شتلة التبغ الحمراء.. تاريخ فلّاحي جبل عامل المُر

نستكشف في هذه المقالة بعضًا من تاريخ جبل عامل المهمل، ولا سيّما قبل استقلال الكيان اللبنانيّ، في ظلّ الانتداب الفرنسيّ وبعد إعلان دولة لبنان الكبير. والحديث هنا عن فئة الفلّاحين وما عانوه حتّى مع دولة الاستقلال الوطنيّ.

كان المجتمع العامليّ ملحقًا بالسلطنة العثمانيّة، وهذه أبقت على علاقات الإنتاج الزراعيّة والمراتب الاجتماعيّة والسلطات المحلّيّة والمؤسّسات الدينيّة في الوضع الذي كانت عليه عند نهاية القرون الوسطى.

واكتفت بتبديل الأشخاص وباقرار شرعيّة البنى الاجتماعيّة – السياسيّة القائمة، مستخدمة إيّاها كوسائل لكي تقتطع أو تسحب، على شكل ضريبة أو خراج، قسمًا كبيرًا غالبًا من الفائض المنتج على يد الفلّاحين والحرفيّين أو المتراكم على يد التجّار. ولم يكن حال الفلّاحين واحدًا، فقد تنوّعوا بحسب حجم ملكيّة الأرض وفقًا للباحثين نصر ودوبار (الطبقات الإجتماعيّة في لبنان، 1982).

أحوال الفلّاحين

ارتبط فلّاحو جبل عامل، في استثمارهم الأرض، بعلاقة الاستثمار المعروفة في سوريّا العثمانيّة، بين الفلّاحين وأصحاب الأرض، أيّ اتفاقيّة “المرابعة”. وهي اتفاقيّة محاصصة يسمح بموجبها للفلّاح، بأن يحتفظ بحصّة من المحصول السنويّ، وهذه الحصّة، كانت تشكّل في العادة، نسبة ضئيلة محدودة، تكاد لا تكفي لسدّ الرمق.

وكان على الفلّاح أيضًا، أن يدفع ضريبة الأرض للمالك، وأن يغطّي جميع التكاليف الزراعيّة. وقد اتّبعت في جبل عامل أشكال متعدّدة من المحاصصة. وكانت اتّفاقيّة “المزارعة” هي الشكل لأكثر شيوعًا، وهي عبارة عن عقد بين صاحب الأرض والفلّاح، يستثمر هذا الأخير، الأرض بموجبه، مقابل نصف العائدات. وقد أرهقت شروط الجباية الفلّاحين، أكثر مما أرهقتهم الضريبية نفسها، والتي غالبًا ما كانت تتحدّد قبل أوان الحصاد (تمارا شلبي، شيعة جبل عامل ونشوء الدولة اللبنانيّة، 2010، ص 71).

فالاقتصاد العامليّ كان اقتصادًا زراعيًّا، اعتمد على زراعة القمح والتبغ والزيتون وبعض الأشجار المثمرة، بسواعد الفلّاحين، تلك الفئة الاجتماعيّة الأساسيّة في أيّ كيان سياسيّ، وتاريخها في جبل عامل يبدو غائبًا عن الدراسات الأكاديميّة و”مركونًا في روايات المشافهة”، بتعبير الباحثة تمارا شلبي (ص، 68)، وترى أنّ حالهم كان كحال بقيّة الفلّاحين في المناطق السوريّة النائية، حيث يقضون حياتهم في العمل الشاق، مثقلين بالديون والضرائب. وكان عبء الالتزام الضرائبيّ في جبل عامل، يتعدّى مثيله في المناطق المجاورة.

ويعود ذلك، في زعمها، إلى سلطة الزعماء العامليّين المحلّيّة، وإلى علاقاتهم الوثيقة مع حكّام المناطق المجاورة، أمثال أمراء جبل لبنان وباشوات عكّا وصيدا ودمشق، الذين كانوا يطمعون باستمرار في خيرات جبل عامل الزراعيّة ومكوسها. إلى ذلك، دفع جبل عامل بعد العام 1882، وكمنطقة منتجة للحبوب، ضرائب تفوق بنسبة 50 في المئة، و20 إلى 25 في المئة، ممّا كان يفرض تباعًا من ضرائب على الحرير الخام وعلى الحبوب في منطقة جبل لبنان مثلًا. وكردّ فعل تكرّرت الانتفاضات ضد الابتزاز الضريبيّ في غير منطقة، مثل جبل الدروز (ص 69).

الإقتصاد العامليّ كان اقتصادًا زراعيًّا، اعتمد على زراعة القمح والتبغ والزيتون وبعض الأشجار المثمرة، بسواعد الفلّاحين، تلك الفئة الإجتماعيّة الأساسيّة في أيّ كيان سياسيّ.

لم تختلف أحوال الفلّاحين مع انتهاء الوجود العثمانيّ في بلادنا وسقوط الامبراطوريّة العثمانيّة مع نهاية الحرب الكونيّة الأولى في العام 1918، ودخول الانتداب الفرنسيّ بحسب تقسيمات اتّفاقيّة سايكس- بيكو والتي تمّ تأييدها لاحقًا بقرارات من عصبة الأمم التي صدرت العام 1920. فالاقتصاد العامليّ، الزراعيّ في مجمله، شهد خرابًا مريعًا إثر حملة نيجر العسكريّة في العام 1920.

حزب الفلّاحين

ويحدثنا المؤرخ د. منذر جابر، بالاستناد إلى دراسة غير منشورة، عن حزب للفلّاحين هو “حزب التضامن الوطنيّ” كان يرأسه فارس مشرف، انتشرت فروعه بشكل جمعيّات في بنت جبيل. وكان رئيسه فيها عبد اللطيف الحاج سليمان بزّي، ضمّ أكثر من 300 عضو. وكذلك انتشرت فروعه في دبعال وجويّا ودير قانون (كان رئيسه في هذه البلدة الشيخ أحمد قصير ثم الحاج عبدو قصير). وأدخل ابراهيم طالب من بلدة معركة فرعًا إلى بلدته في العام 1929، انتسب إليه معظم فلّاحي البلدة.

واستطاع أهل معركة، بعد أن أمّنوا سندًا سياسيًّا في الدولة آنذاك، (حيث كان رشيد نخلة محافظ الجنوب، وجان عزیز قائمقام صور عضوين في هذا الحزب) عزل المختار وقتذاك (كان أميًّا عمره 85 سنة) وعيّنوا مكانه أحد الفلّاحين (محمود أمين)، ما مكّنهم من استرجاع بعض المساحات من طريق حكم أصدره القاضي العقاريّ آنذاك (حسن علوية). ويضيف د. جابر، أنّ جبل عامل عرف إلى جانب حزب التضامن الوطنيّ في تلك الفترة الأفكار الاشتراكّية، وهذا ما يستشفّ من الاتّهام الذي ساقه آل الخليل ضدّ أهالي معركة العام 1929 أنّهم بلشفيك (بلاشفة أي شيوعّيين) ومن أنصار صادق الحمزة.

ولم تقتصر التحرّكات الاجتماعيّة عند هذا الحدّ، بل تجاوزته إلى انتفاضات أودت بحياة كثيرين، في بلدة بنت جبيل العام 1936 (منذر جابر، مؤتمر وادي الحجير، 2022، ص 190). وفي قرية بليدا، انتفض الفلّاحون في ليلة 12- 13 كانون الثاني من العام 1939 فهجموا على بيت سعد الدين فرحات (1939– 1886)، وأصله من قرية برعشيت، وأحد كبار ملّاك الأراضي في قريتهم، وحاصروه ثمّ قتلوه.

أمّا في الأسباب فيقال إنّهم ثأروا منه لظلمه الفلّاحين ومقاسمته إيّاهم الغلّة، إذ كان يأخذ ثلث الغلّة الصافية بعد حسم نفقات الزراعة من حصّة المزارع، ويروي د. مصطفى بزّي تفاصيل أوسع عن الحادثة وخباياها وما أعقبها في كتابه “من الذاكرة الشعبية” (1900، ص 102 وما يلي).

مزارعو التبغ ينتفضون

شهدت مدينة بنت جبيل في العام 1936 انتفاضة عرفت بـ”انتفاضة التبغ” إثر مقتل ثلاثة من المعترضين المتظاهرين برصاص الدرك (مصطفى العشّي من بنت جبيل، ومحمد جمّال وعقيل دعبول من عيناثا)، وهي المعروفة بأنّها كانت آنذاك من أكبر منتجي التبغ مع محيطها، فبحلول العام المذكور، كانت تنتج نحو أربعين ألف كيلوغرام في السنة.

والسبب تنازل الحكومة مطلع العام 1935 عن احتكار التبغ والتنباك لمصلحة “الريجي” (الشركة اللبنانيّة السوريّة للتبغ)، فبارت هذه الزراعة وهدّد الجوع مئات العائلات، وقد اعتقلت السلطات عددًا من المنتفضين، من بينهم موسى الزين شرارة.

وفي رأي الباحثة تمارا شلبي أنّ التحرّك من الزاوية المحلّيّة كان موجّهًا في المقام الأوّل ضد رئيس البلديّة، الوجيه محمّد سعيد بزّي، وضدّ استغلال الفلّاحين (ص 233). ولم يكن الاحتجاج على شركة الريجي وقفًا على أهل جبل عامل وحدهم، اذ وقف ‫‏البطريرك أنطون عريضة (1863- 1955) ضدّ هذا القرار وضدّ احتكار شركة الريجي، فزحف المئات من الجنوبيّين في مظاهرة إلى ‫بكركي يتقدّمهم الوزير علي بزّي، لتحيّة البطريرك وشكره على موقفه. كما رافق الوفد الأديب‫ ‏محمد علي الحوماني الذي ألقى أبياتًا من الشعر منها: أحبَّ الله يوما صار فيه/ ُيحبُّ المسلمون البطريركا/ على بكركي سلامُ الله منّي/ ولو حُسبَ السلامُ عليّ شِركا (من كتاب سلام الراسي “الناس أجناس”، ص 51).

وبقيت شعلة نضال عمّال التبغ مرفوعة ضدّ استغلال شركة الريجي، فكانت انتفاضة عيثرون في العام 1968 التي نظّمها الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ، وكان من آثارها انخفاض أسعار رخص التبغ، وانتفاضة العام 1973، التي تقدّمها رجال الدين: السيّد علي مهدي ابراهيم، والسيّد هاني فحص، والسيّد محمد حسن الأمين، والسيّد عبد الله الأمين.

وقد واجهتها السلطة اللبنانيّة بشراسة، اذ قامت قوّات الدرك بإطلاق النار فسقط الشهيد حسن حايك من كفرتبنيت والشهيد نعمه درويش من حبوش، وهكذا اصطبغت شتلة التبغ باللون الأحمر، بعد أن كانت مجبولة بعرق المزارعين فحسب .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى