورزق زوجي الذي يمكنه الانقطاع عنه والنزوح نحو المجهول”. وتتابع: “أهلي نزحوا إلى الغازيّة قرب صيدا، وطلبوا منّي أن التحق بهم، وكنت أمام خيارين، إمّا خسارة عمل زوجي أو البقاء وتسجيل الاولاد في مدرستهم (راهبات القلبين الأقدسين) في بلدة عين إبل المجاورة، وهي مدرسة خاصّة تأسسوا فيها ورفضوا رفضًا قاطعًا تبديلها”.

صمود تربوي

المعاناة لا تنتهي، ولدى كلّ عائلة ما يكفي من شؤون وشجون، لكن يبقى التحدّي عنوانًا يجمع من اكتووا بنار الحرب والتهجير وتقطّعت بهم السبل وما زالوا، والتحدّي هنا يرقى إلى صمود تربويّ يحمي الأجيال الصاعدة ويمنحها حقّها في التعلّم والاجتهاد، وإن كان المطلوب من وزارة التربية وسائر الجهات الرسميّة مزيدًا من التعاون والتنسيق، لجبه الصعوبات بحدّ أدنى من الضرر والخسائر.

غبار الحرب والركام يغطيان أرضية ملعب مدرسة عيتا الرسمية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى