طيور الجنوب بعد الحرب.. نافقة ومصابة ومهجّرة

لنتخيّل سويّة: في يوم من أيّام فصل الربيع، وأنتَ/تِ ممدّد/ة على عشب بستان أخضر، تحوطكَ/كِ أشجار الصنوبر والبلوط المعمّرة، تدغدغ جسدكَ/كِ نسمات قليلة البرودة، ويمنحكَ/كِ وهج الشمس الساطعة دفء الأمّ.. وفجأة يكسر صوت السكون مقطوعة موسيقيّة تعزفها طيور الدوريّ والبلابل والحساسين الشادية. لم يكن هذا مجرّد مشهد خياليّ سرياليّ، بل إنّه واقع يعيشه أبناء الجنوب الذين ألفوا الطبيعة وصادقوا طيورها.

ابن بلدة السلطانيّة الجنوبيّة في قضاء بنت جبيل المزارع حسن السقّا، هو أحد الشهود على حرب أفقدته نحو 80 من أصدقائه الطيور، “إمّا بسبب هجرة بعضها إلى مكان أكثر أمانًا، أو لنفوق بعضها الآخر إثر انفجار أدمغتها الضئيلة بفعل صواريخ العدو”، وفق قوله.

صباحات بلا عصافير

في حديثه إلى “مناطق نت”، يستذكر حسن “الصبحيّة” مع أصدقائه العصافير فيقول: “كانت الطيور تأتي أسرابًا بين 70 و80 عصفورًا كي تشرب المياه ثمّ تشكرني وتطير. بعد الحرب لم يجرؤ أيّ عصفور أو طير على الاقتراب، عدا عصفور واحد شرب من مياه شبّاكي بعد ثلاثة أيّام من وقف إطلاق النار، وباتت تتوالى العصافير من بعده”.

أسراب من طائر المينا على أسلاك الكهرباء في منطقة كفررمان قبل الحرب (تصوير كامل جابر)

يوثّق المزارع حسن السقّا، من خلال مشاهداته، “تراجعًا في أعداد طيور اليمام التي كانت تتواجد بكثرة في مناطق الجنوب اللبنانيّ ولكنّها اليوم شبه مختفيةٍ”، مؤكدًا أنّه كان يحظى بالمئات منها عندما ينثر الحبوب لها، “إلّا أنّ عددها الآن لا يتعدّى الـ 15 طيرًا”.

على رغم مشاهدات حسن التي تابعت التغيّرات في أعداد الطيور جنوب لبنان بعد الحرب الإسرائيليّة الأخيرة، إلّا أنّه “لا توجد حتّى الآن دراسات رسميّة منشورة توثّق ذلك”، وفق مصادر لـ “مناطق نت” في وزارة البيئة، جزمت “أنّ الوزارة لا تزال حتّى الآن ترصد الخراب والدمار وانتشار النفايات وقلّة المياه في تلك القرى”، في وقت لم تلتفت أيّ مؤسّسة رسميّة أو أمميّة إلى موضوع الطيور.

النزاعات وهجرة الطيور وضررها

هذا الأمر أكده رئيس جمعيّة حماية الطيور فؤاد عيتاني، فأشار في حديث لـ “مناطق نت” إلى أنّ “النزاعات المسلّحة، تؤثّر في النظم البيئيّة من خلال تدمير الموائل الطبيعيّة، وتسبب اضطرابات حادة ربّما تؤدّي إلى هجرة بعض الأنواع أو انخفاض أعدادها”.

وإذ يلفت عيتاني إلى أنّ “بعض الأنواع الأكثر حساسيّة للتغيّرات البيئيّة، وبخاصّة الطيور المقيمة أو تلك التي تعتمد على مناطق محدّدة للتكاثر والتغذية، قد تكون تأثّرت بشكل أكبر”، يشدّد على أنّ “هناك حاجة إلى مسوحات ميدانيّة منهجيّة لمقارنة الوضع قبل الحرب وبعدها، وتحديد مدى التأثير على التنوّع البيولوجيّ للطيور”.

المزارع حسن السقا: في الصباح كانت الطيور تأتي أسرابًا بين 70 و80 عصفورًا كي تشرب المياه ثمّ تشكرني وتطير. بعد الحرب لم يجرؤ أيّ عصفور أو طير على الاقتراب

وعن احتماليّة انفجار أدمغة الطيور بفعل الموجات الصوتيّة الناجمة من الانفجارات، نفى عيتاني صحّة هذه النظريّة قائلًا: “الطيور تمتلك نظامًا سمعيًّا حسّاسًا، لكنّها تفتقر إلى تجاويف هوائيّة واسعة مثل البشر، ممّا يجعل هذا الاحتمال غير مدعوم علميًّا”. ولكنّه على رغم ذلك، يلفت إلى أنّ “الانفجارات القويّة ربّما تتسبّب في تلف السمع أو اضطرابات عصبيّة حادّة لدى الطيور، وربّما تؤدّي الضوضاء الشديدة إلى إجهاد فسيولوجيّ قد يضعف مناعتها ويزيد من معدّلات النفوق، خصوصًا لدى الأنواع الصغيرة أو الطيور القريبة من مواقع الانفجارات”.

الربيع ينتظر عودتها

وفي وقت يأمل فيه المزارع حسن السقّا عودة الطيور إلى جنوب لبنان مع بدء فصل الربيع بهدف التزاوج، “يبقى هذا الأمر منوطًا بمدى استعادة الموائل الطبيعيّة واستقرار الظروف البيئيّة والأمنيّة”، بحسب عيتاني الذي أكّد أنّ “بعض الأنواع المهاجرة ربّما تعود خلال مواسم الهجرة إذا وجدت البيئة ملائمة، بينما الأنواع المقيمة قد تتأخّر أو تتجنّب المناطق التي تعرضت لدمار شديد. أمّا الطيور الحوّامة المهاجرة فلا تعتمد على الموائل إذ إنّها تتبع تيّارات الهواء الساخنة التي تحملها فوق ممرّات هجرة الطيور الرئيسيّة”.

وعن أثر رحيل الطيور على التوازن البيئيّ، يشدّد عيتاني على أنّ ذلك “يؤدّي إلى اضطرابات في السلاسل الغذائيّة، وبخاصّة في النظم البيئيّة التي تعتمد على التفاعل بين الطيور والمكوّنات البيئيّة الأخرى مثل الحشرات والنباتات والقوارض. كذلك فإنّ انخفاض أعداد الطيور الكاسرة للحشرات أو القوارض ربّما يؤدّي إلى زيادة أعداد هذه الآفات، ممّا سيرفع من احتمالات تأثيرات غير متوقّعة على البيئة المحلّيّة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى