عدلوني يا بطيخ، أحمر حلو غاب واندثر

لم أكن سابقًا من محبّي البطّيخ. أذكر أنّني تناولت بعض حزوزه عند شاطئ البحر، وقِطعِه مُثلّثة الشكل مع “كدّوشة” جبنة عكّاويّ، أثناء مشاهدة التلفزيون قبل الذهاب إلى النوم، ولكن ليس حبًّا به إنّما تقديرًا خاطئًا من أمّي لإن “كيف يعني: في حدا ما بيحبّ البطّيخ يا رولا؟”. أعلم، بل متأكدة، أنّني كنت أفضّل الشمّام، وأتناوله معصورًا أيضًا، لأنّ أمّي تحبّه عصيرًا، وأنا أحبّ ما تحبّه أمّي، تحديدًا في مسائل الطعام، عدا البطّيخ. السبب في أنّني لم أكن أحبّ البطّيخ، هو بزره الذي كان يعكّر متعة تناوله. آنذاك، ولفترة قريبة ظننت أنّه السبب الحقيقيّ والوحيد.

منذ بضع سنوات؛ ستّ سنوات تحديداً، وفي أثناء إقامتي في إسطنبول (تركيّا)، يبدو أنّني اكتشفت البطّيخ مجدّدًا، وتبيّن لي أنّني أحبّ البطّيخ كثيرًا، وكان اكتشافًا مشوّقًا جدًّا، لأنّني سأنضمّ أخيرًا إلى نادي عشّاق البطّيخ، الذي على الأرجح يضمّ كلّ سكّان الكوكب ما عدا حضرتي.

بطيخ إسطنبول غيره عندنا

بطّيخ اسطنبول ليس خاليًا من البزر الأسود، ولكنّه لم يكن عائقًا أمام طعمه، فحلّلت بحثًا عن السبب الحقيقيّ، الذي حال دون حبّي للبطّيخ سابقًا، فتبيّن لي أنّه الطعم.

المفاجأة التي باغتتني أثناء تناول البطّيخ في إسطنبول، كانت حلاوة طعمه، فقارنت بين الطعم الجديد، وبين تلك المخزّنة في ذاكرة الطفولة، فوجدت فرقًا شاسعًا. طعم اليوم حلو، وطعم الذكرى حامض أو على أقلّ تقدير حلاوته محدودة. ولذلك يبدو السبب في اعتكافي عن تناوله، الظنّ أنّ ذاك الطعم هو طعم البطّيخ، وحمّلت بذوره سبب ابتعادي عنه، لأنّه لا يصحّ أن أشتكي من طعم البطّيخ، الذي لم أفهم لماذا يلمّ حوله كلّ هذا الجمهور.

تغيّرت أمور كثيرة في المدّة بين اعتكافي وبين إعادة اكتشافي حلاوة طعم البطّيخ. فالبطّيخ كان “عدلونيًّا” نسبة إلى بلدة “عدلون” الساحليّة التي ذاع صيتها بزراعة البطّيخ

يمكنني أن أعلن الآن أنّني صرت Big Fan للبطّيخ. لم أعد أتناوله محزّزًا مع قشره – على رغم أنّها تبدو لي أجمل طريقة لتناوله– إنّما مقطّعًا إلى مكعّبات أو مثّلثات بعد تصقيعه جيّدًا. وصرت أتناوله كلّ مرّة مع نوع جبنة بيضاء مختلف: عكّاويّ، حلّوم، بلديّ، فيتّا وبلغاريّ غنم، وهي الأقرب إلى قلبي.

بطّيخ عدلوني

تغيّرت أمور كثيرة في المدّة بين اعتكافي وبين إعادة اكتشافي حلاوة طعم البطّيخ. فالبطّيخ كان “عدلونيًّا” نسبة إلى بلدة “عدلون” الساحليّة (صيدا- الزهراني)، التي ذاع صيتها بزراعة البطّيخ، وتقع قرب ضيعتي “اللوبية”.

والبطّيخ الذي أذكر أنّنا لم نعرفه سابقًا إلّا عدلونيًّا، كان صغير الحجم، حلو المذاق بشهادة الجميع (على الأرجح أنّ سبب حظّ طفولتي غير الحلو كان مع بطّيخ غير عدلونيّ حينها) وكان يمكن لأيّ طفل حمل بطّيخة. وكان ربّ العائلة– الكبيرة  تحديدًا– عندما يشتري البطّيخ لا يكتفي بواحدة، بل عدّة بطّيخات يُحتفظ بها على بلاط المطبخ أو تحت الأسرّة أو في أيّ زاوية تتّسع في البيت.

البطيخ، رسم رولا الحسين

اليوم لم يبقَ من البطّيخ “العدلونيّ” سوى صيته فقط. المساحات العدلونيّة المخصّصة لزراعة البطّيخ تقلّصت جدًّا لصالح شجر الموز، فصرنا نبحث عن البطّيخ المزروع في الوزّاني، وهذا العام بسبب الوضع الأمنيّ لم يزرعوا البطّيخ، فصرنا ننتظر بطّيخ البقاع.

صار البطّيخ كبيرًا جدًّا يتعدّى وزن الواحدة منه الـ 25 كيلوغرامًا، لذلك صرنا نشتري نصف بطّيخة، وأحيانًا أشتري ربع واحدة. وإذا حظيت ببطّيخة “ذهب” كما يسمّيها الخضرجيّ، فأشتريها كاملة وأتقاسمها مع بيت من بيوت أعمامي. طقس مشاركة البطّيخ تبنّيته عن والدي وصار طقسًا معتمدًا بين بيتنا وبيتي عمّيي.

البطّيخ في ذاكرتنا

في طفولتنا، لم يكن البطّيخ رفيقنا إلى مشاوير البحر وحسب، إنّما ارتبط أيضًا وربّما أكثر بمشاوير النهر، لأنّنا كنّا نضعه في مياه النهر كيّ يبرد (يصقّع) ثم نتراشق حزوزه الخارجيّة.

يزرع البطّيخ بطريقتين: بعليّة أو شمسيّة، وفي الخيم الزراعيّة. يبدأ موسم زراعة بطّيخ الخيم، في منتصف شهر شباط (فبراير)، وينتهي في نهاية شهر حزيران (يونيو)، أمّا البطّيخ الشمسيّ، فتبدأ زراعته في شهر نيسان (أبريل) إلى أواخر شهر تموز (يوليو)، ولا يعتمد المزارعون في زراعته على السماد ولا المواد الكيماويّة.

قرّرت في بداية هذا الصيف، أن أزرع حديقة منزلنا الصغيرة. فزرعت من ضمن ما زرعت، بعض شتول البطّيخ والشمّام على الطريقة الشمسيّة، أسقيها بواسطة نظام ريّ “التنقيط” وأراقب نموّها يوميًّا. في شهر حزيران رصدت ثمرةً صغيرة ظننت أنّها بطّيخة لأنّها كانت خضراء، تبيّن لاحقًا أنّها شمّامة، وبطبيعة الحال ستكون خضراء إلى حين يتحول لونها إلى الأصفر. ثمّ رصدت ثلاث ثمرات كان واضحًا أنّها ثمرات بطّيخ، لأنّ قشرتها لا تختلف عن قشرة البطّيخة وهي كبيرة.

سأكون محظوظة إذا لم يعجب السلحفاة التي تعيش في حقلي ومنه، طعم البطّيخ كما حصل معي أيّام طفولتي، وإلّا فإنّني لن أعرف طعم البطّيخ “اللُّوبيّ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى