حكاية “سيّدة حريصا” النازحة من تنّورين إلى كسروان

قليلون لا يعرفون “سيّدة لبنان” أو “سيّدة حريصا” أو لم يسمعوا بهما، لكن قليلين أيضًا من يعرفون حكاية ذاك المزار الذي ينتصب فوق تلك التلة الغارقة في خضرتها، وتطل من علٍّ على الخليج الساحر في جونيه، وعلى أجمل المواقع الطبيعيّة المنتشرة على الشاطئ اللبنانيّ.

فور سماعنا لاسم “سيّدة لبنان” وهي قبلة السياحة الدينية يزورها اللبنانيون من كل حدب وصوب، تذهب عيوننا إلى حريصا الواقعة في كسروان قرب مقر البطريركية المارونيّة في بكركي والسفارة البابوية والكنيسة البولسية للروم الكاثوليك، قرب درعون وغوسطا. لكن الذي لا نعلمه هو أن سيّدة حريصا ورغم شهرتها الواسعة، تخبئ خلف تلك الشهرة حكاية أصلها وفصلها، والذي يعود إلى بلدة تنّورين القابعة في أعالي قضاء البترون.

حريصا تنّورين

الحكاية بدأت قبل حوالي 250 عامًا وتقول إن حريصا – تنّورين نقلها معهم أهالي المنطقة، وتحديدًا آل يونس، إلى حريصا في درعون – كسروان، إثر تعرّضهم لغزوة مفاجئة من قبل بعض عشائر الهرمل ممن كانوا ملتزمي جباية الميرة لصالح والي طرابلس، ومعظمهم من آل حماده، وذلك في ظل متغيِّرات سياسية واجتماعية كبيرة شهدتها منطقة جبل لبنان الشمالي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، حيث كان تابعًا آنذاك لولاية طرابلس العثمانية.

داخل كنبسة سيدة حريصا في أعالي تنورين

في رحلة التفتيش عن حريصا الأولى في تنّورين، يتبيّن أنها تقع قرب غابة الأرز الشهيرة على ارتفاع يتراوح ما بين 1550 و1750م، حيث لا تزال بقايا كنيسة سيّدة حريصا (القديمة) التي أحرقت وهُدِمت يومذاك ماثلة للعيان، إلى جانب كنيسة جديدة للسيّدة أيضًا شُيِّدت قبيل الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975. ويمكن الصعود إليها عبر درج حجري ملاصق لمزار صغير للسيّدة يقع إلى جانب الطريق العام.

وكان سبق للأهالي أن شيَّدوا كنيسة للسيّدة العذراء بحدود عام 1890. لذلك فإن محلة حريصا – تنّورين – تحتوي راهنًا على كنيستين: الأولى في حريصا التحتا، وهي الأقدم، والثانية في حريصا الفوقا، وهي الأحدث، وفي جوارها بقايا الكنيسة القديمة المدمرة ومزار حديث البناء.

‌تراث ديني مهمل

يلفت الباحث في تاريخ تنّورين القاضي بسام وهبه في حديث لـ “مناطق نت” إلى أنّ “هناك الكثير من الأسباب التي حالت دون معرفة الكثيرين بسيّدة حريصا – تنّورين – أبرزها أنها تقع في منطقة جبلية بعيدة عن العاصمة بيروت وكانت تفتقر إلى البُنى التحتية ولم تصلها الطرقات المعبدة إلا منذ عشرات السنوات، إضافة إلى أنها كانت خلال الحرب الأهلية (1990 – 1975) تقع على مقربة من خطوط التَّماس بين ما كان يُعرف حينها المنطقة الشرقية وبين منطقة تواجد الجيش السوري في قرى قضاء بشري”.

يتابع وهبه “من بين هذه الأسباب أيضًا إهمال المسؤولين الروحيِّين والزمنيِّين والرسميِّين، في الدولة والبلدية وتنّورين، لهذه المنطقة ولهذا التراث الديني والروحي وهو ما يندرج من ضمن الإهمال الكبير بحق تنّورين عمومًا على مختلف المستويات والذي يعيق مقتضيات التقدُّم والتطوُّر والإنماء في البلدة”.

كثيرة هي المناطق المهمة التي تحوط محلة حريصا في تنّورين قبالة غابة محمية الأرز، فهي على مسافة قريبة من وادي عين الراحة الشبيه بوادي قنوبين، من حيث تراثه الديني عند المسيحيين، وهو يمتد بين تنّورين الفوقا وحدث الجبة وتنّورين التحتا وعند أسفله يمكن الصعود في الجبال إلى أعالي قرى كفور العربة ونيحا وحردين.

مميزات طبيعية وسياحية

تتميز محلة حريصا تنّورين، ببيئتها الغنية بالتربة الخصبة الصالحة للزراعة والمياه العذبة وسط جبال شاهقة تغطيها الثلوج في فصل الشتاء، مما يتيح إقامة مركز للتزلج وممارسة الطيران الشراعي، فهو يقع على الخط الجبلي الذي يفصل منطقة اللقلوق وبالوع الجسور الثلاثة في بلعا عن جبة بشري وحصرون وبقاعكفرا والديمان وصولًا إلى إهدن.

أما عن أصل كلمة تنّورين فهي تعود إلى السريانية وتعني “التَّنُّور” أي موقد النار، وهو وارد بصيغة الجمع أي المواقد؛ في حين تحمل كلمة “حريصا” تفسيرين: أولهما الطرف الحاد والثاني يعني الحرص.

من تنّورين إلى درعون

يوضح وهبه “أن والي طرابلس العثماني كان قد أَوكَل مهمة جباية الميرة لصالحه من أهالي منطقتي جبيل والبترون إلى أفراد من آل حماده، القادمين أصلًا من بُخارى وبلاد الرافدين إلى منطقة الهرمل، حتى استوطن قسمٌ منهم في كسروان عام 1520 ومنها انتقلوا إلى بعض القرى، وسط بلاد جبيل والبترون”. يتابع وهبه “لم يتوانَ هؤلاء الملتزمون عن استعمال الشِدَّة والعنف ومصادرة الأراضي الزراعية لتحصيل أموال الضرائب الجائرة، وهذا ما أدى إلى صدامات عنيفة في الكثير من الأحيان مع الأهالي والمزارعين الفقراء في مختلف المناطق ومنها تنّورين”.

كنيسة سيدة حريصا في أعالي تنورين

تنقل الروايات الشعبية في تنّورين، أن أهالي حريصا اصطدموا أكثر من مرَّة مع الجباة من آل حمادة، وهو ما دفع بهؤلاء حوالى عام 1774 إلى شنِّ غزوة على حين غرة ضد أهل حريصا الذين كانوا يحتفلون بالصلاة داخل الكنيسة في إحدى المناسات الدينية. وقد عمدوا إلى إحراق كنيسة سيّدة حريصا التي يعود تاريخ بناءها إلى مئات السنين مع بعض البيوت والمزروعات، حيث وقع عدد لا يستهان به من القتلى والجرحى، الأمر الذي دفع بقسم كبير من الأهالي الناجين إلى النزوح باتجاهات عدَّة ومنها تلة الرُّوَيس في درعون، كسروان المطلة على خليج جونيه.

ويذكر وهبه “أن أهالي تنّورين كمنوا بعد ذلك لمجموعة من هؤلاء الجباة وأعوانهم، بموازاة سِكَّة الشام في الجرد العالي، وأوقعوا بهم خسائر فادحة. وتعرف هذه المنطقة، حتى اليوم، بإسم برك الدم”.

وبحسب وهبه، “يُحكى أن النازحين إلى درعون جلبوا معهم اسم حريصا بعدما راح أبناء درعون ومحيطها يسألون عن هؤلاء السكان الجُدد، فيُقال لهم إنهم أهل حريصا وقد نزحوا إلى هذه المنطقة آتين من تنّورين. ومنذ قدومهم عُرفت تلة الرويس في درعون باسم موطنهم الأصلي “حريصا”.

بناء مزار حريصا

في العام 1904 لم تعد تلك التلة التي تنتصب عليها “سيّدة لبنان” اليوم في كسروان كما كانت عليه قبل ذلك العام، إذ اشترى البطريرك المارونيّ الراحل الياس الحويك من فرنسيس يعقوب يونس، الذي أتى أحد أجداده من حريصا، تنّورين، قطعة أرض في منطقة تسمَّى الصخرة، ودفع له ثمنها خمسين ليرة عثمانية ذهبية وخصَّصها لإقامة تمثال للسيّدة العذراء التي تعرف اليوم بـ “سيّدة لبنان”.

الجدير ذكره أن منطقة الرويس تشكل اليوم جزءًا من منطقة حريصا العقارية التي تشكل مع درعون نطاقًا بلديًّا واحدًا.

كنيسة سيدة لبنان بازليك حريصا في كسروان
نظرة مستقبلية

من جهته يؤكّد رئيس “تجمع تنمية تنّورين” المحامي فيصل طربيه أنّ مخطّطًا توجيهيًا واعدًا يتم الإعداد له حاليًّا، يرمي إلى إنشاء مزار لسيّدة حريصا في جوار غابة أرز تنّورين على ارتفاع يزيد عن 1650متر في أعالي قضاء البترون. يتابع لـ “مناطق نت”: الدراسة قيد الإعداد وعند إنجازها ستعرض على فعاليات تنّورين بغية توفير تأييد كبير حولها تمهيدًا لمناقشتها مع مطرانية البترون المارونيّة وصرح بكركي”.

ويوضح طربيه “أنه ستكون لهذا الأمر تحوّلات كبرى في مسار الحركة السياحية دينيًّا وبيئيًّا وترفيهيًّا، كذلك في طبيعة النشاط الاقتصادي والزراعي سواء في تنّورين أم في القرى والبلدات المجاورة”.

وعليه، إذا تحقق هذا المشروع الحلم فسيصبح بإمكان زوار سيّدة لبنان (كسروان) أن يقصدوا مزار سيّدة حريصا في تنّورين في فصلي الربيع والصيف، حيث يلتقي التاريخ بالحداثة.

الجدير ذكره أن الآراء تتراوح بين إقامة المزار في المنطقة التي أحرقت فيها الكنيسة القديمة وبين اختيار موقع في محيط محمية غابة الأرز حيث سيصبح متاحًا أكثر تأمين مواقف للسيارات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى