عن بركة “زهرة خيزران” الزرقاء وذكرى الانتماء

في ألبومات بيتنا العائليّة، توجد صور كثيرة لي ولأخوتي مع عائلتنا في مرحلة طفولتنا، إمّا على شاطئ البحر أو في أحواض السباحة. في منتصف الثمانينيّات، كنّا نرتاد شاطئ خلدة والرملة البيضاء، وبعدها بقليل، ربّما في أواخر الثمانينيّات، صرنا نقصد “الشاطئ الذهبيّ” في الرميلة. ولكن قبل ذلك، في أواخر السبعينيّات وحتّى أوائل الثمانينيّات، كانت صورنا محصورة في بركة “زهرة خيزران” في منطقة خيزران، التي تبعد عن قريتنا “اللوبية” أقل من كيلومترين اثنين.
صور كثيرة، ومناسبات عديدة. أهلي مع أصدقائهم وأقاربهم وجيرانهم. مائدة سمك، بيرة، عرق، جلّول، وبيبسي. ابتسامات وبركة زرقاء وطفولة بعيدة. صورنا في “زهرة خيزران” لم تحفظ إلّا طفولتنا. لا توجد صور لنا هناك بعد تلك المرحلة. أمّا في فترة المراهقة، فصرنا نقصد “زهرة خيزران” فقط لحضور حفلات زفاف وخطوبة، وعادة ما تكون في الصالة الداخليّة.

“طبعًا في كحول.. شو هالسؤال؟”
عدت إلى “زهرة خيزران” منذ ثلاث سنوات، بعد عودتي من الخارج (الغربة) وإقامتي في القرية. قبل أن أقرّر الدخول، سألت أحد العاملين عمّا إذا كان الكحول متوافرًا؟ فأتتني الإجابة مؤكّدة بوجوده، مع لهجة توحي بـ: “طبعًا في كحول، وشو هالسؤال؟”. ثمّ سألت إن كان بإمكاني ارتداء مايوه؟ فجاءني الرد الإيجابي نفسه.
ما هذا النعيم الذي أنا فيه؟ أهذا متاح على بعد كيلومترين فقط من بيتي؟ لماذا إذًا أقصد منطقة صور؟ وكانت دهشتي مبرّرة، فبيع الكحول في المنطقة لم يكن أمرًا مألوفًا، بل ليس مسموحًا به. لطالما شهدت المنطقة حالات اعتداء وتكسير لمتاجر بيع الكحول، وصولًا إلى تفجيرها. ولا يمكن توافر وبيع الكحول إلّا بوجود شبكة علاقات وجهات ساندة.
زرت المكان مرّات عدّة للسباحة أو لتناول الغداء، أو لأكون قرب الشمس والبحر والبيت في آن واحد، وأحيانًا للرسم. حافظ هذا المكان على مكانته، وعلى جودة الخدمة والطعام. الصالة الداخليّة هي الصالة الشتويّة، ولكنّها مفتوحة دائمًا. إلّا أنّ روح المكان وذكرياته والنوستالجيا – على الأقل بالنسبة لي – لا يمكن التقاطها إلّا في الباحة الخارجيّة المطلّة على البحر والقريبة من بركتي السباحة الكبيرة والصغيرة. أكثر ما بقي عالقًا في ذاكرتي عن المكان، في ما عدا رائحة الملح، هو لون الطلاء الأزرق الذي يغطّي أرضيّة وجدران البركة، والقسطل (الأنبوب) الذي يجرّ مياه البحر ويصبّها بشكل بارز في البركة بعد تكريرها.
شهرة طافت لبنان كلّه
أكثر من مطعم سمك كان ينتشر عند الواجهة البحريّة لمنطقة خيزران، لكن ما بقي منها هو “زهرة خيزران” و”عروسة خيزران”– يفصل بينهما مئات الأمتار ويملكهما أشقاء من آل فقيه-، لاحقًا، برزت مطاعم ومنتجعات أخرى مثل “الديوان” و”منتجع خيزران”. وفي أوائل التسعينيّات جرى افتتاح فندقيّ “المونس” و”فؤاد فيل” واستراحة إليسا. ولكن المعلمين اللذين صمدا بوجه جميع الظروف هما “زهرة خيزران” و”عروسة خيزران”. وهناك أطلال لـ “جزيرة البحر”، التي تقع بينهما، وكان يملكها شخص من آل سبليني، لكنه توفّي وتوفي معه المكان.
لا أعرف أحدًا لم يسمع بسمك منطقة خيزران ومطاعمها، وتحديدًا “زهرة خيزران” الأشهر بينها. التعليق المتكرّر: “أوه، أعرف منطقة خيزران، أطيب سمك هناك… كنا نذهب إلى خيزران مع أهلنا من بيروت، من طرابلس، من كسروان… رزق الله على تلك الأيام”.
أكثر ما بقي عالقًا في ذاكرتي عن المكان، فيما عدا رائحة الملح، هو لون الطلاء الأزرق الذي يغطّي أرضيّة وجدران البركة، والقسطل (الأنبوب) الذي يجرّ مياه البحر ويصبّها بشكل بارز في البركة بعد تكريرها.
مشاهير في ذاكرة المطعم
يحكي “أبو شريف” أحمد فقيه، (مواليد 1955)، أحد الأخوة من شركاء “زهرة خيزران” الذي بني في العام نفسه، أنّه كان يرتاد المكان طفلًا، عندما كان المطعم لا يزال بإدارة والده الذي رحل حينما كان أبو شريف لا يزال في السابعة من عمره. وبعدما أنهى دراسته المدرسيّة، كان من البديهيّ أن يعمل في المكان مع إخوانه الأكبر سنًّا، ممّن سبقوه إلى العمل في المطعم، ثمّ إدارتهم له بعد وفاة والدهم.
يتذكّر أبو شريف أفرادًا من شخصيّات مشهورة كانت ترتاد المكان، “مثل: الرئيس كميل شمعون، الرئيس عبدالله اليافي، الزعيم كمال جنبلاط، الرئيس رشيد الصلح، وغيرهم كثر. ويعتبر أنّ أفضل مرحلة انتعش فيها المطعم كانت تلك التي تلت الانسحاب الإسرائيليّ وانتخاب بشير الجميّل رئيسًا للجمهورية، حينما “فتحت المناطق بعضها على بعض، وما عدنا نعرف يوم الإثنين من الخميس من الأحد، وصار فيه كثير شغل”.
عن الفرق بين الحاضر والماضي، يقول أبو شريف لـ “مناطق نت”: “في السابق كانت المطاعم قليلة عمومًا، وتحديدًا في الجنوب، وكان لا مفرّ للذاهبين جنوبًا من المرور بمنطقة خيزران، وبالتالي لا مفرّ من تناول الغداء في “زهرة خيزران” في الذهاب أو الإيّاب. كان بإمكان أيّ عائلة أن ترتاد المكان لأجل “أكلة سمك وضهرة حلوة مع العيلة”، ولكن الآن لم يعد هذا الأمر بالسهولة عينها لأسباب مادّيّة. كذلك فإنّ هناك فئات كاملة لم يعد بإمكانها ارتياد مثل هذه الأمكنة، على نحو أفراد المؤسّسة العسكريّة والجيش والموظّفين”. ولا يزال أبو شريف يحتفظ بصورة لائحة الأسعار القديمة، والتي تظهر فيها الأسعار بالقروش.
تبدّلات سياحيّة
قبل سنوات، كان “زهرة خيزران” يستقبل زبائنه من كلّ لبنان، لكن الآن، ولأسباب أمنيّة في مجملها، وتحديدًا في السنة الأخيرة، اقتصر الروّاد على “أهل المنطقة”. ولكنّه يذكر “عائلات بيروتيّة كثيرة كانت من الروّاد القدامى، مثل: عيتاني، الخطيب، والغلاييني”.
قديمًا، كانوا يشترون السمك من صور، لكن تغير الوضع بعد افتتاح مرفأ الصرفند، الذي يضمّ سوقًا ومزادًا للسمك، وأصبح المرفأ المصدر الرئيس للسمك في المطعم. ومن أكثر أنواع السمك المطلوبة من قبل الزبائن هي سمكة اللقّز، الفرّيدي، السلطان إبراهيم، والقرَيْدس، بالإضافة إلى السمك النيء. علمًا أنّ القريدس يستورد من الخارج.

الشعور بالانتماء
في العام 2009، حاول أبو شريف إلغاء المشروبات الكحوليّة من القائمة بعد تأديته مناسك الحج، ولكن “ما مشي الحال”، فعادت الكحول إلى القائمة سريعًا، لأنّ معظّم روّاد المكان، إن لم يكن جميعهم، كانوا يشربون الكحول.
أمّا الأعراس، التي كان “زهرة خيزران” مكانًا لعديد منها، فقد توقّفت منذ زمن، لأنّ أصحاب المكان أرادوا الحفاظ على مستوى معين من الخدمة، وتلك الخدمة مكلفة، فاستغنوا عن الأعراس، على الأقلّ حتّى اللحظة.
من حديقة بيتي، أرى البحر المشترك بيني وبين “زهرة خيزران”. ومن بعيد، أشعر بأنّني أملك كلّ هذا البحر. ولكنّ طبيعة المنطقة وخصوصيّتها، لا تسمحان لي ولكثيرين غيري، وبخاصّة النساء، بالاقتراب والتنعّم بهذا البحر ومداه. عليّ أن أتوجّه جنوبًا نحو مدينة صور أو شمالًا صوب الرميلة والجيّة كي أمارس حقّي في أن أكون قريبة من البحر. أمّا “زهرة خيزران”، وعلى رغم عدم وجود شاطئ رمليّ خاصّ بها، إلّا أنّها تخرق هذه الخصوصيّة وتتيح لي إمكانية الشعور بالانتماء -ولو قليلًا- مجدّدًا إلى هذا المكان وهذه المنطقة.