فيدرالية الضرورة.. بلدات جنوبية تبتكر حلولًا لمشاكل محطات البنزين في لبنان
تبدو أزمة البنزين في الجنوب أكثر حدة من باقي المناطق. يتجلى ذلك من خلال الازدحام الشديد وغير الاعتيادي أمام محطات البنزين في لبنان. يلجأ البعض إلى ركن سياراتهم ليلاً أمام المحطات ولا ينتظروا ذلك إلى الصباح، حتى يضمنوا الحصول على حصتهم من البنزين.
وإذا كانت أسباب حدة الازدحام ليست واضحة، يعزي البعض ذلك إلى التهريب والسوق السوداء حيث يلجأ العديد من الأشخاص إلى تعبئة سياراتهم ومن ثم سحب الكمية منها وبيعها في السوق السوداء، ومن ثم الوقوف في الطوابير من جديد، وهذا ما يتم ملاحظته من خلال مشاهدة الأشخاص نفسهم يقفون يومياً في الطوابير أمام محطات البنزين في لبنان.
الأجواء المشحونة أمام المحطات تبشّر بانفجار حتمي باتت ملامحه تلوح في الأفق. يترافق ذلك مع غياب تام للجهات الرسمية التي وضعت المواطنين أمام أمر واقع وصعب. الأمر هو أن يتدبّروا أمورهم بأنفسهم لناحية تأمين مادة البنزين، وأيضاً تنظيم توزيع تلك المادة وهو ما بدأنا نشهده في العديد من البلدات والقرى.
تجهد العديد من البلديات في الجنوب لابتكار حلول بغية التخفيف من حدة الأزمة وزحمة الطوابير. برزت الحاجة إلى هذه المبادرات إثر الإشكالات المتكررة التي تحصل أمام المحطات والتي يذهب ضحيتها جرحى وتؤدي إلى إقفال المحطة وهي ازدادت كثيراً في الآونة الأخيرة.
بلدات جنوبية تبادر
بلدتي البرج الشمالي ومعركة في قضاء صور، كانتا السباقتين في هذا المجال. الأولى بإنشائها منصة إلكترونية لتسجيل الأسماء، والثانية من خلال الحصول على قسيمة أو “بون بنزين”.
في بلدة البرج الشمالي، وإثر ازدياد الاشكالات أمام محطات البنزين في لبنان، تشكّلت لجنة ضمت ممثلين عن كل من حركة أمل وحزب الله وبالتعاون مع البلدية عملت على إطلاق مبادرة هدفها تنظيم الأزمة، وتقضي بدعوة كل راغب في الحصول على البنزين إلى تسجيل إسمه ونوع سيارته ورقمها، والمحطة التي يتعامل معها، على منصة إلكترونية أنشأتها اللجنة لهذا الهدف.
من جانبه دعا رئيس بلدية البرج الشمالي علي ديب البلديات الأخرى للاقتداء بهذه الخطوة التي أثبتت فعاليتها. وقال إن المبادرة طُبّقت في محطتي وقود من أصل 13 محطة تقع في نطاق البلدة التي شهدت إقبالًا كبيرًا على المنصة، حيث سجّل أكثر من 3 آلاف شخص أسماءهم حتى اليوم.
على الخطى نفسها سارت بلديات أخرى في قضاء صور منها بلدتي طيردبا ومعركة حيث وضعتا خططًا مماثلة. في بلدة معركة يوجد ثلاث محطات للوقود بدأت البلدية تجربتها مع إحداها. عمّمت البلدية على أبنائها ضرورة الحصول على بطاقة صادرة من البلدية تمكّن صاحبها من تعبئة البنزين لمرة واحدة في الأسبوع.
يشرح رئيس البلدية عادل سعد الآلية المتبعة في هذه المبادرة وهي عبارة عن إعطاء بطاقة من المحطة لطالبي البنزين من أبناء البلدة والمقيمين فيها. على أن تحمل تلك البطاقة إسماً ورقماً تسلسلياً يتم من خلاله تنظيم الدور أمام محطات البنزين في لبنان.
يؤكد سعد أن لا استثناءات لأحد وُيمنع منعًا باتًّا تعبئة الغالونات. ويوضح أن الالتزام بالبطاقة أمر ضروري حيث سيصار إلى ختمها عند كل عملية تعبئة. ونفى سعد بشدة من خلال ڤيديو مصور انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي وجود سوق سوداء للبنزين في بلدة معركة. ودعا كل من يقول ذلك إلى إثباته من خلال التقاط الصور للعملية محذراً بشدة “بلغوا الشرطة في البلدة”.
شروط التوزيع لا تبشّر بالخير
بالرغم من أن الظاهرة تهدف إلى “تنظيم الأزمة” أمام محطات البنزين في لبنان ومنع الفوضى فيها، إلا أنّها تؤشر أيضًا لنماذج من الإدارة الذاتية بدأت ملامحها ترتسم من خلال تدبّر كل منطقة أمورها بنفسها. إذ ان التمييز في العديد من الملفات، ومنها ملف المحروقات، بات جغرافيًّا بين حي وآخر وقرية وأخرى. فقد عمدت العديد من البلدات إلى حصر توزيع البنزين بسكان البلدة والمقيمين فيها، ومنعه عن أبناء القرى الأخرى وعن قاطنيها من السوريين والفلسطينيين أيضًا.
يُنذر هذا الواقع بتفاقم الأمور وخروجها عن السيطرة. خصوصًا أن معظم البلدات في الجنوب يقطنها لاجئون ونازحون ومواطنون ليسوا من البلدة. كل هذه المشاهد التي ترتسم الآن ترسم مشهداً آخر يتذكره جيداً من شهدوا الحرب وعاشوا ويلاتها وأزماتها. وكيف بدأت الإدارات الذاتية حينها بمبادرات لتسيير أمور الناس وانتهت إلى كانتونات مغلقة لكل كانتون نظامه وأمنه وإدارته المستقلة.
الأوضاع تزداد صعوبة ومأساوية يوماً بعد يوم، والمواطن لا حول له ولا قوة. أصبحت عملية تعبئة البنزين من يوميات المواطن الأساسية، تستنزف وقته وأعصابه. عدا عن هم آخر هو تأمين الدواء والكهرباء والمياه وغيرها من أساسيات الحياة البديهية والتي هي حق له فأصبحت عبئاً عليه. يبقى أن مشاهد الذل التي ترتسم أمام المحطات والصيدليات وغيرها من المرافق أن لا ترسم مشاهداً أخرى أكثر سوءًا.