صناعة فرش الصوف في طرابلس.. النوستالجيا اللبنانيّة الحيّة
في إحدى زوايا سوق النحّاسين في طرابلس، تستمرّ ورشة “فضل الأسعد” في دورة عملها المعتادة منذ ثمانية عقود، حيث تعاقب على صناعة فرشات الصوف فيها عدّة أجيال من الحرفيّين. هناك يحافظ الحرفيّ عامر الهيبي على الإرث الذي تعلّمه من خاله الحاج فضل قبل أربعين عامًا.
في مناطق طرابلس، ينتشر كذلك عدد من المنجّدين المتنقّلين على متن درّاجاتهم الناريّة، قاصدين الضياع والقرى البعيدة، إذ يحرص القرويّون على تنجيد لحف الصوف الخاصّة بهم، وكذلك الفُرَش التي تنتقل بالوراثة من جيل إلى جيل.
مهنة تشبه مكانها
يدرك عامر الهيبي أنّ “الزمن تغيّر”، وأنّ متطلبات الصمود باتت كثيرة. ولكنّه بالرغم من ذلك، يستمرّ في روتين عمله من الصباح الباكر ولغاية الظهيرة، على غرار النظام المتّبع قديمًا لدى شيوخ الكار ممّن كانوا يديرون فرق عمل كبيرة. وهو ما زال يمتلك الشغف الذي يجعل منه، وكذلك من محلّه الصغير جزءًا من التراث الطرابلسيّ الغني بالتفاصيل.
يجانب الهيبي مجموعة من المواقع التراثيّة والتاريخيّة، حيث حجز لنفسه مكانّة في المشهد العام إلى جوار خان الخيّاطين، وخان المصريّين، وحمّام عزّ الدين، وسوق النحّاسين، والتربيعة، وبالتأكيد على مقربة من القلعة التي تتربّع على التلّة العظيمة في طرابلس.
حاليًا، تستمرّ قلّة قليلة في ممارسة هذه الحرفة، ويتخّوف عامر “من أنّ غياب ورحيل الحرفيّين الكبار قد يؤدّي إلى اندثار هذه الحرفة الغنيّة بالتفاصيل”، ويؤكّد “أنّنا حاولنا في فترة من الفترات تعليم 15 تلميذًا على فنون صناعة فرش الصوف، لكن جاءت جائحة الكورونا، وحبست الناس في منازلهم، كما قضت على عدد كبير من الحرف الجماعيّة”.
زحمة زوار من أجل الصورة
يُعتبر الحرفيّ عامر الهيبي واحدًا من الحرفيّين الطرابلسيّين ممّن يمارسون أنشطة ساهمت في شهرة طرابلس، المدينة التي تمتاز عن باقي المدن بأنّها “مدينة تاريخيّة مسكونة”، ويصفها بعض المهتمّين بالآثار بأنّها متحف حيّ، كونها تعتبر ثاني أكبر مدينة مملوكيّة بعد القاهرة المصريّة.
يستقبل عامر في متجره الصغير صنفين من الناس، الأوّل يبحث عن صورة جميلة تُغني ألبوماته وأرشيفه، وتوثّق لمحطّة من محطّات الذاكرة الجمعيّة. وصنف آخر، يغلب فيه “كبار السنّ” ممّن اعتادوا النوم على الفرشات والمخدّات الصوف منذ الصغر، ويرفضون مغادرة تلك الطقوس التي يصفونها بـ”الصحّيّة”.
يستقبل عامر في متجره الصغير صنفين من الناس، الأوّل يبحث عن صورة جميلة تُغني ألبوماته وأرشيفه، وتوثّق لمحطّة من محطّات الذاكرة الجمعيّة. وصنف آخر، يغلب فيه “كبار السنّ” ممّن اعتادوا النوم على الفرشات والمخدّات الصوف منذ الصغر، ويرفضون مغادرة تلك الطقوس التي يصفونها بـ”الصحّيّة”.
يجذب مشهد عامر ومعاونيه المارّة، خصوصّا عندما يقومون بندف الصوف، وحياكة الفرش. ويتوقف البعض منهم لسؤاله عن عمله، أو ليشاركونه تجارب عائليّة خاصّة. لا يتأخّر من ناحيته، في الحديث عن المحطّات الرئيسة في مسيرته ضمن الحرفة التي ورثها عن خاله. يقول لـ”مناطق نت”: “أرى نفسي أمينًا على استمراريّتها في مواجهة المنافسة الشديدة من الفرش الصناعيّة الجاهزة”.
ويشير إلى “المكانة الساميّة لشيخ الكار في الحرف القديمة، والمنهجيّة في العمل التي توازي كبريات المدارس والمعاهد الفنّيّة في عصرنا الحاضر”. هو تدرّج في مسيرة “الإتقان من فنون وأعمال الخياطة، والتفصيل، و”الطعنة” أيّ القطبة، وعدد المسامير في الفرشة، وتحديد الإطار للفرشة، وكذلك القدرة على تحديد الوقت الذي يستغرقه إنتاج الفرشة القطنيّة والصوفيّة، لأنّ عامل الوقت والجهد مهمّان في تحديد الأجرة”.
تسابقوا لتعلّم الحرفة
يفاخر الحرفيّ الطرابلسيّ بالمهارة العالية والإبداع الذي راكمته الخبرة. يشدّد عامر على أنّ “هذه المصلحة اجتذبت عددًا كبيرًا من اليد العاملة والعائلات في الماضي، إذ كان الأهالي يتسابقون على حجز مكان لولدهم كي يتعلّم ويتدرّب على يديّ شيخ الكار”. ويجزم أنّ “طرابلس احتضنت شيوخ كار متميّزين، وأصحاب مهارة عالية، ما زال إرثهم حاضرًا في السوق القديمة على يد أعقابهم، وقد اكتسب هؤلاء سمعة على مستوى لبنان، وأيضًا في الخارج من خلال المغتربين”.
اقترنت الحرفة اليدويّة مع مفهوم “السترة”، لأنّ الجيل القديم اعتقد أن “المصلحة” أيّ الحرفة، أهمّ من المال، فهي الطريق السليم الذي يقود إلى تأسيس العائلة وتربية الأبناء.
تحتاج خياطة أو تنجيد فرشة الصوف جهدًا مضنيًا، فهي تستهلك الوقت، وترهق الجسد، لكنّها في المقابل تؤمّن دخلًا مقبولًا لصاحبها. ويشير الحاج عامر إلى أنّ “الحرفي يعلم كم سيبذل من جهد كبير في خياطة اللحاف، لكنّه يعلم أنّه وفي نهاية النهار، وبعد ستّ ساعات من العمل، سيجني عشرين دولارًا صافية لجيبه على الأقلّ، وهذا مبلغ لا بأس فيه في أيامنا الحاليّة”.
ويردف: “في بعض الأيّام، نبدأ العمل عند السادسة صباحًا، ونستمرّ لغاية الرابعة بعد الظهر، حيث يتمكّن المعلّم الشاطر والنشيط من خياطة لحافين، وزيادة دخله إلى أربعين دولارًا. ناهيك عن الدخل الناجم من صناعة المخدّات، التي لم يزل إقبال عليها لا بأس به، ويتراوح سعرها بين خمسمائة ألف ومليون ليرة لبنانيّة”.
الصوف المحلّيّ بدل المستورد
يشدّد عامر الهيبي على “أنّ الحرفيّ الناجح عليه أن يدمج بين مجموعة من الصفات، فبالإضافة إلى السرعة والمهارة، لا بدّ له من أنّ يؤمّن المواد الأوّليّة الجيدة والنظيفة”. لافتًا إلى أنّه “في السابق، كان الحرفيّ اللبنانيّ يعتمد على الصوف المستورد من سوريّا، ولكن منذ سنوات أصبح هناك مصدر محلّيّ بسبب وجود أعداد جيّدة من مربّي الخراف في لبنان ممّن يجزّون أصواف قطعانهم، وينظّفونها قبل بيعها إلى الحرفيّين”.
تعتبر الفرشة جزءًا من الملكيّة الخاصّة للأفراد، ويتحدّث عامر عن “طقس لدى الكثير من العائلات بشراء فرشة جديدة لدى ولادة طفل جديد في العائلة، أو دخول عنصر إضافيّ إليها عن طريق الزواج أو الإقامة الطويلة الأمد”، قائلًا: “يأتينا الزبائن من كبريات العائلات البيروتيّة، والجبيليّة والعكّاريّة والكورانّية والطرابلسيّة، طلبًا لرسمة معيّنة أو تصميم لحاف محدّد”.
لا يقتصر الاهتمام على المقيمين في لبنان، وإنّما كذلك على هؤلاء الذين غادروا البلاد إلى أوستراليا والأمريكيّتين وفرنسا، من دون أن تغادرهم النوستالجيا والحنين لموطنهم اللبنانيّ، و”يشتري البعض منهم اللحاف أو الفرشة باعتبارها تذكارًا أو قطعة تراثيّة من لبنان. وكذلك، الأخوة العرب الذين يثقون بقدرات الشعب اللبنانيّ، حيث جرت خياطة “جلسات عربيّة” للعديد من القصور في الخليج العربي”.
يستند عامر إلى تجربته ليتحّدث عن استقطاب المعارض الدوليّة للحرفيّ اللبنانيّ، ويفتخر بمشاركته في أحد المعارض الدوليّة في بريطانيا، حيث انبهر الزوّار بكيفيّة خياطة الألحفة وتنجيد الفرش المصنوعة من الصوف، وسمع كلامًا من الزوّار بأنّهم كانوا لا يستغنون عنها في بيوتهم.