حبيب صادق.. فارس الجنوب والثقافة يترجل
مِن أين أبدأ وأنا أكتب عن شخصٍ لازمته منذ العام 1992، ولكنني عرفته قبل ذلك بكثير. منذ العام 1968 حيث كان التمرين الإنتخابي الأوّل له، من خلال ترشّحه للانتخابات حينها. من الصّعب لا بل من المستحيل أن أميّز بين ما تعلّمت منه، وبين ما اكتسبت من معرفة تلقيتها على يديه. تجلّى ذلك من تفاعل داخلي ظهر لاحقاً في سلوكي ومسؤوليّاتي. أنا الآتي من تجربةٍ حزبيّة صقلَت فيّ الكثير، لكن لقائي بالحبيب الصادق أعاد النّظر بالكثير من توجّهاتي ومن تصويب الكثير من مساراتي.
الكلام عن حبيب صادق لا يمكن الإحاطة به من خلال مقالة، وأيضًا لا يُختصَر بكلمات، فالرجل الذي كان ظلاً للجنوب وقضاياه حاضرًا فيه لا يغادره أبدًا، من الصعب أن تكتبه أو تقرؤه أو تنعيه. لا أبالغ القول إذا ما وصفت حبيب صادق بالفارس، رجل لا نظير له، من معدن الرجال الرجال جدير بالتقدير والتعظيم. كان مهيبًا، رائع الحضور عزيز النفس، يملأ الأفئدة قبل أن يملأ اللقاء. هيبة لا تستعين بقوّة الجسد. يتكلّم فينصت الجميع. وكثيرًا ما تشهد الوقائع والتجارب معدنه النّادر والفريد. لكن كان في الوقت نفسه من طراز من كانت مشاعرهم جيّاشة، يحرّكها أيّ شيء.
رجل هادئ بنبرةٍ حادّة، سريع التّعاطف مأخوذًا بالرّحمة والرّأفة، مع ذلك يتمتّع بفراسة عجيبة يعتمد عليها في معرفة الآخر وكثيرًا ما كان يستنبط الأفكار بنظرته الثّاقبة. حبيب صادق رجل نادر بجميع المقاييس، تشهد له أعماله ومواقفه التي لا يهادن فيها وأخلاقه المنحازة دائمًا وأبدًا مع النّاس ومصالحها.
كلّ هذه الصّفات والمعادن النفيسة كرّسها حبيب صادق في إدارة المجلس الثّقافي اللّبناني الجنوبي، حيث أعطاه جلّ وقته وجهده وتعبه، فأثمر المجلس تاريخًا حافلاً وإرثًا جنوبيًا قلّ نظيره. من الخيام مرورًا بالنبطية وصولاً إلى برج أبي حيدر في بيروت، أماكن تؤرخ لجزء من تاريخ الحبيب والصادق، بنى فيها ممالك من ثقافة وعهودٍ ما برحها حتى الممات الأخير.
هو الشّاعر المجلّي الّذي توارى خلفه الشّعراء وهو الأديب اللّامع الّذي احتجبَ ليقدّم الكتّاب المبدعين الجدد فكان حارسهم الأمين. عشق الرسم فأفرد له المعارض في أكثر من ناحية وها هي جدران المجلس تشهد على ذلك، من خلال عشرات الأعمال الفنية المنتشرة هنا وهناك.
نبش في التاريخ العاملي وجمعه قطعة قطعة. أعيانًا وعلماء، أحداثًا ومواقف، حقبات وآثار ومواقع، نضالات وتحولات. لم يترك في الجنوب وتاريخه تفصيلاً إلا ورفعه وعمل عليه وأدخله إلى حيّز الضوء. والحبيب الصادق ليس كل هذا، فالقضايا الوطنية والمحطات الأساسية في عمر الوطن تشهد على مواقفه ما برحها، محرّكًا ومشاركًا ومساهمًا، لا يغيب عنه شيء، حاضرًا ما بارح الميدان.
حبيب صادق ورشة عمل لا تهدأ، مسكون بالعمل وبالثقافة وبالأدب والشعر وبالقضايا الوطنية. كلّما التقيته يبادرني باقتراحاً جديدًا للقاء حواريٍّ أو ندوة تطال الحاضر من المشكلات الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسّياسيّة. وفي المحصلة مئات إذا لم نقل آلاف الأنشطة التي تنوعت بين ندوات ومهرجانات وأمسيات ومعارض وغيرها الكثير الذي كان يتناول كل جديد.
من الصعب أن تجد أديبًا أو شاعرًا أو صحافيًا أو اقتصادياً أو خبيراً أو سياسياً أو أو أو … لم يزر المجلس الثقافي زائراً أو محاضراً أو للقاء مع حبيب صادق. لقد حوّل المجلس الثقافي للبنان الجنوبي إلى خلية نحل لا تهدأ، ونحن نعاهدك أنه لن يهدأ، طالما سيبقى مظللاً باسمك لا يفارقه أبداً.
لا أدري إلى أين سأنتقل بالحديث عن حبيب صادق، فكل شيء من حولي يمتلئ به. هل أتحدث عن مكتبة المجلس التي تضم تاريخ جبل عامل وإرثه المميز والتي ما كانت لتولد لولا جهود الحبيب. هل أتحدث عن دور حبيب صادق بالمقاومة الوطنية ضد الاحتلال، وتكريسه المجلس منبراً لها ولمقاوميها وللمعتقلين والمناضلين وهو الذي رفع شعار “كل الجهات الجنوب”. هل أتحدث عن علاقاته بالكبار في الوطن وخارجه وعلاقاته التي تمتد إلى معظم العالم العربي بمثقفيه ومفكريه.
غاب حبيب صادق منذ أيام غيبته الأخيرة بعدما كان طوعاً بسبب العجز والمرض غاب غيبته الأولى. غاب الحبيب لكنه حتماً سيبقى حاضرًا بما أنجزه خلال عقودٍ طويلة من حياته، والتي سخّر معظمها للعمل في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، متفانيًا في ذلك.
غادر حبيب صادق بعدما شهد على أشد المراحل في تاريخ الوطن والجنوب، لكنه لم يشهد إلى ما نحن وصلنا إليه. غاب حبيب صادق لكن لـ “رنة” إسمه ودلالاته ورمزيته وقع لن ينساه الجنوبيون أبداً، فهو معمّد بالحب، مضرّج بالعشق. عشق لأرض عانقت جسد حبيب صادق في مثواه الأخير.