“حبيبي يا علي بعدك صامد؟”

على بُعد خطوات قليلة وقبل احتضاني له صرخت بملأ الصوت “حبيبي يا علي”. إنّه علي الميكانيكيّ صديقي الجنوبيّ الذي لم يغادر الجنوب طيلة الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله.
كان ذلك في النبطية بالقرب من موقف السيّارات لمّا قلت له في غمرة ترحابه بي: “بَعْدَكْ مضاين؟!”.
منذ اللحظات الأولى للقائه تلمّستُ كمّ الحزن الذي يحايث ابتسامته التي لم تفارق وجهه في رحلتنا من النبطية إلى ميس الجبل وحولا مرورًا بكفركلا والعديسة وعيتيت وشقرا وغيرها. كان علي يعمل على مداراة الدمع إلى أن انسكب هذا الدمع على غفلة منه أثناء رحلة العودة إلى بلدة الخيام.
إنّه علي الجنوبيّ جدًّا حيث الجسد امتداد للتربة والشجر والماء شأن كلّ انتماء وفيّ.
فتنة الدموع
“شايف الدمار؟”، قالها لي علي على وقع تخاطف النظرات فوق الركام الذي يشبه ارتباك هائل تعانيه الأرض في علاقتها مع نفسها ومع الناس ومع السماء. أنا أعرف علي جدًّا، فهو لا يستسيغ على الإطلاق ذلك الانصياع الهادىء إلى فتنة الدموع. إنّه علي، صديقي “المكنسيان” الذي يأبى الاندراج في أفق وجدانيّ واضح ومحدّد الملامح والقسمات.
لم أصدّق أيًّا من تلك الخبريات التي راح يقصّها عليّ والتي كان يحاول عبرها إشاعة جوّ من اللامبالاة… مبالاة تستبطن تلك المشاعر التي تتعلّق بالصمود والانتصار وغيرها من أوراق روزنامة موت الجنوبيّين. كان يتدارى بكلّ جهد عن حزنه العميق بقهقهة ضحك من هنا وبمزحة صارخة من هناك، بيد أنّ كلّ محاولات علي لنبذ حقيقة مشاعره كانت أكسل من أن تمسح حقيقة ما يخالجه من حزن عميق.
إنه علي، تلك الطينة الجنوبيّة التي قاربها عبّاس بيضون في واحدة من قصائده…علي الذي أخرجته دموع أمّه قبل الأوان إلى نهايته المبكرة كما يقول عباس.
“كيف ضاينتْ كلّ الحرب هون؟!”، سألته… “الله بيعرف” قال لي مستجديًا تلك اللامبالاة الكاذبة والتي قد رسمت كل حروف كلماته.
سكون النجاة
لا انتصارات في العالم تجيز ذلك الحزن الهائل الذي يختزنه علي في ملامحه ونظرات عينيه وفي تلك المحاولات الساذجة – أيضًا وأيضًا – بادّعاء اللامبالاة الذي يحاول عبرها أن يشيد قصرًا هشًّا بل أخرق من النصر والصمود.
إنّه علي – صديقي علي – الذي يتراوح بين سكون النجاة من الموت وفوضى انتشار هذا الموت في الأنحاء… في كلّ الأنحاء. انقطع حبل الكلام فجأة ورأيتُ إليّ أجاري علي ذلك الصمت الذي قد استجدّ مثل شاهق بلا قعر، أجاري علي في تواريه الحزين خلف خفّة الكلمات.
“ليه ساكت؟”، قال فجأة ليمرّر بعدها واحدة من مزحاته تلك وينطلق بعدها بهيصة ضحك هي أقرب إلى جدار.
كان علي في ذلك اليوم أقرب إلى محاولة فاشلة لترويض تمزقات قلب حزين. هيئة منقبضة من اللامبالاة، صورة حية عن الفرار، وكان أكثر ما كان تشنجات مشوبة بكل ضروب الحيرة والاضطراب.
“علي” عبّاس بيضون
لست أدري إذا ما كان صديقي علي، علي الميكانيكيّ، على دراية بالقصيدة الشهيرة لعبّاس بيضون والتي كان قد أنشدها مرسيل خليفة في يوم من الأيّام. لست أدري إذا ما كان هذا الـ “علي” هو عينه “علي” عبّاس وبشكل خاص لست أدري إذا ما كان صديقي علي شأن “علي” عبّاس بيضون، سيقتله حزنه في يوم من الأيّام.
إنّه دمار يشي أكثر ما يشي بسبات ربّ الجنوبيّين وفوعة كلّ شياطين الأرض. دمار تمامًا كحزن عليّ، يتدارى خلف مكابرات لا تنطق إلّا بالموت.
كان علي، صديقي علي، أثناء رحلتنا الجنوبيّة معًا وحيدًا إلى حدّ الهلاك… وحيدًا إلّا من نظرات الحسرة التي يجهد بغية ليّها بكلّ ضروب اللامبالاة.
يحفل الجنوب بكمّ هائل من الشعراء ولطالما حسبت صديقي علي المكنسيان ينطوي بلا علم منه على بقيّة شاعر… لكنّه شاعر، شاعر حقيقيّ وأحسب أنّ ذلك الدمار هو القصيدة التي كان يجهد علي على تجنّب تلاوتها علَيَّ في ذلك اليوم. كان لاندينو الفلورنسي يقول: “الله هو الشاعر الأكبر والعالم قصيدته… أمّا في حال صديقي عليّ فإنّه هو الشاعر وأرض الجنوب المحروق، القصيدة.
احتكار المعنى
ثمّة من الأنثروبّولوجيّين من عرّف المكان بأنّه الحيّز الذي يُنسب إليه المعنى، إلّا أنّ الطامّة الكبرى تكمن في احتكار جهة بعينها لهذا المعنى إلى أقصى الحدود. فتاريخ الجماعات لطالما بثّنا أخبار تلك الكوارث، المتأتيّة عن تسييج المعنى، بل وتصفيده، من قِبل جهة واحدة تمتلك أسرار الأرض والسماء وما بينهما.
ليس تشبّث صديقي علي بتلك اللامبالاة الكاذبة إلّا اندراج في هذا المعنى الواحد الذي صُبغ به الجنوب إلى حدّ الهلاك ومشكلة الولاء في هذا السياق هو أنّه ولاء لا يعرف الرحمة. وطالما أنّ حبيبي علي أبى إلّا أن يكون شاعرًا على غفلة من نفسه تراه يشدّني وأنا أكتب هذه المادّة إلى الاستشهاد بإكتافيو باث الشاعر المكسيكيّ الذي قال في كتابه “متاهة الوحدة”، إنّ كلّ الولاءات الهائلة تراها في لحظات الفجيعة تترك المرء وحيدًا.
كان علي، صديقي علي، أثناء رحلتنا الجنوبيّة معًا وحيدًا إلى حدّ الهلاك… وحيدًا إلّا من نظرات الحسرة التي يجهد بغية ليّها بكلّ ضروب اللامبالاة.
ليس علي بالشخص الكاذب على الإطلاق إزاء حقيقة مشاعره المتأتيّة عن ذلك الدمار. ليس كذب علي عليَّ وعلى نفسه بالدرجة الأولى إلّا مناورة بغية التوازن بين أناواته الكثيرة… أنا الولاء، أنا الرغبة بالعيش بأمان، أنا الحزن على من مات وأنا المبارٍكة لهذا الموت!!
إن الكذب، ولا سيّما الكذب على الذات، هو في جزئه الأكبر هروب وفرار وليس الافتراء على الواقع عبر الاستخفاف بكلّ الخراب على خلفيّة مقولة الصمود والانتصارات، ليس ذلك الافتراء إلّا توطيدًا لذلك الولاء الذي قد أرهق الجنوب، أرهق القلوب وأيضًا أرهق صديقي علي.
“حبيبي يا علي”، قلت له عند دوّار حبّوش وهو يلوّح لي بيده التي كانت كمن تفتّش على مكان تستند إليه… “حبيبي يا علي”، كرّرتها على مسامعه بقوّة وأنا أدوس دعسة البنزين مستقصيًا حزن علي العميق الذي قد تسلّل إليّ.