شومر وفطاير وفريكة بطلات على مسرح التذوّق

شكَّل الطعام وطرق التعامل اليوميّ معه في المجتمعات، منتجًا ثقافيًّا، نظّم الحياة الطبيعيّة والاجتماعيّة، عبر نشاط يوميّ متكرّر انبثقت عنه معتقدات وأساطير واحتفالات ونسق تواصل بين الناس. بعض علماء الانثروبّولوجيا، اعتبروا أنّ الطعام كان منذ القِدَم نشاطًا سياسيًّا يمكن من خلاله تحليل المجتمعات وثقافاتها واقتصاديّاتها وفق ما سمّوه نسقًا يوميًّا متكرّرًا ينتج الثقافة والمعنى..

جذبت الأشكال المسرحيّة التي أُنتجت عبر العصور، اهتمام مجالات العلوم الإنسانيّة، لا سيّما الاجتماعيّة والانثروبّولوجية منها، في محاولة منها لفهم طبيعة المجتمعات بلغتها وطقوسها وكلّ ما ينتج عنها في حياتها اليوميّة من عادات وطقوس وطرق تواصل وتأريخ شفهيّ.

عندما يجلس المتفرّجون قبالة الخشبة، لا يرون غير ما يعرض عليهم ممّا تمّ إعداده في الكواليس التي تحجبها عنهم الستائر. كذلك، إذا جلس الحضور على طاولة الطعام، فهم لا يرون ما يتمّ إعداده لهم في المطابخ الخلفيّة. بينما تعمل الحداثة اليوم على جعل تحضير الطعام مكشوفًا أمام الحضور، كذلك تعمل على إشراك هذا الأخير في الإعداد وتحويل المساحة المكشوفة إلى ما يشبه عرضًا طقوسيًّا.

عدس بشومر الجنوبيّة

اختارت المخرجة وكاتبة النصّ هبة نجم تقديم عرضها التفاعلي لجمهور محدود العدد، جميعهم يجلسون إلى طاولات وكأنّهم مدعوون لتناول طعام العشاء. وفي المكان أوعية وخضار تشي بأنّ الطعام له حضوره، ويؤكّد عنوان العرض وعن سابق تصوّر وتصميم. وما إن بدأت هبة نجم سرديّتها عن العدس وعن بلدتها الخيام حتّى صار الجميع آذانًا صاغية.

مسرحية “عدس بشومر” لهبة نجم

الباحثة والمخرجة المسرحية اللبنانيّة هبة نجم، اختارت في دراستها العليا علاقة الطعام بالعرض، ولا سيّما العروض المعاصرة التي قادتها إلى مجموعة من الأعمال المسرحيّة، منها الأكلة الجنوبيّة “عدس بشومر”.

مساحة مكشوفة على طاولة التحضير والأواني والنار المشتعلة، وقاعة المتفرّجين تفرضها طبيعة الأكلة ومكوّناتها. طاولات صغيرة والجمهور على الأرض متحلّق حولها. العرض، كما يشي عنوانه، يتألّف من مكوّنين أساسيّين. العدس الذي يقدّم لنا منذ البداية على صوان، وعلى أضواء الشموع تتمّ تنقيته من الشوائب غير المرغوب فيها في عمليّة الطهو. أمّا الشومر (نبات الشمر، الشمار)، فتقدّمه نجم في منشور العرض المسرحيّ، كنبتة سحريّة اكتشفَتها أو تنبّهت إلى وجودها، حين أتى بها خالها من بلدة الخيام في جنوب لبنان، وكانت معه النبتة التي أضحكها شكلها وراحت تبحث عن قصّتها وعلاقة العائلة بها، والتي تراوح من حريص على حمايتها وزرعها وتضمينها في الأطعمة، إلى لا مبالٍ بها.

بحثُها هذا أعادها إلى بلدة طفولة والدها، حيث خال الوالد ما زال وحيدًا فيها، يزرع ويعيش ويتأمّل، ونبتة الشومر ستكون مفتاح الحوار عن العائلة وأسرارها الصغيرة.

حكايا جمعتها هبة نجم من فرن قرية بيت شباب وأضافت إليها الحكايا الحزينة والتجارب الفاشلة في الحبّ، والعلاقات السامّة.

“فطاير بالبندورة” في بيت شباب

إذا كانت تنقية العدس وطهوه، ممارسة فرديّة تنمّ ربّما عن انزواء ووحدة، فإنّ الفطائر شكل من أشكال العمل التشاركيّ العامّ مع الفرن الصناعيّ داخل المجتمعات، والذي نسجت في داخله الأحاديث والثرثرات التي بعضها حقيقيّ وبعضها من نسج الخيال. في عرض “فطاير بالبندورة” مدّت الممثّلة والمخرجة هبة نجم، الطاولات، على شكل لوحات خشب الأفران، وأدخلت الجمهور في العجن ورشّ الطحين وتناقلت الأيدي بشكل دوريّ الملاعق والمواد المكوّنة لفطيرة البندورة.

العجين أصل رغيف الحياة، وطرق تحضيره وتخميره. توضع أمام الجمهور كرة صغيرة تُمدّ بالأصابع المغمّسة بالطحين، في انتظار البندورة التي زُرعت على امتداد طاولة العرض بتاريخها المثير، إذ نسجت عنها الخرافات كنبتة سامّة وتمّ تقبلها بواسطة الحيل وعروض التحدّي، وبخاصّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة.

أخذت نجم البندورة ومعتقدات النبتة السامّة الحمراء، لتنسج عليها عادات قرية والدتها ونسائها في مناسبات الأفراح والأحزان في جبل لبنان، ولتضيف إليها احتفاليّة الفشل في الحبّ. حكايا جمعتها من فرن قرية بيت شباب وأضافت إليها الحكايا الحزينة والتجارب الفاشلة في الحبّ، والعلاقات السامّة. احتفاليّة بالحبّ والحياة لا تخلو من طرافة وأحداث متخيّلة مُهداة إلى نساء القرية.

مسرحية “فطاير بالبندورة” لهبة نجم
الفرِيْكة بين الجنوب وفلسطين

“فريكة: منذ 40 يومًا ماتت عمتي”. عمل تفاعليّ آخر قدّمته نجم يتقاطع فيه الطبخ والمسرح وذاكرة المناطق وما تحمل تلك الذاكرة من مرويّات تاريخيّة وأنثروبّولوجيّة تفتّش عنها نجم انطلاقًا من تجاربها الشخصيّة أو القريبة منها، وصولًا إلى مرويّات متوارثة تجمع بين الأعراف الدينيّة والطقوس الأسطوريّة.

العرض أرادت نجم توقيته مسرحيًّا في أربعينيّة العمّة الراحلة، لتتساءل عن هذا الرقم المتكرّر من أربعين أسبوعًا لولادة الجنين من رحم أمّه، أربعين (أربعون) يومًا وما تعنيه الفترة الانتقاليّة في الأديان السماويّة إلى الأربعين الذي كان من شعائر الحداد عند الفراعنة القدامى.

من مسرحية “فريكة” لهبة نجم

للفريكة المستخرجة من القمح قصّة حزينة رواها الكنعانيّون وتدور جغرافيّتها بين جبل عامل وفلسطين، عن أسطورة الاله “داجون” الذي فسّر أهل التاريخ اسمه قريبًا من معنى “القمح أو قربان القمح”، فهو إله غَلّة وحصاد الكنعانيّين. ولم يبقَ من كلّ حكاية “داجون” الأسطوريّة في الساحل غير ما تركه ذلك الإله المتروك في اسم واحدةٍ من القرى الفلسطينيّة المنكوبة العام 48، هي بيت دجن ويقال إنّ القرية قامت على أنقاض مدينة “بيت داجون” الكنعانيّة القديمة.

كان يا ما كان

في نهاية العرض، تنسج نجم حكاية الفريكة وتراجيديّتها قائلة: “كان يا ما كان، حقل قمح واحترق. هو احترق عن طريق الخطأ، أم أحرقوه، لا أحد يعلم. من شدة القهر أخدوا كمشة قمح محروق وفركوا أيديهم مع القمح المحروق حسرة، ثم تذوّقوه حتّى يترحّموا عليه، قام المحروق طلع طيّب سمّوه فريكة من كثرة ما فركوه”.

مسرح التذوّق يتمّ فيه استخدام إعداد أو تناول الطعام أثناء الأداء لمعالجة مسألة الهويّة، ونعني بمفهوم الهويّة معرفة كوننا وحدة واعية، واحدة في أزمنة وأماكن مختلفة. تشير الهويّة، من بين أمور أخرى، إلى وجود الذاكرة، ولكن أيضًا إلى الأنشطة الجسديّة المرتبطة بها. مسرح التذوّق الذي يخوض تجربته كنوع من أنواع فنون العرض المعاصرة، يعالج مسألة الهويّة والانتماء والخصوصيّات المناطقيّة الثقافيّة والوطنيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى