عيد البشارة.. “يا مريم” ماذا يقول القَصص الدينيّ؟

يروي القصص الدينيّ التقليديّ أن “سِتّنا” (بتعبير جدّتي فاطمة) مريم بنت عمران كانت شديدة العبادة: وقد “ظهر عليها من الأحوال ما غبطها به زكريّا عليه السلام، وأنّها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها، وبأنّه سيهِب لها ولدًا زكيًّا، يكون نبيًّا كريمًا طاهرًا مكرّمًا، مؤيّدًا بالمعجزات، فتعجّبت من وجود ولد من غير والد لأنّها لا زوج لها، ولا هي ممّن تتزوّج، فأخبرتها الملائكة بأنّ الله قادر على ما يشاء، إذا قضى أمرًا فإنّما يقول له: “كُن فيكون”. فاستكانت إلى ذلك، وأنابت وسلّمت لأمر الله وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها”.
والحال، لم تجد الأكّاديميّة والكاتبة اللبنانيّة، حُسن عبّود، أفضل من هذه الشخصيّة المباركة لتجسيد التلاقي الكبير بين الإسلام والمسيحيّة، فخصّصت لها كتابها الموسوم “السيّدة مريم في القرآن الكريم، من النصّ إلى الخطاب” (بيروت، 2022)، في طبعته الثانية المنقّحة والمزيّدة بعد الأولى التي صدرت العام 2010، وبعد الطبعة الإنكليزيّة العام 2014. ورغبتها في تقديم نظرة مختلفة إلى حضور السيّدة مريم في القرآن الكريم وتوكيد أهمّيّة العنصر النسائيّ في الإسلام، ومريم تحديدًا مثابة نقطة التقاء وتقارب بين الديانتين الكبيرتين.
نموذج السيّدة القدسيّة
واختارت مقاربة غير تقليديّة أثبتت جدارتها في تمييز النصّ النهائيّ للقرآن “بوصفه متجاوزًا لطبقاته التاريخيّة”، ونجحت في “موضعة القصص في سياقها الزمنيّ الصحيح، أيّ ما قبل القرآنيّ”، ما يفتح الباب واسعًا على عمليّة التناص، أيّ إلى تلك العلاقات المتبادلة بين نصّ مُعيّن ونصوص أخرى، وهي لا تعني، بحسب التعريف الأكاديميّ، تأثير نصّ في آخر أو تتبّع المصادر التي استقى منها نصّ تضميناته من نصوص سابقة، بل تعني تفاعل أنظمة أسلوبيّة، وتشمل العلاقات التناصّيّة إعادة الترتيب، والإيماء أو التلميح المتعلّق بالموضوع أو البنية والتحويل والمحاكاة.
وقد نجحت في تقديم شخصيّة مريم “بوصفها نموذجًا متفرّدًا للسيّدة القدسيّة، ونموذجًا للمرأة بعامّة في فهم القرآن لها وفهم علائقها الأنثويّة والجندريّة والإنسانيّة عامّة”.
تعرض الباحثة “سورة مريم” (القرآن الكريم، 19)، في شكل وحدات أدبيّة، بغرض فحص علاقة الآيات والوحدات بعضها ببعض، وتبرز القسم القصصيّ (بشخصيّاته الرئيسة: زكريّا ومريم وإبراهيم)، والقسم الحجّاجي، لتخلص إلى أنّ السورة “تتمتّع بوحدة عضويّة وشعوريّة متماسكة العناصر في الشكل والمحتوى”.
وتشير إلى أنّ نصّ البشارة يتناصّ مع إنجيلَيْ لوقا ومتّى، والشكل الشعريّ مع قصيدة المدح الجاهليّة. وهي تقدّر أنّ ما يوحّد قسمَي السورة هو عبارة “الرحمٰن” (الإله الواحد)، وهو الاسم الآراميّ للأصل “رحمنان” المعروف في جنوب الجزيرة العربيّة للإله التوحيديّ، ويظهر في النقوش السبئيّة الحميريّة والنصوص اليهوديّة والمسيحيّة، ما يفضي إلى القول بانتماء دين محمّد إلى دينيّ التوحيد السابقين عليه، كما تُوحّد بين الأديان السماويّة الثلاثة فكرة الرحمة، وأنّ الاسم استُبدل في الفترة المدنيّة بكلمة “الله”.
دلالات البشارة
تظهر السيّدة مريم فريدةً في مقامها بإزاء ومقارنة بالشخصيّات النسائيّة الأخرى الوارد ذكرها في القرآن، إذ هي الوحيدة المناداة باسمها “يا مريم”. وتركّز الكاتبة على الدلالات التي تشي بها قصّة بشارتها وحملها، وأبرزها فكرة الخصوبة والوضع “بين النخلة المحمّلة بالرُّطب والنهر الذي تفجّره المياه”. ويُشير حملها إلى “قوّة الأنثى في المقدّس” وتستنتج أنّ وصف أمومة مريم يمثّل الطريق لفهم مقام السيّد المسيح النبويّ من جهة، ومصدر للرحمة الربّانيّة للمؤمنين من جهة أخرى. وهي تجد في علاقة عيسى بأنصاره الحواريّين شبهًا لعلاقة محمّد بأنصاره الأوس والخزرج في المدينة.
تشير الكاتبة حسن عبود أنّ نصّ البشارة يتناصّ مع إنجيلَيْ لوقا ومتّى، والشكل الشعريّ مع قصيدة المدح الجاهليّة. وهي تقدّر أنّ ما يوحّد قسمَي السورة هو عبارة “الرحمٰن” (الإله الواحد)، وهو الاسم الآراميّ للأصل “رحمنان”
والحال، لا يقتصر عمل الكاتبة على إخضاع سورة مريم للقراءة البيانيّة، بل هي أيضًا مجال للنظر في تركيب القرآن وتطوّر دعوة النبيّ محمّد وجداله مع أصحاب الديانات الأخرى. وعلى رغم أنّ السورة مُشكّلة من وحدات متنوّعة البُنية، إلّا أنّها مُقيّدة في الموضوع.
رباط وثيق بين المسيحيّة والإسلام
في تشريحها لسورة آل عمران (الآيات 48 إلى 54) تجد الفرصة سانحة كي تؤكّد الخيوط الرابطة بين الإسلام والمسيحيّة، فتجد في علاقة عيسى بأنصاره الحواريّين شبهًا لعلاقة محمّد بأنصاره الأوس والخزرج في المدينة، وهذا يفيد بأنّ “موقف النبوّة هو موقف واحد”، ويُعدّ هذا، في زعمها “أفضل مثال على دمج مستويين من القراءة: مستوى مسيحيّ ومستوى إسلاميّ، فيقرأ الأوّل عبر مفاهيم وتعابير الثاني”. ثمّة ملاحظة مهمّة توردها عبّود حول اصطفاء مريم بنت عمران في المرحلة المبكرة من الهجرة إلى المدينة، إذ إنّ آل عمران ينحدرون من نظام أموميّ مثلهم تمامًا مثل آل إبراهيم في هذا الاصطفاء، و”هذا قد يشير إلى أنّ النسب الأموميّ كان ولا يزال مأخوذًا به في مجتمع ما قبل الإسلام”. في ختام دراستها القيّمة، تشدّد عبّود على “التراث الشعائريّ الروحيّ المشترك بين المسيحيّة والإسلام”، وترى أنّ مريم تمثّل النموذج الكونيّ للحبّ الأموميّ، وسيرتها وموقعها يساعداننا في فهم مكانة المسيح في الدين الإسلاميّ.
درب مريم
قرنت عبّود النظر بالعمل، فساهمت مع نساء أخريات (تريز فرّا، فرنسواز ديلفار، د. سامية علامة، د. سهى نصرالدين) يؤمِنّ بالحضور المريميّ المشترك بين المسيحيّة والإسلام، في إنشاء “درب مريم” في العام 2002، وهي في بيان التعريف بها: “حركة مسيحيّة- إسلاميّة لنشر ثقافة الودّ والسلام بين اللبنانيّين، وللتعارف الإنسانيّ والتلاقي الروحيّ”. من أهدافها: “تعزيز السلم الأهليّ”، و”السلوك التوّاق إلى المعرفة والانفتاح على الآخر”، و”المشاركة معه في التفكير والعمل لخير الإنسان والوطن”.
وقد جرى اختيار السيّدة مريم “لأنّها ترمز إلى الأمّ التي تجمع ولا تفرّق، وتمثّل صورة المرأة المتواضعة أمام الله و”الآخر”. في المسيحيّة هي أمّ المسيح، لها مُعطى كِتابيّ وترنيمة في الأناجيل، وفي الإسلام، لها مُعطى كتابيّ في القرآن، يخصّها لذاتِها كما لأمومتِها للسيّد المسيح. وهي المرأة الوحيدة التي تملك الاسم وقوّة التسمية”، وفاقًا لأدبيّات الحركة.
ولهذا الغرض تنظّم موسميًّا رحلات سياحيّة في ظاهرها إلى جميع المناطق اللبنانيّة للتعرّف إلى المعالم الدينيّة والثقافيّة، بحيث “ترسّخ قيم الحوار والتعايش بين الأهالي بكلّ محبّة، ودفعًا لعمليّة السلام إلى الأمام”، والهدف الرئيس التلاقي مع الآخرين: “مسيحيّون ومسلمون معًا”. وقد جرى تحديد شهر تشرين الثاني موعدًا، بمثابة تقليد، حيث يصادف عيد دخول السيّدة مريم إلى الهيكل وذكرى الاستقلال الوطنيّ اللبنانيّ. وفي خطط الدرب المستقبليّة، بحسب بيان التعريف، نشاطات أخرى: “قراءة التراث المشرقيّ الكِتابيّ لفهم مكانة السيّدة مريم في الكتاب المقدّس والقرآن الكريم، والمشاركة في سماع التراتيل الدينيّة والأذكار الصوفيّة في الأعياد الرسميّة”.
وقد أضحت السيّدة مريم، هذه الصِّدّيقة المُبجّلة رمزًا للإخاء والمحبّة، يحتفل اللبنانيّون ببشارتها في 25 آذار (مارس) من كلّ عام في عيد وطنيّ رسميّ على قلب واحد.