في بعض شؤون “الفسبكة” وشجونها

لم يخطر في بال مارك زوكربيرج، مُنشئ تطبيق “فيسبوك” (Facebook) “سجلّ الوجوه” أو “دفتر الوجوه” في العام 2004، بمعيّة زميله في جامعة هارفارد الطالب إدواردو سافيرين، أن يدخل الناس فيه أفواجًا مُفوّضين أمرهم لسدنته، وأن يغدو العالم الافتراضيّ هذا أصيلًا في وجوده، موازيًا للعالم الواقعيّ.
حتّى أنّ الكلمة ودلالاتها فرضت نفسها على مجمع اللغة العربيّة في القاهرة، إذ أجاز في دورته المنعقدة في آذار (مارس) من العام 2014 طائفة من الألفاظ المشتقّة من فيسبوك، حيث قرّر تعريب اسم الموقع ليكون “فُسْبُك” (على وزن فُعْلُل)، ودعا إلى استخدام الفعل “فَسبكَ” للتعبير عن نشر نصّ أو صورة على فيسبوك. وأقر المجمع ألفاظًا أخرى مثل “الفُسبُكيّ” للدلالة على الشخص المنسوب إلى الموقع، وجمعها “فسابكة”، و”فَسْبكة” اسم يخصّ عمليّة التواصل من خلال الموقع أو استخدامه، و”المُفسْبَك”: هو النصّ أو المنشور الذي يتمّ تداوله عن طريق الموقع.
وأثار الاستخدام المُعمّم له اهتمام كثيرين، حتّى كادت أن تنشأ معارف خاصّة به، وقد طرح عليّ محمّد شوقي، أحد الإسلاميّين المصريّين، إنشاء آداب وأحكام له (2017)، تتعلّق بالنشر وضوابطه، بعد أن استفحل أمر المستخدمين للفيسبوك في بلده.
هدرُ الكلام وهذّره
وفي ما يخصّ لبنان، كان رامي الأمين الأسبق إلى استكناه هذا الفضاء الجديد، فكتب “معشر الفسابكة” (2012)، وفي مقدّمته: “إنّ هذا الكتاب لا يدّعي معرفة بالفيسبوك وما وراءه وما أمامه، ولا يدّعي معرفة بالفيسبوك وأحواله، بقدر ما يحاول طرح الأمور على سجيّتها، ورواية تجارب لها دلالاتها في التواصل الاجتماعيّ ومواقعه، متأتّية من خبرة متواضعة في هذا النوع من التواصل الإنترنيتيّ”.
ومن ثمّ أتى المفكّر أحمد بيضون، نزيل بنت جبيل، ليكرّس المصطلح فكتب “دفتر الفسبكة: نُتًف من سيرة البال والخاطر” (2013)، وفيه قدّر أنّ الفيسبوك: “مجال يجري فيه هدر مهول للكلام المكتوب وللصور والأصوات أيضًا، هذرٌ يخلّف شعورًا بالغرق في الهذر، بالتخبّط في لغط يعزّ في كثير من الأحيان أن تخرج منه بمعنى، فتوشك أن تتّخذ الموقف الذي تتّخذه عفوًا في ردهات المطار أو في محطّة القطار: تستغني عن الإصغاء وعن الفهم. مع ذلك تفرض نفسها عبارة هنا وصورة هناك وموسيقى هنالك” (ص 9). واعتبره “وسيلة إعلام شخصيّة”، تتيح نشر الصور والتسجيلات على أنواعها، هو “نوع من وسيط عام”، يمتلك ميزة كسر العزلة التي تفرضها الحياة المعاصرة، وتؤثّر درجة التفاعل في إضفاء أهمّيّة على الذات.
والخلاصة التي ينتهي إليها بيضون هي “أنّ وسيلة الإعلام الشخصيّة هذه يسعها أن تغيّر نظرة مستخدميها لأنفسهم فتمنحهم ثقة بالنفس وشعورًا بالأهمّيّة، ويسعها أيضًا أن تذكي شعورًا بالنقص ينجم من قياس النفس بالغير، فللفسبكة وجوه تنافسيّة مختلفة تؤثّر أحيانًا في العلاقة بيننا وبين أناس نعرفهم” (ص 13).
بيضون: الفايسبوك وسيلة إعلام شخصيّة يسعها أن تغيّر نظرة مستخدميها لأنفسهم فتمنحهم ثقة بالنفس وشعورًا بالأهمّيّة، ويسعها أيضًا أن تذكي شعورًا بالنقص ينجم من قياس النفس بالغير
إطلالة على “سجّل الوجوه”
بدوره اختار الدكتور مصطفى الحلوة، ابن طرابلس البار، “الرجل بمزايا كثيرة”، الولوج إلى العالم الافتراضيّ في مؤلّفه “من بيادر الفسابكة: قراءة نقديّة في قضيّة” (2024)، متسلّحًا بمعارف أدبيّة وأدوات فلسفيّة، متعاملًا مع الفيسبوك الذي بات وفاقًا له: “جزءًا من حراكنا الذي يأخذنا إلى عالم، يترجّح بين الحقيقيّ والافتراضيّ. وكونه كذلك، فهو عالم لمتناقضات أو مفارقات، كما سفينة نوح فيه “من كلّ زوج إثنان”!… فيه ما تشتهي النفس وما تنفرُ منه في آن، فيه ما يفتح الشهيّة وما يُقزّزها، ما يُفرح وما يُحزن، ما يُضحك وما يُبكي، ما يُروّح عن النفس وما يُضجر، ما هو جاد وما يُثير الهزء والسخرية، وإلى آخر السلسلة من المتضادّات”.
وعلى رغم السلبيّات فهو يريد أن يلفت عنايتنا إلى “الوجه النضر للفيسبوك”، حيث نجد كتابات جادّة “فيها عظيم فائدة وإمتاع” (ص 115). ويضيف أنّه :”كما كلّ شيء في الحياة- يتجاور، في فضائه الغثّ والسمين. ولعلّ ذلك من ضروريات الوجود، القائم على الجدل الخلّاق (…) فبعض الكتابات المبتذلة قد تكون – أكثر تحريضًا لنا على سلوك سبيل القيم، قيم الحقّ والخير والجمال!… ويبقى الفيسبوك خير معلّم لمن يُحسنُ تخيّر ما لدى هذه الوسيلة التواصليّة الاجتماعيّة من عظيم الدروس والعبر!” (ص 116).
سكن الدكتور الحلوة في أحد أحياء العالم الافتراضيّ، وأطلّ من نافذته مثلما تخيّل الفنّان السورياليّ، سلفادور دالي، “فتاة عند النافذة” (1925) وبطلة فيلم ألفريد هيتشكوك “النافذة الخلفيّة” (1954)، ليراقب ما يجري في الأزقّة، “فيسبوكيّ” يراقب أبناء جنسه، فلا يشيح البصر عمّا يرتكبونه من أقوال، يُعلّق ويُناقش متّكئًا على “التزام وطنيّ ونزوع أخلاقيّ” مدافعًا صلبًا عن القيم الأخلاقيّة. ونصوصه المنتقاة من الفضاء الفيسبوكيّ كثيرة تراوح بين الاقتصاديّ والفكريّ والثقافيّ والبيئيّ والتربويّ والصحّيّ. ويعتبر القضايا التي تصدّى لها “قضايا جوهريّة فضّاحة لسلسلة الأزمات” (ص 11) التي يشهدها لبنان، وشكّل “سجّل الوجوه” ساحة من أبرز ساحات تمظهرها.
السيلفي والمنظر خلفي
ينتقد الدكتور الحلوة “الهوس بنشر الصور الشخصيّة” على وسائل التواصل الاجتماعيّ، ويستنجد بمقالة منشورة للناقد والأستاذ الجامعيّ، جورج كعدي “إنسانيّتنا المهدورة في الذات الافتراضيّة” (2023) لتفسير هذا الإنشغال المحموم بالذات، والطاغي “أنّ الصورة تنوب عن اللغة”، وأضحت سُلطة في العالم الحديث بطلها “الأنا” وأنّ الهوس بـ “السيلفي” قد يؤدّي إلى المرض والى العلاج في مراكز مختصّة للتخلّص من “الإدمان التكنولوجيّ” بسبب اضطرابات “الهوس القهريّ”. ويرى كاتب “مطارحات في أروقة المعرفة” (2021) أنّ المهووس بالصور يتوجّه إلى الناس ولسان حاله يقول: “شوفوني ما أحلاني” و”أنا هون” و”أنا أتصوّر وأُغرقكم بسيل من الصور… إذًا أنا موجود” (ص 208)، وهذه علامات نرجسيّة واضحة.
أفراد وجماعات
ينقل الدكتور الحلوة عن زميله “الفيسبوكيّ” الطبيب حسام حافظة تصنيفه لجماعات هذه الوسيلة الاتّصاليّة: “ناشطو الفيسبوك أنواع: جماعة صباح الخير/ مساء الخير، جماعة شوفوني ما أحلاني، جماعة السياسة، جماعة تروّقت تغذّيت وتعشّيت، جماعة رحت وجيت، جماعة الاجتماعيّات، جماعة النقد والانتقاد، جماعة النقّ والشكوى، جماعة النكت والضحك والمزح، جماعة كلّ شي” (ص 243). ويقرأ الدكتور الحلوة في ذلك تنوّع الاهتمامات المعرفيّة لهذه الجماعات. وفي المقام الأخير، يتعامل مع “كتاب الوجوه” بوصفه قدرًا لا فكاك منه، ويقول: “اللهم إنّا لا نسألك ردّ القضاء الفيسبوكيّ وأضرابه، ولكن نسألك اللطف فيه!” (ص 257).