خليل روكز من وادي الليمون إلى ذاكرة لبنان المنسيّة

في وهاد وادي الليمون، إحدى قرى قضاء جزين، وُلد خليل روكز في كانون الأول (ديسمبر) العام 1922، كما لو أنّ القصيدة الزجليّة اختارته لتكوّن جلدها الأخير. لم يكن الشعر لديه هواية ولا حرفة، بل نمط وجود، صيغة عيش، وصرخة شعبيّة في وجه الرتابة الريفيّة.

في زمنٍ تُلمّع فيه الواجهة الثقافيّة الرسميّة وجوهًا مألوفة وتنسى الأطراف، بقي صوت خليل روكز مُهمّشًا على رغم زخمه، لأنّ الزجل في لبنان ظلّ يُقرأ كتراث صوتيّ وليس كفكر. لكن من يُنصت بدقّة، يعرف أنّ روكز لم يكن شاعرًا بالمعنى التقليديّ، بل مفكّر بالفطرة، حفّار في الوعي الجماعيّ، وناقد للنظام من داخل اللهجة.

شاعر المفارقات اليوميّة

ليست قصائد خليل روكز أهازيجَ طربيّة تُؤنس السهرات، بقدر ما هي تقارير شعريّة دقيقة صادرة عن “مركز مراقبة المفارقات اليوميّة”، فها هو في واحدة من أشهر مناظراته، يتأمّل (بكلّ عفويّة محمّلة بالدهشة) ما الذي قد يربحه الطالب اللبنانيّ من دروس أبي نوّاس، سوى تمرينٍ أدبيٍّ راقٍ على استنشاق رائحة الخمر، وتعرّفٍ مبكّر على آداب السهر الملوكي:

“وهالطالب الطالب علم عن إعتقاد
من شعر (بو النواس) شو رح يستفيد
إلّا روايح خمر وعيوب وفساد
وعربدة سهرات (هارون الرشيد)”.

هكذا، بلسان لا يخلو من حذقٍ قرويّ، يعيد روكز تركيب السؤال الثقافيّ برمّته: هل أن التعليم فعل تنويريّ أم رحلةٌ مُبرمجة على طريقٍ ذات اتّجاه واحد؟

لا يصطاد شاعرنا الأسماك الكبيرة في بحر الفلسفة، لكنّه يرمي صنارته في برك الحياة اليوميّة، ليلتقط منها أسئلته الصغيرة… تلك التي تُحرج الإجابات الجاهزة أكثر ممّا تناقضها.

القصيدة تشريح أخلاقي

يكتب روكز عن الناس مثلما يكتب الطبيب عن الأعراض. لا يتورّع عن تسمية الازدواجيّة بأسمائها، ولا يجمّل الوحش وهو يلبس قناع الخزامى:

“وبالناس أجواخ النوايا مبطّني
بحيّات سوء وشوك والظاهر خزام”

في هذا البيت تتكثّف فلسفة الشاعر: الإنسان ليس صورةً إنسانيّة، بل كائن متقن التمويه. التحضّر لا يُنهي الوحش، بل يُحسن تمويهه.

الشاعر الزجلي خليل روكز
الزجل حقل مقاومة معرفيّة

منذ بداياته، أدرك خليل روكز أنّ الشعر الشعبيّ ليس حنجرةً مرتفعة ولا طقطقة قواف على وتر الطرب، بل حقلُ ألغامٍ للمعاني الثقيلة. كان المنبر بالنسبة إليه شيئًا آخر غير ما اعتاده الناس: لا ساحة استعراضٍ لعضلات البلاغة، ولا وليمةً للتصفيق الجماعيّ، بل أقرب إلى محكمة ميدانيّة تُعرض فيها القضايا الساخنة، وتُستجوب المفاهيم لا الأشخاص.

نقل روكز الزجل من تقاليد المبارزة الصوتيّة إلى فضاء يتداخل فيه الشعريّ بالفلسفيّ، واللغويّ بالاجتماعيّ. لم يكن يرضى أن يكون الشاعرُ شاهدًا على العصر، بل أراده أن يكون أحد مهندسيه. فجأة، صار الزجل – على يده – لا يكتفي برسم ملامح الزمن، بل يجرؤ على مساءلتها.

في واحدة من صرخاته البارزة، يتوجّه إلى “المربّين” ليس بوصفهم موظّفي معرفة، بل كحاملي رسالة، فيحذّرهم من الحياد الناعم الذي ربّما يُلبس التقدّم ثوب النكوص:

“يا مخصّصين للتربية وعلم الولاد
لا توقفوا بموكب حضارة عالحياد
ولا تخلّونا عن الواقع بعاد
ونرجع لعصر الجاهليّة والعبيد”

هنا لا يتحدّث شاعر بل مفكر يرتدي عباءة الريف وصوت الجبل، يكتب ليس من أجل المتعة بل من أجل المعنى، ويمنح القصيدة وظيفة اجتماعيّة تفكّك الزمن الحاضر كما تُفكّك المفردة. لقد كان واثقًا أنّ الزجل قادر على فتح ما أُغلق من أبواب النقاش، وعلى تهشيم الصور المعلّبة التي تُمرّر باسم الحداثة أو التراث.

وبهذا، يكون خليل قد حرّر الزجل من “خيمته”، غير آبه في أن يُتباهى به في الصالونات، إنّما ليفتحه على الهواء الطلق، حيث الأفكار تتنفّس، واللغة تتوحّد مع حياة الناس.

المرأة والسياسة والهندسة النفسيّة

لم تُكتب المرأة عند خليل روكز بوصفها كائناً جميلاً يستدرج القوافي، أو كصدى لعاطفةٍ مترجرجة في مساءٍ ريفيّ، كتبت بكونها كاشفة كبرى لمستور المجتمع، على نحو مِجسٍّ حسّاس يقيس عمق الخلل وليس دفء المشاعر. ما كان الغزل عنده لعبة مزاج، بل اعتبره مقياس لدرجة وعي الجماعة، وانعكاس لطبيعة العقد الاجتماعيّ بين الفرد وسلطته، بين العاطفة ومؤسّساتها، بين الجسد ونظامه الرمزي. كانت المرأة، في نصوصه، مرآة مشروخة لنظامٍ مأزوم، ومفتاحًا لفهم أيّ مشروع إصلاح حقيقيّ، يبدأ منها أو لا يبدأ أبدًا.

لم تُكتب المرأة عند خليل روكز بوصفها كائناً جميلاً يستدرج القوافي، أو كصدى لعاطفةٍ مترجرجة في مساءٍ ريفيّ، كتبت بكونها كاشفة كبرى لمستور المجتمع

لم ينظر صديقنا إلى “الأنوثة” برمزيّة بيولوجيّة، رآها موقعًا محاصرًا بين تربيتين: تربية العائلة المأزومة، وتربية الدولة التي تمسح على الرأس لتصنع الطاعة. وبحدسه، من دون قراءة كتب التنظير. عرف خليل أنّ كلّ نظام سياسي هشّ، مهما لبس من أقنعة تنويريّة، سيعيد إنتاج نساء مقموعات باسم الحياء، وأطفالٍ مصنّعين على خطوط إنتاج الولاء.

هكذا، في عالمٍ تُروّج فيه القصائد العاطفيّة لصورة الحبيب النقيّ والمحبوبة الملائكيّة، يكتب خليل الغزل كمن يكتب وثيقة نكسة. في قصيدة “نسيتك”، نقرأ عن وطن خُذل، وليس عن إمرأة مهملة، وعن هويّة ضاعت بين الألقاب والخيبة:

“ومن بعد ما كنتي رفيقة عمر
صرت إندهلك يا شو إسمك”

بهذا البيت، يقلب روكز الطاولة على ما يُنتظر من الشاعر العاطفيّ. فالحبيبة ليست شخصًا، بل استعارة لحبٍّ فاشل جمعه بالوطن، بالتاريخ، بالذات الأولى قبل أن تتشظّى. إنّه لا ينسى امرأة وحسب، هو ينسى نفسه القديمة معها، تلك التي صدّقت الحكاية.

إنّه نسيان من نوع خاص، يفضح العقد: كأنّ الحبّ كان تواطؤًا، والذاكرة جريمة هنا لم يسع إلى تحرير القلب. وكأنّنا، في النهاية، نحبّ الأوطان كما نحبّ النساء: بالرهان على الغفران، حتى تُفاجئنا الخيانة في أوضح تجلّياتها.

جاءت قصائد خليل كمطرقة ناعمة تضرب الخلل في مهده، ليس في مظاهره. لهذا، لا يمكن أن نقرأ غزله من دون أن نسمع في خلفيّته بكاء هويّة تُغتصب، وخيانة مجتمعٍ يتفنّن في إخفاء ما لا يريد أن يعترف به.

من النسيان إلى التوثيق

توفي خليل روكز في الـ 27 من تشرين الثاني (نوفمبر) 1962، لكنّ موته لم يُنهِ حضوره، بل خلّف ظلًّا طويلًا يتجوّل بين المنابر، وينهض كلّما علا صوتٌ من الجنوب يطلب المعنى من دون الإيقاع. فصوته، وإن خفت، لم يُطفأ، وكلماته، وإن غابت عن المناهج، ما زالت تتردّد في الساحات كجراح تُفتح على الهواء الطلق.

في زمنٍ تُختصر فيه الثقافة بتغريدة، والقصيدة بـ “ترند”، يبقى الزجل على نحو ما كتبه خليل روكز، حقلًا حيًّا للمعرفة، وساحةً مشروعة لتوليد الأسئلة من قلب اللهجة. لقد استطاع أن يُحدث انزياحات إبداعيّة لافتة داخل القصيدة الزجليّة، قاطعًا بها المسافة الفاصلة بين الغناء والتفكير، بين الصوت والفكرة، بين الترفيه والموقف. كان الزجل في يده يميل نحو الشعر من دون أن يفقد موسيقاه، ويتّجه نحو التأمّل من دون أن يتخلّى عن الجماهير.

ومع ذلك، لم يُدرس كما يجب. ظلّ خليل، ككثير من شعراء الزجل، حبيس الظلّ، ليس لأنّ تجربته ضئيلة، بل لأنّ قصيدة الزجل نفسها ما زالت تعاني من تهميش مزدوج: تُقرأ كابنة للصوت لا للفكر، وكأنّها تترنّح أبديًّا بين الشعر والغناء، بين الخشبة والصفحة، دون أن تُعامل كجنس أدبيّ يستحقّ التأمّل والنقد والاحتضان الأكّاديميّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى