سجّاد الفاكهة بعد 3 قرون…مهنة تحتضر بعد مجد وعز

نول ٌ، سدّه، خيوط صوف، مغزل، مشط، ومقص وسجادة. هذه ليست أسماء فقط، كانت في بلدة الفاكهة عدّة حياة وعيش وفن، يمكن اختصارها “سجاد الفاكهة”، هذا الاسم الذي كان يعني في الماضي. هي مهنة صناعة السجاد. وها هي اليوم هذه المهنة تقترب من أن تكون تاريخا فقط. تاريخ عمره أكثر من ثلاثمائة عام، يصعب انفكاكه عن تاريخ البلدة نفسها.

لم تكن هذه المهنة ابنة بلدة الفاكهة، لكن فيما بعد أصبحت البلدة ابنة هذه المهنة. هي جاءت إليها بمصادفة عائلية، عندما تزوج أحد  أبناء الفاكهة من فتاة تجيد حياكة السجاد من بلدة عيدمون في الشمال. تولت العروس تعليم فتيات بلدتها الجديدة حياكة السجاد. انتقلت بعدها هذه الحرفة إلى كل بيت في الفاكهة، وأصبحت أساس ومورد عيش كل أبناء البلدة.

كان في كلّ بيت نولٌ أو أكثر للحياكة. النول الصغير تحيك عليه فتاة واحدة. والكبير تعمل عليه عدة نساء، وهو مخصصا للسجاد الكبير الذي تبلغ أبعاده ٤ أمتار طولا، و٣ أمتار عرضا.

سجّاد الفاكهة
أدوات دقيقة للحياكة
مهنة نسائية

٧٥٪ من أهالي بلدة الفاكهة وأكثر كانوا في الماضي يعتاشون من عملهم في حياكة السجاد. فالسيدة فاطمة الحلاني هي من القلّة التي لا زالت تعمل حتى هذا اليوم بحياكة السجاد. تحفظ فاطمة عرفان هذه المهنة على الفاكهة وأهلها. وتقول “حياكة السجاد في الفاكهة لها الفضل في انها خرّجت العديد من الأساتذة والأطباء والمهندسين”.

وتعد هذه المهنة صناعة نسائية في مراحلها الدقيقة والفنية. وتقول فاطمة “كانت الأمهات يعملن في حياكة السجاد ليل نهار دون كلل أو ملل أو تذمر ليجمعن أقساط المدارس والجامعات”. ولم تكن هذه المساهمة النسائية بلا ثمن. فقد أدى انخراط فتيات البلدة في هذه الحرفة، إلى حرمانهن من تحصيل العلم. ذلك أن زيادة الانتاج في مشاغل السجاد الخاصة بهم، دفع الأهل لتفريغ فتياتهن في أعمال الحياكة.

كانت هذه الصناعة توفر مداخيل محترمة لأهل الفاكهة. فوالدة فاطمة، واسمها سهام مراد وهي مشهورة في حياكة السجاد، شيّدت خمسة بيوت لأولادها من مهنتها.

سجّاد الفاكهة
صناعة الفاكهة

كان معظم بيوت الفاكهة يحوي مشاغل لحياكة السجاد. ففي كل بيت كان يعمل ما بين الخمس إلى إحدى عشرة فتاةً. كما جرت العادة أن كل فتاة تحيك لها طاقماً كاملاً من السجاد ك”جهاز” لعرسها تأخذه معها إلى منزل الزوجية.

وبالرغم من تاريخ هذه الحرفة وأهميتها وانتشارها ، لم يتم بناء معامل لها، وظلّت منزلية. وكان في كل بيت غرفة مخصصة للحياكة يختلف تبعا لعدد العاملات فيها. واللطيف، أن الحياكة اليدوية حافظت على أصالتها وعلى جودتها دون أن تمسها تحديثات تنال من هذه الأصالة.

سجاد الفاكهة.. مراحل التصنيع

سجاد الفاكهة من صوف الغنم الطبيعي.  وتصنيعه يمر بمراحل متعددة تحتاج إلى خبرات. وتقول فاطمة عن هذه المراحل أنها تبدأ، بجمع الصوف. بعدها يتم غسله وتنظيفه وتمشيطه ثم وضعه في الشمس ليجف. والهدف من تمشيط الصوف أن يصبح ناعما. يُنقل الصوف إلى المغزل ويُصار إلى تحويله إلى خيطان رقيقية. يلي ذلك، عملية صبغ الصوف.

حيث يوضع في إناء على النار ويتم غليه لساعتين. يُضاف إلى الصوف المغلي مادة إسمها “فطام” لتثبيت اللون. بعد الصبغ يتم غسل الصوف بالمياه الباردة وتجفيفه من جديد ولفّه بشكلً كروي يدعى “كبكوب”. عندها يوضع “الكبكوب” على النول الخشبي “المُسدّى” اي الموضوع عليه مجموعة من الخيطان.وتبدأ عملية الحياكة وتمزج الالوان بحسب الرغبة والرسومات المطلوبة.

إثر هذه المراحل تكون النتيجة إما سجادة كبيرة أو مسنداً أو دوشكاً ، تكايةً، سجادة صلاة، لوحة فنّية أو كرسياً بحرياً. وهكذا فإن الحياكة لم تقتصر فقط على السجاد، بل أصبحت في وقت لاحقٍ حياكة تشمل كل شيء. هناك لوحات فنية تحمل صورة قلعة بعلبك أو الارزة، أو العلم اللبناني. وكذلك يتم حياكة سجاجيد عليها صور لشخصيات سياسية وفنية تزيّن الجدران.

وتضيف الحلاني إلى أنه لهذه الحياكة رسومات تحمل أسماء شتى يجهلها الناس. من هذه الرسوم السبع بحرات، الفل، ورقة التين، ابو الحمام، جنزير ابو طبار، شتلة خبصة، كاسات الورد بالإضافة إلى الرسومات الإيرانية. بينما تستغرب فاطمة كيف أن الزبائن يكتفون بتحديد الألوان لطلبياتهم فقط، لا سيما الخمري والأسود والأبيض دون تحديد الرسمة.

حكاية صناعة السجاد في الفاكهة، هي حكاية المرأة في تلك البلدة. وإلى هذه المرأة يعود فضل شهرة سجاد الفاكهة،فنّا ومهارة وجمالا واتقانا. وكذلك دور هذه المرأة في تأمين مورد الرزق لعائلتها ومساعدة ابنائها وبناتها على تحصيل العلم في المدارس والجامعات.

سجاد الفاكهة والقصر الجمهوري

ضربت شهرة سجاد الفاكهة الآفاق مما راكمته في 3 قرون، كان القصر الجمهوري مفروشا بها، حيث كانت فخر جهاز العرائس وزينة للصالونات الفاخرة. مع كل ذلك، أصبحت اليوم مجرد حكاية تُروى. وأصبحت أدواتها اشكالاً للتراث والزينة والذكرى والبعض تخلى عنها، والبعض الآخر باعها.

فهذه المهنة التي كانت تضج بها بلدة الفاكهة ومعظم أهلها يجيدونها هي اليوم تتجه بدون مبالغة نحو الانقراض. قلة قليلة معدودة على أصابع اليد الواحدة لا زالت تعمل بهذه الحرفة. بينما يقتصر عمل هذه القلة على غزل لوحة أو سجادة صلاة أو صورة بناء على الطلب الذي تراجع إلى الصفر. فمن سيطلب سجادة باتت قيمتها تفوق العشرة ملايين ليرة لبنانية بكثير في ظل وضعٍ معيشيٍ متردٍ؟.

كما تقول الحلاني أنه في السابق لم يكن العمل مكلفاً. وتضيف “كنا نحضر الصوف الذي كان متوفراً بكميات كبيرة في لبنان وبأسعار زهيدة. ونحضر باقي المواد والأدوات من سوريا وحمص أيضاً بأسعار لا تذكر. وكان سعر السجادة مقبولا حيث أن الزبون يحصل على سجادة كاملة الجودة والنوعية بسعر يناسبه.  أما اليوم الأمر مختلفٌ تماما ً أصبحت كل المواد من السدة إلى الصبغة باهظة الثمن. فمثلا ً كنا نشتري الصبغة والسده من حمص في سوريا بتكلفة مئتي ليرة سورية للكيلوغرام. اليوم يبلغ سعره في السوق اللبناني أكثر من مئة ألف ليرة لبنانية. هذا الغلاء كان سببا ً إضافياً في تراجع العمل بهذه الحرفة.

لكن غلاء الأسعار ليس السبب الوحيد الذي يقف وراء انقراض هذه الحياكة. فالفتيات اللواتي كنّ يشكلن اليد العاملة أو المورد البشري لهذا العمل شققن طريقا آخر لمستقبلهن. فلم يعد لديهن متسع من الوقت لممارسة هذا العمل. وبعضهن يرين هذه المهنة لا تلبي طموحهن. بدأت هذه المهنة تفقد عنصرها البشري. قلة من الفتيات يقبلن عليها. مما يهدد في الأيام القادمة ان تندثر هذه الحرفة أو الحياكة وتموت بموت أصحابها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى