حكمت الأمين.. الحكيم المجهول الذي وصل تلك الليلة!
المحامي كمال لحاف
…«وصل الحكيم»، قالتها «الحجة» لزوجها المستلقي على فراش الموت منذرةً إياه بقدوم الحكيم… وتابعت تروي أحداث تلك الليلة المشؤومة التي مضى عليها أكثر من أربعة وثلاثين عاماً، وتظن للوهلة الأولى أنها مشاهد من فيلم سينمائي زاده خيال المخرج إثارة وتشويقاً، لكن الحقيقة أن ما روته تلك «الحجة» ما هو إلا وقائع حقيقية لحادثة حصلت معها وكان بطلها ذلك الطبيب الذي سيمضي وقت طويل لتكشُف لنا الأيام من هو!
بأنين وحسرة تتذكر «الحجة» تلك الأيام وتلعنها، وتروي بنبرة بصوتها الخافت الذي براه الزمن تفاصيل تلك الليلة التي وصل بها «الحكيم».
كغيره من صباحات الجنوب خلال الاجتياح الإسرائيلي استيقظت «الحجة» ذلك الصباح على صوت القنابل والرصاص والمداهمات التي كان ينفذها جنود الاحتلال الإسرائيلي بمساعدة العملاء في ذلك الحي الذي كانت تسكن فيه.. أيقظت زوجها المريض الذي يعاني أمراضاً في القلب ليتناول حبة الدواء التي تصفها (بالحبة الحمرا الزغيرة).
بالدموع التي تطفح من عينيها المسوّرتين بالتجاعيد قالت أنها في ذلك اليوم تملكها شعور بالغربة والألم، واستشعرت من آهات زوجها المريض بأن ملاك الموت يحوم بالقرب منه.. بلا وجهة خرجت من منزلها تبحث عمن يساعدها لنقله إلى المستشفى البعيدة، التي كانت أبعد من «الجبانة» ووصوله إليها سيكون أسهل من وصوله الى تلك المستشفى.. في ذاك الزمن، كانت السيارات قليلة، ولم يكن عددها يتخطى عدد أصابع اليد وليس هناك من إسعافات ولا من يحزنون، والذي زاد الطين بلة أن جيش الإحتلال الإسرائيلي قام بإغلاق كل مداخل القرى والبلدات، ونشر الحواجز التي راحت تفتش السيارات وتعتقل ركابها وتنكل بالناس وخصوصا الشباب، وغيرها من المآسي التي كان ينزلها بالسكان التي مازال كل من هو حي يتذكر مرارتها في تلك المرحلة.
في ذلك النهار لم تجد «الحجة» من ينقل زوجها إلى المستشفى، فما كان منها إلا أن عادت إلى المنزل لا حول ولا قوة لها سوى الدعاء، فتسلّحت به لقضاء تلك اللحظات القاسية والصعبة… توضأت وأتمت صلاتها ثم جلست بجانب زوجها تحاكي العتمة التي أطبقت بلونها القاتم على جدران الفقر والعوز، يخترق سكونها أنين زوجها المريض المستلقي على فراش من إسفنج مركون في زاوية من زوايا الغرفة المظلمة.
وإذ، حدث ما لم يكن متوقعاً… طرقة خفيضة على الباب ثم تلتها طرقة أخرى، كانتا كافيتين لكسر جدار الصمت وإشعال نار القلق الذي دب في قلب «الحجة».. تلعثمت وهي تسأل زوجها عن الطارق في هذا الليل ومن يكون؟ فيجيبها «أفتحي مين ما كان يكون».
فتحت «الحجة» الباب لتتفاجئ برجل أربعيني ملتح يحمل “شنطة” يقف أمامها ويتلفت يميناً ويساراً.. سألته والحيرة تتملكها: «مين أنتي وشو بدك بهالليل».. فأجابها: «أنا حكيم يا «حجة» جايي أفحص الحج خبروني إنو مريض».. انفرجت أسارير «الحجة» التي فتحت الباب سريعاً قائلة: «فوت يا تقبرني الحج جوي» ونادت: «يا حاج وصل الحكيم».
دخل الحكيم بسرعة إلى غرفة الحج وقدّم له العناية الطبية اللازمة، لكن شيئاً ما حصل لم يكن بالحسبان… فما أن انتهى الطبيب من معاينة الحج حتى طلب ورقة لكي يكتب عليها اسم الدواء، والسبب في ذلك هو ربما أنه لا يريد أن يعرف بقدومه أو تقفي أثره أحد… بدل الورقة أحضرت «الحجة» قصاصة كرتون، فتناولها الطبيب وكتب عليها إسم الدواء وناولها للحجة مضافاً إليها مبلغاً من المال هو ثمن الدواء.. ودّع الطبيب المجهول الحج المريض وهمّ بالرحيل، فوقف على الباب يتلفت يميناً ويساراً وكأنه يخشى شيئاً ما أو أن يراه أحد… نظر إلى الحجة وطلب منها أن تشتري الدواء في اليوم التالي، فسألته «من شو خيفان يا أبني» فأجابها لست خائفا ولكن أخشى أن يقبض علي جنود الإحتلال الإسرائيلي أو يتعرف علي عملاء الداخل «بدن يقتلوني». ومضى مدججاً بدعاء الحجة التي لم تترك دعاء خير إلا وذكرته به.
لملم الصباح أحداث الليل وخرجت الحجة باكراً ممسكة بيدها قصاصة الكرتون غير آبهة للقصف والقذائف، تبحث عن أحد ما ليجلب لها الدواء، إلى أن وصلت إلى إحدى صيدليات بلدة القليلة، فأعطت الصيدلي قصاصة الكرتون التي تحمل اسم الدواء.. لحظات مرّت قبل أن يبتسم الصيدلي ويُخبر الحجة أن الدواء المدوّن على قصاصة الكرتون ما هو إلا مُهدئ للأعصاب وأردف: «مين ضحكان عليكي يا حجة وكاتبلك اسم هالدوا على شقفة هالكرتونة».
أخذت الحجة القصاصة من يد الصيدلي بعصبية وعادت أدراجها إلى المنزل والحيرة تملأ قلبها متسائلة عن ذلك الرجل الذي جاء إلى منزلها البارحة؟ وماذا يريد؟ ولماذ فعل ما فعل؟ ولماذا أعطاها المال؟.. لم يدم التفتيش عن جواب لتلك الأسئلة التي راحت تدور في خلد الحاجة طويلاً، فحشد النسوة القليل أمام منزلها يبكين وينتحبن بددا تلك الأسئلة، فهرولت إلى غرفة زوجها لتجده قد فارق الحياة.
حضر المعزون إلى منزل الحجة التي راحت تتحدث عما جرى وعن ذلك الرجل المجهول وعن تلك القصاصة التي كتب عليها تلك الوصفة. انتشرت خبرية الحجة بين المعزين الذين راحوا يتبسمون قائلين: «يا حجة هيدا حدا ضحكان عليكي لو حكمت الأمين مش هربان من الإسرائيلي كان حكّموا للحج بس عمرو هلقد».
بتاريخ 26 كانون الأول من العام 1989 تعرّض أحد المراكز الرئيسية للحزب الشيوعي في بلدة الرميلة الساحلية لغارة من الطيران الإسرائيلي، ما أدى إلى إستشهاد عدد من قادة الحزب ومن بينهم الشهيد الدكتور حكمت الأمين ومسؤول أمن اليقظة والأمن في الجنوب قاسم بدران وغيرهما ممّن كانوا رموزاً في المقاومة الوطنية اللبنانية آنذاك.
اشتعل البلد بخبر الغارة التي شنّها العدو الاسرائيلي على الرميلة وبالمجزرة التي ارتكبها هناك وضج الوطن باستشهاد كوادر الحزب الشيوعي وقادة المقاومة الوطنية.. انتشر الخبر في وسائل الأعلام كالنار في الهشيم وبدأ الاحتلال الاسرائيلي قبل المقاومين يترقب رد فعل المقاومة على هذه المجزرة.
انتشرت الصحف التي تصدّرت صفحاتها الأولى صور الذين استشهدوا في مجزرة الرميلة، وتشاء الصدفة أن واحدة من تلك الصحف شقت طريقها إلى الحجة التي لم تكن تدري أن ذلك الرجل الذي طرق بابها تلك الليلة، سيطرق باب قلبها بقوة هذه المرة. فما أن رأت صورة الشهيد الدكتور حكمت الأمين حتى صرخت قائلة: «يا مشحر هيدا هوي الزلمي اللي إجى لعنا هيديك الليلة» وغابت عن الوعي.
حكمت الأمين هو الطبيب الذي وصل إلى منزل الحجة لمعاينة زوجها في تلك الليلة، ولم تعرف من الذي قال له أن زوجها بحاجة للمعاينة، حيث علم أن الحج لن يستطيع الصمود أمام وطأة مرضه طويلاً، لذلك وصف على تلك القصاصة مهدئ للأعصاب، والمبلغ تبين فيما بعد أنه مصاريف الدفن.. تتساءل الحجة كيف جاء الدكتور حكمت الأمين إلى منزلها مع العلم بأن الشهيد كان مطارداً من قوات الاحتلال وممنوع من الدخول إلى النبطية وقراها لأسباب أمنية.
حكمت الأمين الذي تخرج طبيباً من جامعات الإتحاد السوفياتي وأكمل تخصصه بأمراض القلب والشرايين في أشهر جامعات سويسرا هو الذي زار بيت الحجة طارقاً بابها متلفتاً يميناً ويساراً حتى لا يقع بأيدي قوات الإحتلال وحتى لا يتعرف عليه عملاء الداخل.
حكمت الأمين مؤسس مستشفى النجدة الشعبية اللبنانية، حبيب الفقراء وطبيبهم، أمل المحتاجين والمرضى. حكمت الأمين هو صندوق الضمان الاجتماعي للفقراء، يداوي بالمجان.. يصف الدواء ويدفع ثمنه من جيبه الخاص.. حامل رسالة الطب ومنفّذها بحذافيرها. قضى شهيداً خسره الفقراء قبل أن يخسره الوطن.. وكانت الخسارة الأكبر للحزب الشيوعي الذي خسر قائداً غيفارياً سيتذكره الجنوب وقراه… طويلاً.