صيد السمك في لبنان.. الشباك يهزها الغلاء والدعم لـ «المستورد»..
لطالما كان قطاع صيد السمك في لبنان مهمّشًا ويفتقد لأدنى المقومات والتقنيات اللازمة لتطويره. المشاكل في هذا القطاع تطاول جوانب شتّى، إن من جهة الآليات والضوابط التي تحكمه، أو من جهة الثروة السمكية المهددة بسبب الصيد العشوائي والمستمرة في الانحدار، مما يجعل مرتبة لبنان في آخر قائمة الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط من حيث الثروة السمكية.
تعتبر مهنة صيد الأسماك في لبنان ثروة حيوية، لكنها بقيت حرفية تعمل بطريقة تقليدية، ولم تشهد تطوراً ملموساً وذلك نتيجة الإهمال الذي جعلها مهمشة طوال عشرات السنين. تعتاش من خيرات هذه المهنة آلاف العائلات، حيث ينطلق الصيادون من موانئ منتشرة على طول الشاطئ اللبناني من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال.
الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان زادت من ترهُّل القطاع المترهِّل أصلاً وانحدرت بالصيادين العاملين في صيد الأسماك إلى ضمن الفئات الاجتماعية الأكثر فقرًا، مع كل ما ينجم عن ذلك من غياب للضمانات الإجتماعية والتأمين من المخاطر المحدقة بهم.
مع استفحال الأزمة المعيشية وتحليق أسعار السلع الغذائية، ارتفعت أسعار السمك وبلغت حداً غير مسبوق أصبح معه تناول السمك فقط لمن استطاع إليه سبيلا.
من ضمن السلة الغذائية التي تعمل الدولة على دعمها، أدرجت السمك المستورد في عداد تلك السلة حيث تمّ احتكاره من قبل بعض التجار، متجاهلة بذلك السمك المحلي وصغار المستهلكين والصيادين.
صيد السمك في لبنان .. ثروة ضائعة
الثروة السمكية الغنية التي تسكن بحرنا أسيرة ضغوطات عديدة تجعلها عرضة للضياع والاندثار. ففي حين تحتوي المياه اللبنانية على 370 نوعاً من السمك معظمها يصلح للأكل، يتم التركيز على السمك التجاري البالغ 70 نوعًا فقط. هذا ما أكدته الخبيرة في علم البيئة البحرية ومديرة جمعية يوميات المحيط جينا ثلج لـ “مناطق نت” حيث دعت إلى “إزالة الضغط عن أنواع محددة من السمك، إذ أننا نجد في البحر المتوسط سمكًا غازٍ آتٍ من البحر الأحمر معظمه صالح للأكل، نستطيع أن نصطاده وبالتالي نخفف الضغط عن السمك المحلي”.
وعلى نقيض الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط يعجز لبنان عن تربية الأسماك في أحواض بحرية أو قريبة من الشاطئ. وفي ظلّ غياب أي ضوابط تحمي الثروة السمكية من الصيد غير المشروع، كالصيد الجائر والصيد بالجاروفة أو الشبك، ومع عدم توفر أي تقنيات متطورة، يعمل الصيادون في قطاع صيد السمك في لبنان بقوارب تقليدية محدودة المواصفات، لا تسمح لهم بالإبحار سوى لمسافة 6 أميال بعيدة عن الشاطئ.
على شاطئ الأوزاعي، يقف أبو علي صوّان منذ ساعات الصباح الباكر مغمومًا، يشتكي غلاء الأسعار وقلة المردود المادي. الصنارة التي يستخدمها الصيادون بكثافة، ارتفع سعرها ستة أضعاف مما كانت عليه إذ أصبح ثمنها 3000 ليرة بدلاً من 250 ليرة. يقول صوّان “كنّا نشتري القصبة بحوالى 45 ألف، أما اليوم فقد ارتفع سعرها إلى 150 ألف، عدا عن الحبال التي نستخدمها للشَرَك والتي ارتفع سعرها إلى 85 ألف بعدما كان 20 ألف.
لم يقتصر غلاء الأسعار على معدات صيد السمك في لبنان بل انسحب على جميع ما يحتاجه الصيادون من قطع غيار وزيوت لمحركات قواربهم، عدا عن أعمال الصياة والتصليح والبطاريات كلها زاد سعرها أضعافًا عمّا كانت عليه. فبحسب صوّان تجاوز سعر علبة الزيت 65 ألف بعدما كانت تقدر بحوالى 15 ألفاً، كذلك الأمر بالنسبة للبطارية 80 أمبير وصل سعرها إلى 700 ألف بعدما كانت حوالى 75 ألف.
هيلا يا واسع
يتوجه الصياد إلى عمله يوميًا بكلفة تشغيلية تبلغ المائتي ألف ليرة، وهي تتضمن معدات صيد وطعم للسمك والذي بدوره فاق سعره الثمانين ألف. هذا ما قال صوّان الذي شرح بأن هذا كله قد يذهب هباءً منثورا في حال كان «البحر بخيل» ولم يتمكن الصياد من الظفر بالسمك.
إلى ذلك يتوجّس العاملون في صيد السمك في لبنان من حدوث عاصفة ما، أو حادثة طارئة قد تتسبب بأضرار على قواربهم وتُكبّدهم خسائر جمّة. لذلك يعبّر صوّان عن استيائه من أن الدولة لا تبالي بأوضاعهم ولا تعوض عليهم الخسائر، عدا عن أن الناس تتهمهم بالطمع، في حين أنهم يدفعون يوميًا خسائر من جيوبهم وأصبح قوت يومهم مهددًا ومحفوفًا بالمخاطر. صوّان طالب المسؤولين أن “يراعوا ظروف صيادي الأسماك الصغار الذي يعملون بمعدات غير مدعومة، عوضًا عن أن يركزوا على التجار الكبار”. أضاف “الصياد اليوم أصبح كالشحاد، ولدي العديد من زملائي في العمل يبكون كل يوم بسبب عدم قدرتهم على العمل ولكن ما من مجيب”.
ارتفاع في الأسعار.. وعجز في الأسواق
ليس قطاع صيد السمك في لبنان وحده من تضرر من هذه الأزمة، ففي حين تدّعي وزارة الاقتصاد أنها تدعم السمك المستورد، يحتج بائعو السمك في الأسواق من أن الدعم لم يطالهم بل استفاد منه أصحاب التعاونيات الذين ليس لهم علاقة أصلًا بهذا القطاع وبالتالي لا يستحقونه. وانحصر الأمر بثلاث تعاونيات كبيرة وهي “Spinneys”، “Fish Market” و “Le Charcutier Aoun”.
مؤخرًا اتفقت وزارة الاقتصاد مع نقابة بائعي الأسماك إلى السعي لشمل السمك المستورد من تركيا في برنامج الدعم وهما صنفي “الأجاج والبراق”، إلا أن أياً من تلك الإجراءات لم يطبق بعد.أما بالنسبة للسمك المحلي، وبعد أن ارتفعت الأسعار بشكل كبير مقارنة بالأسعار التي تباع في التعاونيات، فَقَدَ بائعو الأسماك في الأسواق الشعبية القدرة على المنافسة والاستمرار، فلجأ العديد منهم إلى الإقفال.
جميع أنواع السمك المستورد والمحلي ارتفعت أسعارها من السمك الصغير إلى الكبير. كيلو السردين الذي كان بحدود 5 آلاف ليرة أصبح اليوم بحوالى 35 ألف، السرغوس أيضاً بحوالى 40 ألف. أما سمك الأسد فوصل الكيلو إلى 60 ألف. وبقي سعر السلطان ابراهيم الأقل كلفة بين 30 و40 ألف.
لبنان كان ينتج سابقًا كميات كبيرة من السمك إلى الحد الذي سمح له بالتصدير إلى الخارج، إلا أن الأسواق المحلية وصلت إلى مرحلة من العجز جعلها مضطرة إلى الاستيراد لسدّ النقص. وفي هذا الإطار أشارت ثلج إلى أن “لبنان ينتج سنويًا 4500 طن كحدّ أقصى من خلال الصيد، وحوالى 1200 طناً عن طريق تربية الأحياء المائية في المزارع الداخلية. أما الأسواق فتعتمد بنسبة % 90 على الاستيراد من الخارج، حيث يتم استيراد حوالى 35000 طن سنويًا، بينما تعتبر كميات التصدير فيها محدودة بأقل من 100 طن.”
بين عامي 2011 و2019 استورد لبنان من الاتحاد الأوروبي سمكًا بقيمة 78 مليون دولار. إلا أنه في عام 2020 وبسبب الأزمة المالية التي تمرّ بها البلاد، انخفضت قيمة الاستيراد من 37 مليون دولار عام 2019 إلى 14 مليونًا عام 2020.
صيد السمك في لبنان.. دعم ولكن…
في السياق نفسه، يشكو أصحاب مزارع الأسماك من تعرضهم لنكسات متكررة على مرّ سنوات. وذلك بدءًا من الفيضانات، وصولًا إلى كوارث طبيعية عديدة منها أمراض وبكتيريا تصيبان الأسماك والمياه وغيرها. وعلى الرغم من مناشدتهم المعنيين للتعويض عن الخسائر، وحثّهم على دعم العلف وتشييد مختبر للأمراض وإعطاء بطاقات صحية لمربي الأسماك في المزارع، إلا أن أحدًا لم يستجب لمطالبهم.
تتم آلية الدعم في هذا القطاع بمرور الملف أولًا بوزارة الزراعة، التي تدرسه وتعطي الموافقة عليه لينتقل بعدها إلى وزارة الإقتصاد ومن ثمّ إلى مصرف لبنان. وبحسب مستشار وزير الزراعة الدكتور ابراهيم حاوي فإن التأخير لا يتعلق بالوزارة، لأن الطلبات التي تردهم سرعان ما يتم الموافقة عليها، إلا أنها تعلق في وزارات أخرى.
حاوي تأسف على عدم استطاعتهم إدخال دعم الشبك للصيادين ضمن لوائح الدعم التي أعدوها، والتي كانت إحدى مطالبهم الأساسية. وتدرس وزارة الزراعة حالياً في إمكانية السماح للتعاونيات والنقابات بأن تستورد لمنتسبيها علفًا أو معدات للصيد مباشرة ودون الرجوع إلى التجار، وذلك لحمايتهم من أن يكونوا عرضة لهم.
أما من جهة وزارة الإقتصاد، فقد تقاعست عن أداء مهامها وعملت على تسهيل استفادة المستوردين والتجار الكبار، ولم تحرك ساكنًا لإعانة الصيادين وصغار التجار على ما ألمّ بهم.
الجدير ذكره أن العاملين في صيد السمك في لبنان يخضعون لوزارة الأشغال كونهم يمتلكون قوارب صيدٍ تصنّف ضمن وسائل النقل، مما يجعلهم ملزمين بدفع رسم ميكانيك لقواربهم.
الدعم ليس حلًا
وفي هذا الإطار، تقول نائبة رئيس جمعية المستهلك الدكتورة ندى نعمة إن سياسة الدعم هي سياسة مافياوية هدفها نهب الشعب وسرقته، أدت إلى حدوث احتكارات وترك بضاعة فاسدة في السوق وتهريب أخرى. تضيف نعمة “هذه الآلية الخاطئة توجهت لفئات معينة وفقًا للمحسوبيات وحرمت المواطن من أي مساعدة”.
يبدأ الحل بوقف الدعم كليًّا وترك سياسة المنافسة للسوق، عندها فلتتكدّس البضائع لدى التجار إذا لم يتمكنوا من بيعها. هذا ما قالته نعمة التي أكدت أنهم كجمعية حذروا من هذه الآلية منذ بداية الأزمة. وأوضحت أنه “لو كان همّ المسؤولين مساعدة الناس لقاموا بإعطائها المال مباشرة عوضًا عن دعم التجار”. كما شددت على أهمية تحرك القضاء للتحقيق بهذه الآلية التي أوصلت إلى الإفلاس.
بقانون يتجاوز عمره التسعين عامًا، تتخبط الوزارات فيما بينها لحلّ الأزمة. قطاع صيد السمك في لبنان ما زال أسيرًا لقانون لم يطرأ أي تعديل أو تحديث عليه، لذلك أرسل وزير الزراعة عباس مرتضى مسودة مشروع قانون إلى المجلس النيابي بهدف تطوير قطاع الصيد وتربية الأحياء المائية ودراسة المخزون السمكي. إلا أنه وكما جرت العادة قد يبقى القانون عالقًا في المجلس النيابي دون إقراره.
وتعتبر نعمة أن “تحسين القانون غير كافٍ، إذ اننا نملك فائض من القوانين في لبنان إلا أنها لا تطبق، لذلك من الأجدر أن نقوم بتشديد الرقابة على الصيد لحماية الثروة السمكية من التقنيات غير المشروعة التي تسهم بإفقارها”.
كنظيراتها من المواد الغذائية ارتفعت أسعار السمك حتى وصلت إلى أن تكون الوجبة الأغلى على مائدة اللبنانيين. ومع وجود سلطة تبني آلياتها وحلولها وفقًا للمحسوبيات والزبائنية، ستبقى الأسعار عرضة للاحتكار وسيبقى المواطن بلا معين يترقب أي بارقة أمل تلوح في الأفق.
ولكن ماذا ينتظر شعب من سلطة أثبتت لسنوات فشلها على الصعد كافة وعجزها عن تأمين الحد الأدنى من متطلبات المعيشة للمواطن؟