شجن الأغنية العربيّة حين يتكلّم القلب بلسان المقام

منذ بدايات القرن العشرين، والأغنية العربيّة تُطلّ علينا ككائنٍ من الضوء والدمع معًا، لا تعرف الفصل بين الجمال والألم، بين الغناء والبكاء. لقد كانت الأغنية العربيّة- في أعمق معانيها- بحثًا عن الإنسان في لحظة ضعفه، في محاولته لأن يقول شيئًا عن الحبّ، عن الفقد، عن الزمن. وإذا كانت القاهرة وبيروت قد منحتا الأغنية العربيّة لغتها الشعريّة الكبرى، فإنّ بغداد منحتها سرّها الدفين: الشجن، ذلك الحزن النبيل الذي يسمو على المرارة، ويحوّل الوجع إلى معرفة.

من أمّ كلثوم إلى ناظم الغزالي، ومن فيروز إلى محمد القبانجي، ظلّ القلب هو البطل الحقيقيّ في الأغنية العربيّة، تتناوب عليه الأصوات والأزمنة، لكنّه لا يفقد نبرته الواحدة: نبرة الإنسان الذي يحيا بالحبّ ويُجرح به في آن. فحين تغنّي أم كلثوم “هل رأى الحبّ سُكارى مثلنا”، فهي لا تسأل، بل تُعرّي القلب أمام نفسه. صوتها في “الأطلال” يتسلّق درجات الحنين كما لو كان يصعد سلّم الروح إلى أعماقها. هناك، الحزن ليس عيبًا بل بطولة، ليس ضعفًا بل اعتراف عميق بإنسانيّتنا.

جعل عبد الحليم حافظ القلب يتكلّم بلسان الجيل الذي عاش الحبّ كحربٍ داخليّة. في “حاول تفتكرني” و“رسالة من تحت الماء”، يصبح العشق تجربة وجوديّة. الكلمات تُقال كاعتذارٍ من الزمن، واللحن يُنسج كندبةٍ على وجه الذاكرة. بينما فيروز، ذلك الكوكب الذي يغنّي من ضباب الصباح، نقلت الشجن إلى فضاء النقاء. في “بكتب اسمك يا حبيبي” و“رجعت الشتويّة”، يتحوّل الحزن إلى صلاةٍ من الضوء، حيث يغدو الانتظار شكلًا من أشكال الإيمان.

بين القاهرة وبيروت وبغداد

لكن إذا كانت القاهرة قد قدّست الحبّ، وبيروت قد غنّت الحنين، فإنّ بغداد جعلت الحزن علمًا من علوم الجمال. فالمقام العراقي- تلك البنية الموسيقيّة العريقة- هو التعبير الأصدق عن علاقة العربيّ بالحزن. إنّه نظامٌ لحنيّ، لكنّه أيضًا فلسفة روحيّة تُدرك أنّ الحزن ليس نقيض الفرح، بل شرطه الخفيّ. في المقام، تتجاور النغمة والدمعة، ويتحوّل الغناء إلى طقسٍ يشبه الصلاة.

إذا كانت القاهرة قد قدّست الحبّ، وبيروت قد غنّت الحنين، فإنّ بغداد جعلت الحزن علمًا من علوم الجمال.

كلّ مقامٍ عراقيّ هو حكاية قلبٍ تاه في متاهة الزمان. مقام البيات يحنّ إلى دفء الأمّ والبيت القديم، مقام الحجاز يذوب خشوعًا في لحظة التأمّل، أمّا الصِبا فهو مقام الدمع النبيل، الصوت الذي يخرج من الجرح لا ليستجدي، بل ليشهد على عمق الإنسان. الصبا لا يُغنّى إلّا لمن يعرف الحزن عن قرب. فيه تنحني النغمة كغصنٍ مثقل، تعلو وكأنّها تطلب الصفح من السماء.

حين يغنّي ناظم الغزالي “مرّوا عليّ الحلوين”، نسمع بغداد كلّها تبكي بين القرار والجواب. صوته ليس حزينًا وحسب، بل ملوّح بالكرامة، كمن يقول: إنّنا لا نحزن عبثًا، بل لأننا أحببنا أكثر ممّا ينبغي. وفي “طالعة من بيت أبوها”، تلك الأغنية التي تبدو بسيطة في ظاهرها، يتسلّل إلينا ألم الزمن: غياب البهجة القديمة، وحزن الناس البسطاء الذين لا يعرفون كيف يخفون مشاعرهم.

المقام العراقيّ

أمّا محمّد القبانجي، فقد نقل المقام من الوجع الشعبيّ إلى أفقٍ تأمليّ. في مقام اللاميّ، يمتدّ صوته كمن يختبر حدود الروح. يعلو ثمّ يهبط مثل موجةٍ من نورٍ ودمع. كان القبانجي يؤمن أنّ الحزن طاقةٌ جماليّة، وأنّ الغناء يمكن أن يكون طريقًا إلى الخلاص. أمّا يوسف عمر، فكان صوته يخرج من عمق المدن العراقيّة القديمة كصوتٍ يروي حكايات البشر الذين لم يعد لهم مكان إلّا في الأغنية.

المقام العراقيّ لم يكن يومًا مجرّد غناء، بل ذاكرة جماعيّة للحزن العربيّ. ففي بلدٍ عرف الحضارات والانهيارات، لم يعد الحزن حدثًا إنّما هوية. حتى حين يُغنّى الفرح، يبقى ظلّه منكسرًا، كأنّ الفرح نفسه خائف من الزوال. ولهذا قيل: “من لم يبكِ في مقام الصبا، لم يعرف ما هو القلب”.

حين نقترب من المقام أكثر، ندرك أنّ الحزن فيه ليس سكونًا، بل حركة داخليّة نحو الضوء. المغنّي في المقام كالمتصوّف في حضرته: يغوص في نفسه ليعود أكثر صفاء. الحزن هنا تطهير، يشبه تمامًا ما تفعله القصيدة الكبرى حين تجعل من الوجع معنى. ومن هذا المعنى انبثقت مدارس الغناء اللاحقة التي ورثت الحسّ العراقيّ في التعبير، فكان سعدون جابر وكاظم الساهر ونصير شمّة امتدادًا لذلك التراث الذي يرى في النغمة لغةً للقلب لا للعقل.

لقد جعلتنا الأغنية العربيّة نفهم أنّ الحزن ليس عدوًّا للفرح، بل طريقٌ إليه. وأن القلب، مهما انكسر، هو أجمل حين يُغنّى

كاظم الساهر مثلًا، في “مدرسة الحبّ” و“إني خيّرتك فاختاري”، أعاد تعريف الشجن العربيّ المعاصر. في صوته نبرة المقام القديمة، لكن مغسولة برهافة الشعر الحديث. هو يغنّي نزار قبّاني، لكنّه يحمل في داخله وجع بغداد. وفي أعمال نصير شمّة، يتحوّل العود نفسه إلى كائنٍ باكٍ، لا ينشد اللحن بقدر ما يروي تجربة الإنسان في مواجهة العدم.

الحزن ليس عدوًّا للفرح

وإذا تأمّلنا الصورة الأوسع، نكتشف أنّ الأغنية العربيّة، من المحيط إلى الخليج، كانت وما زالت تربية وجدانيّة للقلب. فبين أمّ كلثوم وعبد الحليم، بين فيروز والغزالي، سافر الحزن من شكلٍ إلى آخر، لكنّه لم يغادر اللغة. إنّه الحبل الذي يجمع المشرق والمغرب، المرأة والرجل، الحبيب والمغترب، الشاعر والمطرب.

لقد جعلتنا الأغنية العربيّة نفهم أنّ الحزن ليس عدوًّا للفرح، بل طريقٌ إليه. وأن القلب، مهما انكسر، هو أجمل حين يُغنّى. لذلك ظلّ الشجن العربيّ شامخًا أمام كل التغيّرات، يذكّرنا بأنّ الفنّ ليس زينة الحياة، بل خلاصها.

إنّ الهدف الأعمق من هذا التراث الغنائيّ ليس تمجيد الحزن من أجل الحزن، إنّما تحويله إلى وعيٍ جماليّ وإنسانيّ. ففي زمنٍ يهرب فيه الناس من مشاعرهم، تُذكّرنا الأغنية العربيّة بأن البكاء على الأطلال ليس ضعفًا، بل تمرينٌ على البقاء. إنّها تقول لنا إنّ القلب لا يشفى بالإنكار، بل بالاعتراف.

فلسفة كاملة للحياة

وحين نسمع صوتًا عراقيًّا يمدّ المقام على استقامته الطويلة، ندرك أنّنا لسنا أمام نغمة بل أمام فلسفة كاملة للحياة: أن نعيش الألم دون أن نغرق فيه، أن نغنّي كي لا نموت صمتًا، وأن نحفظ للحزن مقامه الرفيع كأحد أجمل أشكال الصدق الإنساني.

فالأغنية العربيّة، في النهاية، لم تكن يومًا مجرّد فنّ، بل سيرة القلب العربيّ في رحلته الطويلة بين العشق والحنين، بين بغداد والقاهرة وبيروت، بين الخسارة والرجاء. وحين نتأمّلها بهذا المعنى، ندرك أنّ الشجن ليس حالة عابرة، بل هو ذاكرة الأمّة وهي تغنّي: ما زلنا نحلم… على رغم كلّ شيء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى