“شايب الهيبة” محمّد عقيل.. من متاريس الحرب إلى أضواء الفن
هي الحرب، لا يمكن أن تترك لنا الإنسان الذي كنّاه، إلّا أنّها تترك تذكارًا منه، وشيئًا من الذاكرة الحتميّة التي يشوبها غبش. إن لم تمت الأجساد في الحرب، تموت الكينونة والشّعور والدوافع والغاية، وفي بعض الأحيان قد تموت الأسامي.
ما زالت في ذاكرتنا لنكتب عنها بعد مرور 49 عامًا، لا تزال قاسية ووحشيّة وعارمة بذاكرة وحكايا مَن ماتوا وبقيَت أجسادهم، حمّلتهم ذكريات لا تُنسى وأشباحَ أناس ربّما تخلّوا عنهم، ولكن الأشباح تعود، إمّا تسكن تحت الأسرّة لتوقظ ضوضاء الصدمة، وإمّا لتشعل أضواء النجوميّة.
هذه الأخيرة هي ما حالفت الممثّل محمد عقيل الذي سطع نجمه في العام 2019 في مسلسل “الهيبة” بدور “أبو طلال الشايب”، حيث لعب دور الصديق الوفيّ لجبل شيخ الجبل (تيم حسن). استطاع “الشايب” أن يأخذ حيّزًا من إعجاب المشاهدين، حتّى أنّ الناس ولمدّة طويلة لم تعد تعرف محمد عقيل باسمه الحقيقيّ، بل كانت في الطرقات تنده عليه باسم “الشايب”، وذلك لتعلّقهم بالدّور الذي لعبه عقيل باحترافيّة وإتقان حتّى قالت عنه السّيدة منى واصف: “كتير بحبّوك بسوريّا، هاد الدور عليك حفر وتنزيل”.
الناس ولمدّة طويلة لم تعد تعرف محمد عقيل باسمه الحقيقيّ، بل كانت تنده عليه باسم “الشايب”، وذلك لتعلّقهم بالدّور الذي لعبه باحترافيّة وإتقان حتّى قالت عنه السّيدة منى واصف: “كتير بحبّوك بسوريّا، هاد الدور عليك حفر وتنزيل”.
“الشايب” الذي لم يولد من الفراغ، بل من ضوضاء الحرب نفسها، يعود في ذكرى 13 نيسان ليقف مع ذكرياته أمام مباني خطوط التماس في الشيّاح حيث عاش وقاتل في صفوف عديدة، ليحكي عن رجلٍ واحد، بجسدٍ واحد، ولكن تعدّدت أسماؤه، كلّ اسم غيّب الذي سبقه، كما غيّبت الحرب عديدًا وحوّلتهم إلى ذكرى، علّها تُذكَر ولا تُعاد.
“هَدَف”.. صبيٌّ بنظرة ثائرة
بنظرته الحادّة الناطقة والثائرة، كان يقف على خطوط التماس ببزّته العسكريّة حاملًا السلاح الّذي مهما ألبسناه طابع الرّقة يظلّ سلاحًا، لا يُستخدَم إلّا للتخويف والقتل. كان صبيًّا في مقتبل العمر، سمّاه الأصدقاء القُدامى “هَدَف” لأنّه الوحيد الّذي كان يصيب أهدافه كلّها، وظلّ يحمل اسمه هذا على كتفيه كما يحمل سلاحه الحربيّ، دون أن يعرف هدَف أنّ “الأسامي” هي من ستلّخص مراحل حياته جميعها، وأنّ هدَف بحدّ ذاته سيلاحقه كتذكار، منذ الصِّبا حتّى اليوم، إلّا أنّه سيظهر في ما بعد على هيئات أخرى.
“هدَف هو من نقلني من مرحلة الولدنة إلى مرحلة النّضج. معه عرفتُ أوّل انتفاضة، عرفتُ أوّل تمرّد، عرفتُ معنى الديكتاتوريّة، رأس المال، الفقراء، الأغنياء، عرفتُ قيمة المال وقيمة العرق والعمل. كنتُ طفلًا في ضيعتي البقاعيّة بدنايل، حيث تعرّفت إلى الشّيوعيّة، وهناك أسّستُ حلقات من الأصدقاء أطلقوا عليّ اسم هدَف” يقول محمد عقيل في حديث إلى “مناطق نت”.
من رحم الشيوعيّة خرج هَدَف منقادًا إلى أفكار أيديولوجيّة، سرحت بخياله حتّى لبّس والده ابن الأرض البعلبكيّة الصلبة، بزّات الأفكار نفسها، فتخيّله الديكتاتور القاسي، وأنّه “البرجوازيّة”، بينما هَدف في نظر نفسه كان الفقير “المعتّر” والعامل الكادح والفلّاح. تمرّد هَدف على حكم والده وعلى سلطته، وترك مملكة والده الخياليّة هاربًا من نسيم القرى إلى رياح بيروت.
“هدف” والشيوعيّون والسلاح
يقول محمد: “فجأةً وجدت نفسي لوحدي في المدينة، مضطرًّا أن أتحوّل من ولد إلى “زلمي”، وكنت في وقتها لا أزال هدف نفسه الذي استمرّ معي حتّى العام 1990. في بيروت، في محلّة سكني في الشيّاح، حيث تعرّفت إلى “فتح”، أولاد الحيّ، وتدرّبت معهم إلى أن انتسبت إلى الشيوعيّين الذين كنت أعرفهم من الضيعة”.
ويتابع: “مع الشيوعيين حملت السلاح وقاتلت في الشارع وخضت دورات عديدة، وخدمت في العديد من جبهات القتال، إلى أن طلبت من الحزب الشيوعي منحة لأدرس الموسيقى في الاتّحاد السوفييتي، ولسوء الحظ لم تتوافر منحة دراسة الموسيقى، فاخترت دورة الضّباط التي استمرت مدّة ستة أشهر، وعدت إلى لبنان ضابطًا بمهام أكبر”.
في عزّ الحرب كان هَدف ينشغل خلال خدمته على المحاور بعزف العود، “كان سلاحي في يدٍ، والعود في يدي الأخرى” يقول.
بحسب محمد شارك هدف بالحرب اللّبنانيّة بغية الانتماء إلى مجموعة تحميه مقابل أن يحمل آراءها وأفكارها. “بعد فتح والحزب الشيوعي، صرت مقاومًا في جبهة المقاومة، وذلك إلى أن انتهى هدف مع خروج العدو الإسرائيليّ من الأراضي اللبنانيّة، فطويت صفحة هدف، وتعرّفتُ إلى زوجتي إيمان. تحوّلتُ من رجل مدجّج بالأسلحة إلى رجل مسالم ينادي بالسلام، وعدت إلى اسمي الحقيقي محمّد”.
محمد عقيل.. أب وموظّف
ما تطلّبته عودة محمّد إلى نفسه، إلى أصله، هو أن يقتل هدف بنقيضه، فاتّجه إلى الفنّ، نقيض الحرب الأوّل. لذا أوّل ما قام به محمّد، أنّه درس موسيقى عود وغناء شرقي في المعهد الموسيقي ستّ سنوات، ثمّ درس في المعهد العالي للفنون المسرحيّة في الجامعة اللبنانيّة وحصل على الدبلوم.
من اللحظة الأولى حينما دخل محمّد إلى كهف المسرح، مارس التمثيل إلى اللحظة. شارك في ما يقارب 40 مسرحيّة، وفي عديد أفلام منها “هلّأ لوين”، “بلا ولا شي”، “باب الشمس”، “مفقود”.. وقد حصل على كثير من الجوائز العالميّة لأفضل ممثّل عن فيلمَي “الحمار” و”الخدم”. كذلك شارك عقيل في عديد من المسلسلات التلفزيونيّة أهمّها “داون تاون”، “الغريب”، “للموت” و”الهيبة”.
يقول محمّد: “زوجتي إيمان هي من نشلتني من المستنقع الذي كنت أغرق به، كنتُ ضائعًا لا بيت لي ولا أهل، ولا حاضر، فقالت لي أنا بيتك أنا أهلك أنا عائلتك. كتبت الدبلوم في بيت الزوجيّة، ونتاج هذا الزواج كان ابني حسن “الساحر” وحازم “المهندس”، وتوظفت في تلفزيون المستقبل، وبقيت موظفًا 24 عامًا”.
ما تطلّبته عودة محمّد إلى نفسه، إلى أصله، هو أن يقتل هدف بنقيضه، فاتّجه إلى الفنّ، نقيض الحرب الأوّل. لذا أوّل ما قام به محمّد، أنّه درس موسيقى عود وغناء شرقي في المعهد الموسيقي ستّ سنوات
في تلك المرحلة وُلد محمّد عقيل الأب والموظّف الذي لم يطمح إلى الكثير، إذ إنّ الوظيفة أخذت من وقته وعمره كثيرًا، فلعب أدوارًا تمثيليّة بسيطة وصفها بالـ”طراطيش”. ويتابع عقيل:” ضيّعت 24 عامًا، كان بإمكاني أن أكون خلالها نجمًا من نجوم لبنان، لأنّني أستحقّ ذلك، ولكنّ وظيفتي قيّدتني. كنت أحلم دائمًا بترك الوظيفة التي كانت في بالي الأمان الوحيد، وأن أتفرّغ من أجل التمثيل الذي كان في بالي مخاطرة كبرى، ولكن في النهاية اتّضح أن الوظيفة هي أمان خادع، إذ طردوني منها في العام 2017، وكانت أكبر خدمة لي”.
العودة إلى الديكتاتور
يضيف محمّد: “في ذلك الوقت وبعدما تركت الوظيفة، كانت كّل الأبواب مغلقة بوجهي، ولم يتبقَّ لي إلّا فتح الباب الذي أعرفه، الباب الذي يأكله الغبار. فتحت ذلك الباب، شعرت بالهواء والضوء الذي يعبر إليّ من خلاله وعدت إلى محمّد الممثّل”.
في حينه اضطرّ محمد عقيل للعودة إلى غياهب الدراما اللبنانيّة التي وبرأيه كانت بالحضيض، “كنت متكبّرًا على الأعمال الدراميّة، أمّا الآن فلا أستطيع ذلك، أنا جزء منها وهي مورد رزقي. بالإضافة إلى أنّه في العام 2017، تنشّطت الدراما من جديد وصار هناك ما يُسمّى بالدراما المشتركة إثر الحرب السوريّة التي صدّرت لنا نجوم سوريا وإنتاجاتهم الضخمة التي أعطت للدراما شأنًا”.
وسط ذلك كلّه مدّ صناع الدراما أيديهم إلى الممثّلين اللبنانيّين من جديد، بغية الوقوف أمام النجوم والممثلين العرب، “وكان من حظّي أن أكون منهم، فعدت إلى التمثيل وشاركت في عديد من المسلسلات، إلى أن أتى “الشايب”، الإسم الثالث”.
ويتابع محمّد: “في العام 2019 عرضت عليّ شركة الصّبّاح أن أشارك في مسلسل لقي نجاحًا مبهرًا وهو “الهيبة”. في الهيبة كانت كلّ عناصر النجاح، من الإنتاج الضخم لأهم شركة إنتاج عربيّة، إلى أهمّ النجوم اللبنانيّين والعرب، إلى الدعاية الناجحة بالشراكة مع “شاهد” و”أم بي سي”.
عودة من “الشايب” إلى “هَدَف” والفنّ
كان “الشايب” بمثابة دَور العمر بالنسبة إلى محمّد، الدور الذي يشبهه، الذي يعيش في ماضيه وحاضره ووعيه وتاريخه. “الشايب هو خلاصة شخصيّات جمعتها من الطفولة، من أرض بدنايل، من عمّي الشايب وأبي الشايب ومختار الضيعة الشايب. لبست عمّي والمختار وأبي، وعشت الدور أمام الكاميرا، لم أمثّله، لذلك لاقى الدور استحسان الناس”.
قبل “الشايب” لعب محمّد عقيل أدوارًا كبيرة ومهمّة وقد تكون أهمّ من دوره هذا بكثير، وبعد “الشايب” لعب أيضًا أدوارًا أهمّ منه بكثير، ولكن ذلك الرجل الشايب هو من جذب الناس، لأنّ في شخصيّة أبي طلال خلفيّة مبنيّة على أحداث حقيقيّة عاشها محمّد مع “هَدَف” الصبي ابن ضيعة بدنايل البقاعيّة، ابن البارودة والتمرّد، ابن الحرب والقتال، ابن أبيه وفكرة “الديكتاتور”. النقطة المحسوبة للشايب كانت في العودة إلى هَدف، في العودة إلى أيام الصّبا وفي الحنين إلى العائلة التي تركها هَدَف متمرّدًا عليها.
بعد أكثر من 49 عامًا على الحرب وذكراها، يتذكّر محمد عقيل “الشايب”، أيّام الصّبا بحنين إلى الرفاق والضيعة وأيّام السّرقة حين سرق “كاسيت”، وجد فيه لأوّل مرة شغفه بالموسيقى والتمثيل. “علّمني رفاق الصبا في الضيعة السرقة، كنا نسرق الخوخ والجوز، إلى أن سرقت في مرّة من المرّات “كاسيت” من “مسجّلة” سيارة بنت عمّي، وكان ألبوم لمارسيل خليفة اسمه “وعودٌ من العاصفة”، سحَرني الكاسيت وسحرني العُود. حفظت الكاسيت كلّه، وجمّعت الرفاق على سطح البناية وحوّلته إلى مسرح وغنّيت مارسيل خليفة”.
يتابع عقيل: “في ما بعد وبعد انتقالي إلى بيروت أسّست عدة فرق، منها فرقة “قرايبنا” التي ما زالت تنتج حتّى اليوم. خلال سنوات الدراسة في المعهد الموسيقيّ كنت أعمل مساعد “سنغريّ”، حين كنت أنتهي من دوام العمل أتوجّه مباشرة إلى المعهد لأعزف على العود بيديّي المليئتين بالجراح والخدوش والدم”.
ويضيف: “في آخر سنواتي في المعهد، كانت لا تزال بيروت منقسمة شرقيّة وغربيّة، وكان من المفترض أن تكون اللجنة التي يجب أن أتخرّج من تحت يديها مقسومة بين مسيحيّة وإسلاميّة، ولم تجتمع هذه اللجنة لتعطيني شهادة الدبلوم، فتخلّيت عن شهادة الموسيقى متوجّها إلى دراسة التمثيل”.
اسمٌ رابع!
بعد رحلة محمّد عقيل الطويلة بين الأسماء العديدة والمسرحيّات والأفلام والمسلسلات والفرق الموسيقيّة، إلى ماذا يطمح محمّد بعد، هل نتوقّع له بزوغ اسم رابع؟
يجيب محمّد: “هذا سؤال أسمعه للمرّة الأولى. أعتقد أنّني وبعدما صعدت هذا الجبل الطويل، لا تزال أمامي الآن رحلة النزول وهذا لا يؤلمني. أشعر أنّني في نزولي اليوم، ثابت أكثر من السابق، أنضج من السابق، أذكى من السابق. في نزولي هذا أمشي على مهل، أتصالح مع نفسي، أختلي بها”.
وما هو طموحك اليوم؟ يجيب: “طموحي اليوم أن أكتب قصّتي، وقد شرعت بذلك، قصّة أبي والعائلة.. ربّما أنهي كتابتها حين أعود إلى ضيعتي “بدنايل”، هاربًا من هذه المحرقة إلى حيث أنتمي. أريد أن أكتب وأزرع، وربّما يومًا ما أمثّل دور والدي، بينما يمثّل ابني دوري أنا. ربّما هذا حلمي!”.
في النهاية، نعود إلى محمّد الطفل، إلى هَدف ومحمّد والشايب، هل كان يحلم ذلك الطفل بما وصل إليه محمّد اليوم؟ يجيب محمّد: “أنا لم أتغيّر ما زلت محمّد الطفل الذي يمشي في جيناتي، ولدًا حالمًا يحبّ أن يسرح في الطبيعة. أنا ولدٌ بروح حرّة، أستيقظ كلّ يوم وأسأل نفسي: ماذا سأفعل اليوم لأظلّ إنسانًا؟”.