حرج تبنين فسحة الجنوبيّين للتنزّه على خط النار

يحاول غالبيّة سكّان القرى الجنوبيّة الحدوديّة راهنًا، النجاة بأنفسهم والبقاء على قيد الحياة، ليس أكثر، لكنّهم بين الحين والآخر، يخرجون إلى مساحات خضراء باتت تضيق شيئًا فشيئًا بفعل الاستهدافات الإسرائيليّة شبه اليوميّة هناك، وقد شكّل حرج تبنين الواقع على الحدود بين بلدتيّ السلطانيّة وحاريص (بنت جبيل)، إحدى هذه المساحات وبات متنفّسًا لأبناء المنطقة بعد انتهاء العدوان الإسرائيليّ الأخير على لبنان.

الحرج الصامد

تبلغ مساحة الحرج 546.633 مترًا مربّعًا، زيّنته أشجار الصنوبر والسرو قبل نحو 64 عامًا، من قِبل منظّمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتّحدة (الفاو) وتحديدًا في العام 1961، وفق تأكيد أمين صندوق بلديّة تبنين حسين زين الدين لـ “مناطق نت”، ويضيف: “يتبع الحرج إداريًّا وزارة الزراعة اللبنانيّة، وهو موجود على العقارين 2271 و2272 (ملك الوزارة)، والتي تتابع أحواله من خلال موظّف الأحراج”.

ولطالما شكّل الحرج مقصدًا للبنانيّين من مختلف المناطق اللبنانيّة، وكان محطّ اهتمام المعنيّين في الوزارة وبلديّة تبنين، بحسب زين الدين، ويتابع: “الاهتمام مشترك في ما بيننا، نحن والوزارة. نقوم بما يلزم لحماية الحرج ومتابعته”. وعن الإجراءات يقول: “نلاحق من يقوم بأيّ تجاوزات داخل الحرج، كإشعال مواقد النار وقطع الأشجار”. علمًا أنّ الحرج لم يتضرّر إبّان العدوان الإسرائيليّ الأخير على لبنان، كذلك مرّت عليه حروب سابقة وبقي صامدًا”.

حرج تبنين (الصورة فاطمة ياسين)
في قلب الطبيعة

هنا الناس يتواجدون في قلب الطبيعة، يأتون للتنزّه وحدهم، أو مع العائلة والأصدقاء. في ركن صغير هناك، تجلس إحدى السيّدات، برفقة أطفالها الأربعة، جلبت معها حقيبة صغيرة ملأتها بأنواع الأطعمة والحلويّات والمشروبات المختلفة.

على مقربة منها، اختار عدد من الشبّان، ركن سيّاراتهم إلى جانب الطريق، وتبادل أطراف الحديث. يمارس بعض المارة رياضة المشي. وعلى مقعد خشبيّ في آخر الحرج، جلست ميّ فواز وصديقتها، تقول ميّ لـ “مناطق نت”: “جلسنا نرتاح قليلًا بعد أن مشينا ما يقارب ستّة آلاف خطوة في الحرج” وتضيف: “أقصد الحرج باستمرار، أمارس فيه رياضة المشي والركض وأحيانًا للتنزّه مع العائلة”.

جزء من ذاكرتي

ميّ هي ابنة بلدة تبنين، عادت لتستقرّ في القرية فور انتهاء العدوان الإسرائيليّ على لبنان في الـ 28 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، تُحدّثنا عن سبب اختيارها للحرج، فتقول: “هو أفضل مساحة خضراء متواجدة في المنطقة، يساعدني على الاسترخاء وتنفّس الهواء النقيّ، ومناسب للأنشطة الرياضيّة، وفي الوقت نفسه موجود على مسافة قريبة من سكني، أحتاج لدقائق معدودات للانتقال من منزلي إليه”.

تبلغ مساحة الحرج 546.633 مترًا مربّعًا، زيّنته أشجار الصنوبر والسرو قبل نحو 64 عامًا، من قِبل منظّمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتّحدة (الفاو) وتحديدًا في العام 1961

شكّل الحرج جزءًا مهمًّا من طفولة ميّ وذكرياتها، وحتّى حينما كبرت وانتقلت للدراسة والعيش في العاصمة بيروت، فقد أضحى ملجأها في عطلة نهاية الأسبوع. وعلى رغم الاستهدافات الإسرائيليّة المستمرّة لأفراد لبنانيّين، تقول ميّ “نادر جدًّا شعوري بالخوف عندما أكون في الحرج، لكنّني أتوتّر قليلًا حين يكون صوت الدرون منخفضًا وقويّ، وهذا أمر طبيعيّ، إذ لا يمكن للإنسان أن يعتاد الحرب وتفاصيلها” على اعتبار أنّ الناس تتعايش وتتكيّف قسرًا مع ظروف الحروب، لكنّها لا تعتاد هذه الحياة ولا تتقبّلها.

كلّ الأماكن خطرة.. إنّما!

إلى المكان عينه، تأتي فاطمة، وهي مدرّسة وأمّ لثلاثة أطفال، كي تمارس رياضة المشي مع ابنتها البالغة 15 عامًا، تقول لـ “مناطق نت”: “اعتدنا القدوم إلى هنا كلّما سنحت لنا الفرصة، أحبّ الطبيعة هنا، فالمكان هادىء ونظيف”. كذلك تختاره أحيانًا خلال اللقاءات العائليّة إذ “يتميّز بأنّه يصلح للجلوس وممارسة الرياضة في آن” بحسب تقول.

لا تخيفها فكرة الاستهدافات، لكنّها في الوقت ذاته تعتبر أنّ “كلّ الأماكن والطرقات باتت خطرة في الجنوب، بمجرّد الخروج من المنزل، وربّما في داخله، على اعتبار أنّ إسرائيل لا تؤتمن، وقد تتحجّج بأيّ سبب كي تقصفنا، ومع ذلك، أقصد الحرج؛ لم يراودني يومًا شعور الخوف وأنا فيه. أتمنى أن يصدق حدسي”.

من كلّ حدب وصوب

شكّل هذا الحرج على مرّ الزمن، متنزّهًا للعامّة، لا سيّما أبناء القرى الحدوديّة المحاذية لفلسطين المحتلّة، حنان زريق، ابنة بلدة شقرا الجنوبيّة القريبة من تبنين واحدة من هؤلاء، تقول لـ”مناطق نت”: “ألتقي وأصدقائي في الحرج، نحتسي القهوة، ونتبادل الأحاديث، بعيدًا من ضجيج المقاهي والأماكن المغلقة، خصوصًا وأنّ طقسه منعش في وقت الحرّ وفيه نجد راحة نفسيّة”.

طرقات داخل الحرج

وفي ظلّ الأجواء المتوتّرة أمنيًّا، لم تراود زريق فكرة أنّ الحرج قد يكون أيضًا محلّ استهداف إسرائيليّ، تقول: “ربما إنّه وهم الأمان، أو أنّ الناس تتقصّد عدم التفكير في احتمالات مثل هذه، وإلّا فإنّها ستسكن بيوتها وتمتنع عن ممارسة أبسط تفاصيل الحياة”.

لا بديل آخر

قبل الحرب، كانت زريق تتنزّه في وادي الحجير(أحد الأودية الخضراء بين قضاءي مرجعيون وبنت جبيل)، تقول إنّ الوادي “بات مكانًا غير آمن للتنزه، وإلّا فإنّه المكان الأفضل والأحبّ إلى قلبي”. فخلال الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على لبنان، دخل جيش الاحتلال إلى وادي الحجير وعمد إلى تخريبه بشكل ممنهج، واليوم باتت الحركة فيه شبه معدومة.

يتميز هذا الوادي بغطائه النباتيّ المميّز، إذ فيه أشجار السنديان والزيتون المعمّرة والكينا والصنوبر والخرّوب وقد صنّف محميّة طبيعيّة في العام 2010، يمتدّ من نهر الليطاني في بلدة قعقعيّة الجسر (قضاء النبطية) حتّى بلدة عيترون (بنت جبيل)، وقد اكتسب شهرته بعد انتهاء حرب الـ 2006 إذ اعتبر “مقبرة الميركافا- الدبابات الإسرائيليّة)، وبات مقصد لبنانيّين وسيّاح كثر، وافتتحت على امتداده عشرات المؤسّسات السياحيّة.

وعلى هذا المنوال، وللأسباب نفسها، حُرم الناس من التنزّه في مساحات خضراء كثيرة جنوبًا في قضاء بنت جبيل، في ياطر وزبقين وشقرا وغيرها كثير، خصوصًا وأنّ لإسرائيل سوابق في استهداف المتنزّهين، حصل ذلك قبل العدوان الأخير بقليل، حين استهدفت زوجين خرجا لقطف الصعتر بالقرب من جبّانة بلدتهما كفرا فقتلت الزوجة وأصابت الزوج بجراح وحروق بليغة.

لكثرة تعلّقي فيه

من جهتها، تقول المهندسة المعماريّة وابنة بلدة دير كيفا رؤى لـ “مناطق نت” إنّ “الحرج هو المكان العام الوحيد الذي أذهب إليه خلال زيارتي للجنوب، ألتقي بعض الأصدقاء، ونسير في الحرج وجواره، وأحيانًا نجلس سويّة في كافتيريا موجودة داخل الحرج” رؤى من سكّان العاصمة بيروت.

وعن سبب اختيارها لهذا المكان تحديدًا، تقول: “لديّ ارتباط وثيق ببلدة تبنين، تكرَّس منذ الطفولة، حين كنت أتلقّى تعاليمي الدراسيّة الأولى في المدرسة هناك، ولي فيها أصدقاء كثر وذكريات طفولة، كذلك هو بعيد عن ضجيج القرية”. وتختم: “من كثر تعلّقي فيه، كنت أعود إليه في كلّ مرّة أزور فيها قريتي، وفي أوقات متفاوتة، بحسب تواجدي في الجنوب”.

وترتفع تبنين نحو 800 متر عن سطح البحر، فيها قلعة تاريخيّة صليبيّة بنيت العام 1103، وتعتبر مركز قضاء قرى بنت جبيل، حيث ينجز أهالي المنطقة معاملاتهم الرسميّة، وفيها سرايا ومستشفى حكوميّ، وسوق شعبيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى