حول إكسبرسّات الضاحية ومسيّراتها واللّامبالاة بالموت

ما الوطن؟ سؤال طرحه عالم الاجتماع والرحّالة الفرنسيّ موريس باريز على نفسه ليردّ بالقول، وذلك عطفًا على تجارب وخيارات ومآلات بعض الجماعات البشريّة، إنّ الوطن هو أرض وموتى، الوطن فقط أرض وموتى.

كان ذلك عند أحد الإكسبرسّات الواقعة على الطريق الممتدّ بين محلّة المشرّفيّة وتقاطع الغبيري، لمّا انبثق من داخل ذهني جواب العالم الفرنسي عن سؤال ما الوطن. كان صوت المسيّرة الإسرائيليّة يخترق الأجواء عن بكرة أبيها، يخترق الأحاديث والسكوت، يخترق صوت ماكينة الإكسبرسّ، وسكب القهوة في الفناجين، وصولًا إلى صوت ارتشافها.

كان صوت المسيّرة قويًّا يخترق صوت العجقة، وصوت الملل، وأكثر ما يخترق ذلك البؤس المترامي، وأيضًا يخترق– وأقولها بعليّ الصوت– ما تبقّى من نعيم.

“صاروخ واحد ممكن يقشّنا كلّنا سوا”، قالها أحد الشبّان لرفاقه فيندرج بعدها كلّ الآخرين، من ضمنهم أنا، في موجة ضحك صاخب وكأنّي بالموت في هذه الديار مجرّد مزحة أو حالة موقّتة أو مراوحة بين فنجان قهوة وآخر.

“ناطرين” الصاروخ

لست أدري إذا كان من الفطنة، أن يكون المرء لا مباليًا بموته إلى هذا الحدّ، عندما يكون البقاء على قيد الحياة أقرب إلى مأزق دائم. فأن يكون البقاء على قيد الحياة، يحتاج إلى تقنيّات تتجاوز قدرة الإنسان من أجل البقاء حيًّا، فإنّ اللامبالاة عندئذ قد تكون مفهومة، بل وأقولها بأسف شديد، قد تكون مستساغة على نحو ما شاهدت الأمر عند ذلك الإكسبرسّ بصحبة أولئك الشبان.

“شو قاعدين عم نعمل يعني؟! هيك هيك ناطرين الصاروخ… خلّيه يجي بسرعة ويخلّصنا بقى”، قال واحد آخر وهو يمعن النظر في قعر فنجانه. كتب الرائع إلياس كانيتي صاحب رواية “نار الله” حيث– استطرادًا– أولئك الذين يسعون إلى الموت أو الجنون تحت وطأة ربّهم، كتب يقول: “إنّ أكثر صور النجاح بدائيّة هو البقاء على قيد الحياة”. إنّما، ماذا لمّا يكون المرء، بل ماذا لمّا تكون الجماعة بأمّها وأبيها بمثابة المادّة الخام للموت، للحروب الدائمة وللإنتصارات التي لا نهاية لها، ولسلاح يجب التمسّك به بصرف النظر عن كلفة هذا التمسّك الذي في بعض مضامينه صار أقرب إلى حفلة هزل ممجوجة؟

“طزّ، شو نحن أغلى من يللي راحو؟”… إنّها مأساة ضخمة أن يمتلك بعض الموتى– مهما علا شأنهم– قيمًا مفترضة تسوق الجميع إلى التماهي معهم، مع هؤلاء الموتى. إنّ الضاحية عندئذ– فضلًا عن الجنوب وبعلبك والبقاع والهرمل- هي مجرّد أرض موتى. فأن يكون الحاضر على الدوم غير ملائم، والمستقبل غير مؤكّد وماضي الانتصارات– أقلّه الماضي المتخيّل– لا مجال لاسترداده، فإنّ اللامبالاة بصاروخ متوقّع ربّما تتحوّل إلى تمنٍّ…”صُبّلّي فنجان تاني بسرعة، قبل ما نطير”، قال أحدهم وهو يتخاطف النظرات، بين أرض أعقاب سجائر انتظار الموت وسماء المسيّرات الإسرائيليّة.

بانتظار الجنازة القادمة

إنّ ترويض الموت وتدجينه، بما يستبطن هذا الترويض من إستخفاف بالموت، هو في بعض توظيفاته سعي للفرار من الحياة، بطولة وهميّة أو– بأحسن الحالات– هو تماه مع أولئك “السعداء” الذين، كما مرّ أعلاه، قد سبقونا و”ارتقوا”! فأن يكون صمّام الأمان في هذه الحياة يتمثّل في اللامبالاة حيال الصاروخ الذي ربّما يسقط فوق الرؤوس في أيّ لحظة فإنّ الحياة عندئذ هي استثناء أو فلنقل، هي تطفّل…هي مجرّد صخب موقّت بانتظار الجنازة القادمة.

“إنتَ آخر همّك”، قال لي أحد هؤلاء الرفاق، بإشارة منه إلى أنّني درزيّ، وكأنّي بهؤلاء على قناعة تامّة، أنّ الموت بالصواريخ، هو من اختصاص الشيعة في هذه البلاد! “بس مَرْتي شيعيّة”، قلت له وأنا أمجّ سيجارتي بتأنٍّ…”إيه لكان بتروح معها بالغلط” قال آخر بعليّ الصوت وضحكه وبمزاح التدفيش واللكمات المتبادلة.

هي مأساة ألّا يكون للحاضر قيمة تخصّه، بل أنّ أيّ قيمة قد تُضفى عليه، تقع هناك في مستقبل موهوم أو في ماض سحيق، أو في انتظار صاروخ ينقضّ أثناء ارتشاف القهوة

هي مأساة ألّا يكون للحاضر قيمة تخصّه، بل أنّ أيّ قيمة قد تُضفى عليه، تقع هناك في مستقبل موهوم أو في ماض سحيق، أو في انتظار صاروخ ينقضّ أثناء ارتشاف القهوة، مع الأصحاب عند إكسبرسّ في الضاحية.

خطابات البطولة والصمود

على الرغم من أجواء المزاح والضحك التي رافقتْ تلك الوقفة وقد امتدّتْ إلى ما يقارب الساعة مع هؤلاء الشباّن، فإنّني بصريح العبارة لم أكن على دراية تامّة حيال أيّ جزء من ملامحهم، كان عليّ تصديقه. هل تلك الملامح التي تترجم نفسها عبر ضجيج الأصوات وضحكها؟ أو تلك الملامح التي تشي بمحض اللامبالاة “ويلّلي بدّو يصير، يصير”؟

لست أدري، حقًّا لست أدري وإن كان ذلك الصمت الذي كان، من آن إلى آن، يداخل تلك الوقفة فوق ذاك الرصيف عند ذاك الإكسبرسّ ساقني بقوّة– ذلك الصمت-  لأن أصدّق تلك الملامح المخبّأة عميقًا والتي تبثّ كلّ علامات ضيق الخلق والزهق والملل من كلّ خطابات البطولة والصمود وتلك الإنتصارات المتألّقة.

ثمّة نكتة رومانيّة سادت في زمن الشيوعيّة في رومانيا تقول: “إنّ رومانيًّا بالحزب الشيوعيّ سأل رفيقه الشيوعيّ ماذا قد يفعل في حال صدر قرار بفتح الحدود؟ فأجابه، أتسلّق شجرة”. وذلك بإشارة منه إلى خوفه من أن يُداس تحت أقدام الهاربين من الشيوعيّة.

فضلًا عن اللّامبالاة، إنّ ملامح الملل الهائل التي كانت تتسرّب عبر مزاح أولئك الشبّان من خبريّة الانتصار وما شاكل من حكي “علفاضي”، إنّ هذه الملامح ساقتني إلى أن أتصوّر كلّ ضروب التسلّق، التي قد يعمد إليها هؤلاء الشبّان لو فُتح لهم باب النجاة من تألّق ونعيم الانتصارات… بينما تلك المسيّرة اللعينة، وعلى الرغم من ذلك التألّق والنعيم، تكاد تشاركنا شرب القهوة عبر “شيليمونة” ربّما تمدّها من مكانها في سماء الضاحية إلى ذلك الإكسبرسّ على رصيف المشرّفيّة- الغبيري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى