فدوى طوقان وسؤال الهويّة.. قراءة في مذكّراتها

يقول جوليان غراك في كتابه “المياه الضيّقة”، على شمع الطفولة تنطبع صور خرساء ترغب على الدوم بالكلام.

منذ الصفحات الأولى لسيرتها الذاتيّة وصولًا إلى نقطة النهاية ثمّة ما يشي أنّ فدوى طوقان على تماهٍ مع عبارة غراك أعلاه. يطالعنا كتاب “رحلة جبليّة رحلة صعبة” – وهو العنوان الذي اختارته طوقان لمذكّراتها– بجهل الشاعرة الفلسطينيّة لتاريخ ميلادها بالتحديد… “تاريخ ميلادي ضاع في ضباب السنين… أسأل أمّي، في أيّ فصل؟ في أيّ عام؟” لتجيبها أمّها “في موسم قطاف العكّوب”.

غالبًا لا تكتفي السيرة الذاتيّة ببث ما قد انقضى، بل تراها أقرب إلى تأمّل في رحلة الذات وصولًا إلى محاولة بناء هذه الذات أو ترميمها في أحسن الأحوال. قد لا تستجيب مذكّرات طوقان لتوقّعات القارىء إزاء الأحداث السياسيّة والعسكريّة الكبرى والتي كانت تعصف ببلاد العرب وفلسطين بخاصّة إلّا من آن لآن… “بين عالم يموت وعالم على أبواب الولادة خرجتُ إلى هذه الدنيا. الأمبراطوريّة العثمانيّة تلفظ أنفاسها وجيوش الحلفاء تواصل فتح الطريق لاستعمار غربيّ جديد”.

سرد الذات، سؤال الهويّة، موقع الشعر من جهة تأسيسه للأنا، كلّها أمور أردفت نصّ هذه السيرة بالكمّ الأكبر من الكلمات، وهي في سيرة فدوى طوقان بمثابة الأنا التي تحاول الشاعرة الفلسطينيّة رسم معالمها بل تحيين وجودها في العالم، فإذا بطوقان لا تتوانى عن الكلمات، عن فكّ الارتباط بعالم مضى عبر بثّ كلّ ما حايث هذا العالم من منغّصات وآلام وأفراح نادرة…

الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان

“كانت علاقتي بأمّي وأنا طفلة تقوم على خليط المشاعر المتناقضة. لقد كنت أخافها وفي الوقت نفسه أخاف عليها من الموت. كم كنت أتمنّى في تلك المرحلة الطفوليّة لو تعطيني الفرصة لكي أحبّها أكثر”. وما ينطبق على العلاقة المؤشكلة مع الأمّ ينطبق أيضًا على العلاقة مع الأب والعائلة والفضاء الاجتماعيّ والثقافيّ لمدينة نابلس حيث الحجب الكثيرة التي تحطّ من شأن المرأة، بل وتفصلها عن كلّ شؤون الحياة… “في هذا البيت وبين جدرانه العالية التي تحجب كلّ العالم عن جماعة الحريم الموؤدة فيه انسحقت طفولتي وصباي وجزء غير قليل من شبابي… وعلى المرأة أن تنسى كلمة لا في اللغة إلّا في الشهادة (لا إله إلّا الله)”.

مع تراكم الكلمات والمقاطع والصفحات تتحوّل سيرة فدوى طوقان عن أن تكون سيرة حياة شخصيّة لكي تصير سيرة رغبة، وكان ذلك مع بزوغ القصيدة الأولى في ذهنها حيث الأنا الغفلة عن كلّ تعيين تشرع بوعي ذاتها إنّما بذعر وخوف يصل إلى حدّ الفجيعة.

من المفارقات الغريبة أنّ وعي طوقان بكونها شاعرة ترافق مع المعادلة الآتية: إنّ الانسحاق هو الشكل الوحيد للخلاص! “رحت أتحصّن بالوحدة– تقول– وهنا كانت تنقطع صلتي باسمي وبنفسي وبكلّ ما حولي وأغرق في حالة غريبة من اللاحضور واللاشيئيّة”.

أيضًا وأيضًا هو الخوف، هو الحزن، هي المتاهة من أن تكون قد شحنت طفولة طوقان بما لا يمكن تجاوزه أو تخطّيه أو تعليقه في حدود اللامعنى.

مع تراكم الكلمات والمقاطع والصفحات تتحوّل سيرة فدوى طوقان عن أن تكون سيرة حياة شخصيّة لكي تصير سيرة رغبة، وكان ذلك مع بزوغ القصيدة الأولى في ذهنها

في “البحث عن الزمن الضائع” يقول مارسيل بروست، “الأحزان خدّام مبهمون، محتقرون، نحارب ضدّهم، نسقط تحت سيطرتهم مع مرور الأيّام… خدم متوحّشون لا يمكن الاستغناء عنهم وهم يقودوننا عبر طرق سفليّة على الحقيقة…” ما هي الحقيقة التي تجلّت أمام طوقان والمنبثقة عن أحزانها بالذات؟ ثمّة من يرى في التذكّر ليس معرفة تقوم على ما قد مضى إنّما معرفة يسبّبها ذلك الذي قد مضى، وللخيال هنا الدور الأكبر.

وفي هذا السياق إنّ ماضي طوقان مدّها بحقيقة تقوم على الواقعة الآتية: إنّ أناي لا يمكن أن تتحقّق إلّا عبر القصيدة، وكلّ ما مضى لا يتعدّى أن يكون إلّا تمهيد مكثف لهذه الحقيقة. فالذاكرة في هذا المحلّ هي بمثابة إتاحة الفرصة لنمط آخر من الكلام حيث التشبّث بالعالم الذي ترغبه طوقان سوف يكون عبر الشعر وعبر كلمات القصيدة.

تتحيّز مذكّرات طوقان إلى اعتبار يقول إنّ الخلاص بالقصيدة، فالقصيدة في هذه المذكّرات هي وسيلة الخروج من “القمقم الحريميّ المذل” كما جاء في سيرة الشاعرة. القصيدة هنا تبتدع حساسيّة إزاء العالم، كلّ العالم وهو ما تلمّسته حرفيًّا أثناء إقامتها في انكلترا حيث تجربة السلام مع الذات ولّد إحساسًا لا يوصف… “لقد عرفت في انكلترا فرحة السجين بلحظة الخروج إلى الفضاء والنور… لا يحسّ بجمال الحرّيّة وبروعة امتلاكها إلّا أولئك الذين حرموا منها…”.

في كتابه “خارج المكان” يقول إدوارد سعيد: “إنّني أؤثر ألّا أكون سويًّا تمامًا وأنّ أظلّ في غير مكاني”. وهو ما عبّرت عنه طوقان في سيرتها الذاتيّة عبر العبارة الآتية: “إنّ إيماني بصدق تاريخ الأنساب مزعزع، ولا أرى كبير جدوى في الرجوع إلى صفحات التاريخ للبحث عن شروش ما يسمّى بشجرة العائلة، ولا سيّما حين تكون تلك الشروش موغلة في أعماق البادية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى