عن “الرسولة” رواية عبد الحليم حمود “المفخّخة”
لم يحِد عبد الحليم حمود في روايته الجديدة “الرسولة”، عمّا سبقها، من حيث البناء الروائيّ، والأسلوب الكتابيّ إذ لا ينفكّ يغوص فيه، من حيث الأسئلة الوجوديّة، والهرم النفسيّ، والنُظم الاجتماعيّة، والدلالات الرمزيّة التي تستحوذ في العادة، على الحيّز الأوسع من نصوص حمود، فينهال عليها بمبضع التشريح، وصولًا إلى الأعماق اللامتناهيّة.
يختلط الأمر على الذين يتابعون أعمال عبدالحليم سواء التشكيليّة أو الروائيّة، ففي الأولى تشعر أنّ حمود يكتب باللوحات وفي الثانية يرسم بالكلمات، وهذا ما تلاحظه في الكثير من مقاطع “الرسولة”، حيث تتراءى لوحات حمود من بين النصوص، لتضفي على الرواية طابعًا سورياليًّا.
الرواية التي تدور حول آسر الذي يهرب من عصابة قتلت زوجته فرح وهي نائمة بالقرب منه، تعود وتتمحور حول وسن (الرسولة) التي تعرّف إليها آسر في تلك القرية البعيدة بعدما لجأ إليها ليتخفّى من تلك العصابة، وأيضًا بعدما أنهى جلسات طويلة من العلاج النفسيّ.
بالرغم من أنّ الرسولة تقبع ضمن خانة علم النفس الاجتماعيّ، إلّا أنّها مطرّزة بنسيج أدبيّ خياليّ مُمتع ومُعقّد، وذلك من خلال تفخيخ الشخصيّات، ومساراتها، والذهاب بها إلى مكنونات النفس البشريّة، وما تكتنزه من تعقيدات هي في الغالب موروثات اجتماعيّة، تفضي إلى ما ضجّت به الرسولة من أحداث، صاغتها مخيّلة حمود الخصبة، بالكثير من الذكاء والتشبيك، وهما بالرغم من تعقيداتهما، إلا أنّك تشعر وأنت تقرأه أنّه سلس الهضم، يشدّك للمتابعة والمضيّ قراءةً حتّى الخاتمة.
بالرغم من أنّ الرسولة تقبع ضمن خانة علم النفس الاجتماعيّ، إلّا أنّها مطرّزة بنسيج أدبيّ خياليّ مُمتع ومُعقّد، وذلك من خلال تفخيخ الشخصيّات، ومساراتها، والذهاب بها إلى مكنونات النفس البشريّة.
ضمن الرسولة وتفاصيلها تكمن العناوين الدسمة للرواية، فضلًا عن المضامين الوجوديّة، التي تتجلّى من خلال الدعوة إلى أن “نتزحلق بلا تأفّف، نرتطم من دون جلبة، نسقط بلا ضوضاء، فكلّ هذا جزء من اللعبة التي قطعنا تذاكرها طوعًا”، هناك الأمنية التي باح بها آسر في الرسولة وهي “لا أطلب شيئًا باهظًا من هذه الدنيا، ليس من باب الرضى فقط، بل لأنّ بعض أقدارنا صنع أيدينا، وأصابعي منشغلة دومًا في تصنيع الأشياء”.
اللافت في الرسولة، وما قبلها من نصوص، هو هوس عبدالحليم حمود في ذلك الكائن الهرميّ، البيولوجيّ، وهو الإنسان، وتحديدًا الرأس، وما يضمّ من دماغ، حيث ينكبّ آسر على تفكيك رمزيّاته ودلالاته، وهو ما ورد في الرسولة بشكل كثيف، واستحوذ على الكثير من نصوصها ومقاطعها، حيث يقول: “لقد عرفت الكثير في هذا العالم، لكن افتتاني منصبّ على تلك الكتلة الرخوة في أعلى الرأس، بما فيها من مخيخ، ونخاع شوكي، ولوزة، ومهاد وقرن آمون”.
ويتجلّى بوضوح أكثر حينما يقول “الدماغ مسكني المُبهر”. وفي موضع آخر يستطرد “من الضروريّ تقشير أغلفة دماغي، الذكرى تلو الذكرى، لأبلغ لبّ ذلك الجنين، الذي أوهمني ذات يوم أنّه قد ولد ومشى وبكى”. وفي مقلب آخر يصف “حين يغرق دماغي بالنبيذ يحدث فيه طوفانًا، أين منه طوفان نوح؟! هنا في رأسي، ما من حيوانات ناجية. جميع الأفكار غرقى، والذكريات تبقبق في القعر، وكلّ ما اختلجته من عواطف يستغيث لأبقي عليه حيًّا”.
يتابع آسر هوسه بذلك حين يشرح “فضولي كبير لمعرفة سرّ الجمجمة “الساحرة المستديرة”، ليس بما فيها فقط، بل بما عليها أيضًا”. ثمّ يتابع في الكثير من المقاطع والنصوص والتي امتدّت إلى صفحات، إسهابًا وتوصيفًا في ذلك.
لم يكتفِ آسر بافتتانه بالدماغ ووظيفته، ومن ثمّ بتشريح أجزائه، والغوص في دهاليزه، بل انتقل للحديث عن غطاء الرأس، ورمزيّاته، ودلالاته، واختلافاته عبر الزمن، وبين الشعوب، من القبّعة والخوذة والطربوش، إلى الحجاب والإكليل وغيرهما الكثير من الأشكال، التي أشبعها آسر تفسيرًا وتحليلًا واستنتاجات.
تتضاءل الأحلام والمشاريع والأمنيات لدى آسر في الرسولة، لتنزوي في الطعام ولذائذه، ونكهاته، وأشكاله الشهيّة، وصولًا إلى طرائق تحضيره، فيرتفع إلى شغف وثقافة بين سطور الرواية، لتستهلك حيّزًا لا بأس به من مقاطعها، فالسعادة تكمن بحسب بطل الرواية آسر، بمنقوشة الزعتر بسمسم كثير، وصحن مسبّحة بزيت بكر. لكن التكثيف الأكثر تعبيرًا عن ذلك، حين يسأل آسر: “هل تريدون التعرّف إلى مفاتيح الحياة؟ ليجيب، عليكم بساندويش محمّص لا تهمّ حشوته، إذ إنّ التحميص بحدّ ذاته هبة سماوية”.
الكثير من الروايات تبقى أسيرة أحداثها وتفاصيلها، وهذا لا ينطبق على الرسولة، التي أفردت أحداثها إلى الخيال تعبث به، فيصير حدثًا، ثمّ لا يلبث أن ينقلب خيالًا يحاكي واقعة. وهذا ما تتأرجح به نصوص الرواية، التي ما أن ترتطم أحداثها بأرض الحقيقة، حتّى تعود وتسارع للتحليق في دنيا الخيال، منذ بدء تكوينها إلى سفر الخاتمة.
يتجلّى ذلك من خلال “ليست الدهشة شرط الإبداع، بل هي أولى طبقاته، والثانية للشهقة، والثالثة للصعقة، والرابعة للعويل. أنْ تسلك دهليز الإبداع، أيّ أن تمزّق الكتاب، وتبقرَ بطن اللغة، وتنحرَ القارئ قبل ولادته. كيف إذا كنتُ أنا الكتاب والقارئ في آن؟”
تتكشّف “شيفرة” الرواية و”كوداتها” ومادّتها الكتابيّة بشكل واضح في الرسولة، حيث تُحال الوقائع والأحداث العابرة، إلى المخيّلة، تُسافر بها لتعود حجرًا في العمارة الروائيّة، مشذّبة، مصقولة لا تجد صعوبة في الركون، إلى ذلك النسق الذي يبدو متناغمًا ضمن العناصر الأُخرى المتنوّعة والمُتعدّدة.
لكن يبقى الحيّز الأساسيّ من “الرسولة”، يندرج ضمن الغوص في متاهات النفس البشريّة، التي عبثًا يحاول آسر بلوغَها، فلا يصل، فيعمد إلى تفجيرها في آخر الرواية، من خلال قلب وقائعها رأسًا على عقب. لعلّ آسر يحاول من خلال ذلك، القول: إنّ الجزء الأكبر من حياتنا يقبع في الخيال، وإنّ الحقيقة الوحيدة التي نعيشها، ربما تقع في حيّز الوهم.
“أقدامي تمشي هنا، بينما عيناي كانتا في المقبرة، تراقبان الماء النازل على الحبر، والحبر السائل على القبر”.. هذا ما قاله بطل الرواية بعدما وزّع برفقة “وسن” الرسائل على القبور.
لفتني اسم بطلة “الرسولة” وسن، قادني فضولي للتفتيش عنه في محرّك البحث “غوغل”، وتحديدًا في مجمع المعاني، ليتبيّن لي أنّ معانٍ وتفسيرات كثيرة لتلك منها “نُعاس، أوّل النَّوم أو ثِقَلُه”. ثم قادني الفضول أيضًا، في البحث عن معنى اسم بطل الرواية، فلم أجد له سوى معنىً واحدًا، في هذا النص المشوّق والممتع، وهو بالطبع آسر.