عين بوسوار حافلة بالحكايا ومغيبها حزين لغياب العاشقين
لطالما احتار النّاس في أصل تسمية قرية عين بوسوار، إحدى أجمل قرى إقليم التفّاح في جنوب لبنان، التي يتردّد إليها كثيرون من سكان الجوار والمناطق اللبنانيّة لسحر المغيب فيها، ولمياهها المتفجّرة صيفًا وشتاءً لملء أوعيتهم “غالونات” المياه من ينابيعها المشهورة بين الناس بأنها تُعالج حصى الكلى. هي بلدة تعيش وسط الغيم والضباب، وتغفو بينهما ساعات وساعات، لذا يفرّ إليها أبناء المدن من مختلف المناطق والملل صيفًا للتمتّع بجوّها البارد اللطيف.
منذ نحو عامين أو ثلاثة، تحوّل جبل صافي في أعلاها، من منطقة عسكرية مُغلقة، إلى جبل سياحيّ كثرت فيه الاستراحات والـBungalow ليستقبل الوافدين للتخييم ومشاهدة سحر المغيب، “إذ تسبح شمس المساء في بحر من غيم وضباب، ثم يدلق الأرجوانيّ رحيقه الفتّان، فتتوه العيون وتحتار بهذا الفوران الكونيّ الأخّاذ” كما يصف الإعلامي الزميل كامل جابر المشهد هناك.
سياحة حذرة ومتوقّفة
ويضيف جابر: “لكن سحر السماء والغيم المتعانقين مساءً كعاشقين فوق بساط ريح متّسع، يعبر حزينًا هذه الأيام، بل منذ أكثر من ستّة أشهر، بسبب الحرب الدائرة على الحدود الجنوبيّة، إذ تعتبر التجمّعات فوق الجبل، أو التخييم في أحراج صافي خطر محدق أمام استهدافات طائرات الاحتلال الإسرائيليّ الحربيّة ومسيّراته وقد تعرضت مرتفعات الإقليم للقصف والغارات الإسرائيليّة أكثر من مرة، وقد توقفت الزيارات إلى هذه المرتفعات منذ ذاك الحين”.
كانت المنطقة قد شهدت في العقد الأخير فورة سياحيّة توزّعت بين مرتفعات جبل صافي ومعلم مليتا السياحيّ العسكريّ والذي يضمّ بين جنباته متحفاً عسكريًّا أنشأه حزب الله، ويعرض فيه غنائمه من الجيش الإسرائيليّ في فترات متلاحقة، ومنها بعد الانسحاب السريع لجيش الإحتلال من لبنان وجنوبه في العام 2000، مخلّفًا وراءه آلاف القطع الحربيّة والدبّابات والمدافع وناقلات الجند والأسلحة المختلفة، فأمّتها الوفود السياحيّة اللبنانيّة والعربيّة من كلّ حدب وصوب.
يقول رئيس اتّحاد بلديّات قرى إقليم التفّاح بلال شحادة في حديثه إلى “مناطق نت”: “إنّ الإنماء الذي شهدته المنطقة، لم يكن من إهتمام الدولة بل كان جهدًا محلّيًّا، وتشبيكًا مع بعض الجمعيّات والمنظّمات كالـUNDP، وبرامج الأمم المتّحدة وغيرها، حيث أنعشت بعض المشاريع المنطقة وجعلتها على الخارطة السياحيّة”.
يضيف شحادة: “أسهم التشبيك الذي قامت به قرى الإقليم في ما بينها، على مختلف الصعد في حلّ أزمات النفايات، وتأمين خدمات الرعاية الصحّيّة لأبناء المنطقة من خلال إنشاء المستوصفات اللازمة، وكذلك نشاطها في المجال التوعويّ، وتعزيز الإنتاج الذاتيّ، لبعض الزراعات ومشاريع المؤونة، ودعمها المشاريع السياحيّة”.
يتحدّث شحادة، عن الدور الحاليّ الذي تلعبه بلديّة جباع وعين بوسوار، في إيواء النازحين من القرى الحدوديّة جرّاء الاعتداءات الإسرائيليّة، “حيث شكّلت مجتمعًا مُضيفًا بتكاتف محلّيّ، وتأمين الاحتياجات الأساسيّة لهم”. وأشار شحادة “إلى مبادرة أبناء البلدة إذ قاموا بإنشاء مطبخٍ يعملون من خلاله على توفير وجبات الإفطار للنازحين”. ويكمل: “هذا التكاتف أيضًا كان حاضرًا منذ بداية الأزمة الاقتصاديّة وجائحة كورونا، التي لم تمنعْنا من الوقوف جانب أبناء البلدة”.
سياحة دينيّة
تقدّم البلدة نفسها كمنطقة سياحيّة مُلتزمة دينيًا، وذلك لاحتواها مقام “النبي صافي” الذي دمّره الاحتلال الإسرائيليّ في العام 1988 وأعيد تشييده في السنوات التي سلفت. وبات جبل صافي يعرف بـ”درب صافي” أو “درب الرّبّ”، إذ غدا محطّة أساسيّة لمحبّي الـHiking والتخييم.
وبالرغم من الخصوصيّة الدينيّة والسياسيّة للمنطقة، “فإنّ ذلك لم يمنعها من استقطاب الجميع من مختلف الانتماءات الاجتماعيّة والسياسيّة، بمن فيهم السيّاح الأجانب، والدليل على ذلك هو كمّيّة الباصات السياحيّة التي تتوافد صيفًا إلى مَعلم مليتا، وقد خصّصت فيه إدارة المعلم مترجمين يقدّمون الشروح للوفود الأجنبيّة التي تزور المَعلم” يقول شحادة.
تقدّم البلدة نفسها كمنطقة سياحيّة مُلتزمة دينيًا، وذلك لاحتواها مقام “النبي صافي” الذي بات يعرف بـ”درب صافي” أو “درب الرّبّ”، إذ غدا محطّة أساسيّة لمحبّي الـ Hiking والتخييم.
يصف أحد أبناء البلدة لـ”مناطق نت”، الطريق إلى جبل صافي بـ”الطريق المهيب، الذي يفسّرُ معنى أن يرى المرء الأشياء من فوق، من أعلى نقطة في الجبل الذي (دَوَّخ) إسرائيل حرفيًّا، ولم يكن حكرًا على حزب سياسيّ في بداية التصدّي للاحتلال الإسرائيليّ”.
ويُكمل: “عاندت عين بوسوار الاحتلال ودُمّرت بشكل كامل في العام 1993، وكذلك في حرب (عناقيد الغضب) في نيسان العام 1996، وأُعيد بناؤها كاملة بعد تحرير الجنوب سنة 2000. وتعرّضت أيضًا لبعض التدمير في حرب تموز 2006، وهذا التدمير ما زال ماثلًا للعيّان، ففي زيارة البلدة، يمكن معاينة عدد من المباني المدمرة”.
جغرافية عين بوسوار
ترتفع البلدة قرابة ألف متر عن سطح البحر، وتمتدّ نزولًا نحو عين قانا غربًا وجباع شمالًا، ونحو جرجوع جنوبًا. أمّا تلالها وجوانب طرقاتها فتعاين البحر الأبيض المتوسّط ومعها مساحات واسعة من قرى الجنوب والساحل. ومن الشرق تشمخ نحو جبل صافي الذي شكّل أصل حكايتها على مرّ السنين، ويتكاتف الجبل مع “مليتا” لاحتضان البلدة “العين” بوسوار.
عُرفت عين بوسوار قديمًا بمزرعة كرم القطن. وثمّة ترجيحات مختلفة لاسمها، تقول إحدى المرويّات “إنَّ أحد الفرنسيّين مرّ بها في ليلة مقمرة أضاءت منحنيات المنطقة والمنعطفات، فبدت في منظر أخّاذ حملَهُ على القول: Quel Beau Soir أيّ يا لها من أمسية جميلة”. وهكذا انقلبت التسمية وصارت “عين بوسوار” أو “عين أبي سوار” من مزيج عربيّ وفرنسيّ جمع غناها بأعين المياه ومغيبها الساحر.
أمّا الرواية الثانية المُتناقلة عن اسمها فتقول: “إنّ مستعمرًا فرنسيًّا مرّ ذات يوم على عين ماء في سفح جبل صافي فطاب له المكان وقال Beau Soir أيّ مساء جميل، فسرتِ التسمية على القرية التي تلتحف الضباب رداءً منعشًا على مدار العام.
تبعد البلدة 68 كيلومترًا عن العاصمة بيروت، و14 كيلومترًا عن مركز المحافظة النبطية، وتتبع إداريًّا لبلديّة جباع، إذ إنّهما بلدية مجتمعة. يبلغ عدد سكّانها حوالي 1500 نسمة يتضاعفون في أيّام الصيف. أمّا عائلتها فهي ثلاث فقط: كركي، جزيني وشحادة، وفيها عائلات أخرى مثل: مطر وستّة وإبراهيم وهي أتت من مناطق مجاورة للبلدة، انتقلت إليها وكوّنت أسرها فيها.
تطغى على أراضي عين بوسوار بساتين التفّاح والعنب والجوز والتين، ومن أحيائها: المزرعة، العين الفوقا، العين التحتا، القلعة، الخانوق، الزناديّة، الريحانة، الرابوط، ميّاسة، شير الحمام، والأخير من المعالم الأثريّة المهمّة، إذ إنّه كهف صعب المرتقى، يُعتقد أنّ في داخله بقايا وأدوات تعود للإنسان القديم.
مجسّم للشهيد الطيّار
الطريق إلى عين بوسوار صعودًا من صيدا، تعبر ببلدات تتوزع بين صيدا وإقليم التفّاح على النحو الآتي: كفرحتى، كفرملكي، كفرفيلا، فجباع، وصولًا إلى مدخل عين بوسوار المقوّس بأشجار معمّرة. هناك ثمّة مجسم طائرة مرفوع فوق أحد القبور، ويرمز إلى حكاية ابن البلدة الشهيد الطّيار زهير شحادة (1961- 1986)، الذي تمكّن مع رفاق له في معتقل أنصار من تصميم وصنع طائرة، جمعوها قطعةً قطعةً. وعدّت في حينه الطائرة الأولى من نوعها في تاريخ المعتقلات في العالم.
التجوال في أحياء عين بوسوار القديمة، وهي بغالبيتها أدراج موصلة بين بيوتها، ولا تتّسع لمرور السيارات، متعة بحد ذاتها، إذ رُصفت جوانب الأدراج بما تشتهر به “سطيحات” الدور الجنوبيّة القديمة من أصص (تنك) الزريعة وقد تعتعها الصدأ مزينة بالورود والمردكوش والحبق والزعتر والنعناع.
التجوال في أحياء عين بوسوار القديمة، وهي بغالبيتها أدراج موصلة بين بيوتها، ولا تتّسع لمرور السيارات، متعة بحد ذاتها، إذ رُصفت جوانب الأدراج بما تشتهر به “سطيحات” الدور الجنوبيّة القديمة من أصص (تنك) الزريعة وقد تعتعها الصدأ مزينة بالورود والمردكوش والحبق والزعتر والنعناع.
وسط دارها المفتوحة، وبالرغم من البرد القارس، تجلس الحاجة “زينب”، ترمي التحيّة على كُلّ من يعبر من أمام الدار. يقارب عمرها التسعين، ولمّا تزل تحتفظ بجمال يكمن في تجاعيد وجهها، وعيناها الزرقاوان يقولان كثيرًا من كثير.
بلكنة جنوبيّة التي لا تخلو من الدعاء، تتحدّث الحاجة زينب عن بلدتها وتصفها لـ”مناطق نت”، بأنّها “منزلٌ واحد وعائلة واحدة، كلّنا قرايب (أقارب). كنّا نتساعد منذ الصغر، نعجن الخبزات مع بعض ومنوزّعن على بعض، وكذلك الطبخات (الطبخ)”. تستذكر الحاجة كيف كانت تتسلّق جبل صافي لتأمين حطب التدفئة ولم تكن قد بلغت الـ14عامًا، “كان يوقفني الناطور ويدلّني على الحطبات وما يخليني أقطع من الشجرات الخضر”. وتفيد بأنّ عائلتها كانت تعمل في زراعة التفّاح والعنب. وتنقل عن أجدادها “أنّ عين بوسوار كانت مزرعة للقطن، لكنّها اندثرت مع مرور الزمن”.
مياه عين الفوقا للعلاج
أجمل ما في عين بوسوار ينابيع مائها، إذ تحتوي البلدة مع جارتها جباع على 365 نبعًا، على عدد أيّام السنة، ومن أشهرها عين الفوقا، عين التحتا، عين الزرقا، عين المرحوقة.
يقول السيد عدنان كركي، صاحب مطعم يحاذي نبع عين الفوقا لـ “مناطق نت”: “عين الفوقا هي من أهمّ الينابيع، وباتت مشهورة تتميّز بمياهها المعدنيّة، حيث تحتوي على نسبة عالية من المعادن المذابة، المفيدة لصحة الإنسان، وقد تمّ تحليلها لمعرفة نوعيّة المياه المعدنيّة ومواصفاتها وخصائصها، وتعدُّ ذات قيمة طبّيّة عالية تساعد في تفتيت حصى الكلى”.
يُتابع كركي: “تختبئ عين الفوقا وتجف مياهها في أيّام الشتاء، لتروي ظمأ وعطش أهل ضيعتها وضيوفها في أيّام الصيف الحار، وطبعًا الماء بالمجّان لجميع القاصدين”.
بسبب النبع ذاع صيت مطعم كركي في المنطقة، وبالرغم من الحرب الدائرة والأضرار التي سبّبتها، وتوسّعها لضربات عديدة في قرى إقليم التفّاح، إلّا أنّ كركي لم يقفل أبواب مطعمه ولا يزال يستقبل الزوّار، لا سيّما إفطارات شهر رمضان. ويختم: “نحن أبناء هذه الأرض، ومن أشكال المقاومة التمسك بالأرض”.