متحف منير كسرواني.. قطع أثرية قديمة تُعيد رتق ذاكرتنا المثقوبة
خاصيَّة مميزة ينفرد بها متحف منير كسرواني في العيشية عن غيره من المتاحف في لبنان. الخاصية يستمدها المتحف من عفويته وبساطته وهي موصولة إلى سردية تنطق بها قطع أثرية قديمة معروضة على الجدران ومنثورة في أرجاء المكان. كل شيء هنا يدل أن المتحف وُلد من رحم الحكاية. محاريث ومعاول ومناجل وغيرها المئات من القطع تؤرخ لتلك الحكاية.
الازدحام والأجواء المشحونة التي ترافقك من بيروت باتجاه الجنوب، لا تلبث أن تتلاشى ما أن تصل إلى بلدة العيشية. تصل إلى متحف منير كسرواني لتجد نفسك في عالم آخر وتوقيت مختلف. مغافلة الزمن والعودة بك إلى الوراء هو ما يقوم به المتحف عنوة، حيث الذاكرة الموغلة في الزمن تقبض على المكان بكل تفاصيله.
بعد 14 سنة.. الحلم يتحقق
العام 2000 كان مفصلياً بالنسبة لمنير كسرواني. حيث تواءمت فكرة إنشاء المتحف مع تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي وعودة كسرواني إلى قريته العيشية. حلم تحويل إرث والده أسعد كسرواني الذي كان حداداً عربياً وجعل دكانه متحفاً استغرق ١٤ عاماً ليصبح المتحف حقيقة في العام ٢٠١٤.
على كتف وادي جميل محاط بأحراج الصنوبر والسنديان يتربع متحف منير كسرواني في العيشية. المتحف كان دكان والده للحدادة العربية وأيضاً لبيطرة الحيوانات، وفي الوقت نفسه بيت العائلة. المتحف – المنزل يبلغ عمره قرابة المائة عام، وهو مبني من الحجر الطبيعي الذي كان يُستخرج من أرض العيشية.
1500 قطعة أثرية تراثية هي موجودات المتحف اليوم. جزء كبير منها هو ما تركه أسعد كسرواني الذي كان بيطرياً أيضاً، والجزء الآخر وهو ليس بقليل ما يقدمه زوّار المتحف من أصدقاء كسرواني وغيرهم. تتنوع موجودات المتحف بين آلات وقطع أثرية قديمة، لكن تحتل معدات الحراثة والزراعة الحيّز الأكبر فيه. دوّن الفنان كسرواني على كل واحدة منها أسماء ومهمّات الأدوات والمعدات الزراعية التي كان الفلاحون يستخدمونها في حقولهم وبيوتهم.
أربع غرفٍ وساحة صغيرة
يضمّ المتحف أربع غرفٍ خُصصت كل منها لنوع معين من الأدوات إلى جانب الساحة التي تعجّ بآلات وقطع أثرية قديمة. من بينها سلال القش والنحاسيات والفخاريات و”ماسكات” للوجوه، إضافة إلى العديد من الصور والملصقات التي وقف كسرواني عند إحداها يروي لنا قصتها وهو يدندن أغنية “احكيلك شي كلمة” من إحدى مسرحيات الأخوين الرحباني، التي استُنبطت فكرة تلك اللوحة منها.
تبقى أهمّ الآلات الموجودة في ساحة المتحف هي “ماكينة ذراوي” وتستعمل في دراسة القمح ومخصّصة لفصل الحَبّ عن التبن. وقد صُنعت في العام 1930 وشكّلت نقلة نوعية في عملية دراسة الحبوب بعدما كان الفلاحون يقومون بتلك العملية بواسطة النوارج. إلى جانب ذلك كان لافتاً أيضاً الدولاب الكبير والذي هو جزء من ناعورة المياه والمنتصب في الساحة ويعود لسنة 1815.
غرفة الحدّاد العربي
تعتبر الغرفة الأولى من المتحف والتي كانت دكان الحدادة الأحب على قلب الفنان كسرواني. فهي تحمل عبق والده أسعد وتضم الآلات التي كان يعمل بها والأدوات التي كان ينتجها، إضافة إلى وجود آلات وقطع أثرية قديمة ونادرة فيها. يقول منير “تعتبر هذه الغرفة أهم غرفة حدادة تراثية في الشرق، وهي تضم هذه “السنكة” (سهم أثري قديم) التي تعود إلى عصر المسيح.
في الجولة داخل أروقة المتحف يشرح الفنان كسرواني الذي عايش جزءاً من تلك الفترة طريقة عمل بعض الأدوات التي كان والده يصنعها بحسب متطلبات المواسم والفصول. في موسم الحصاد كان أسعد يصنع أدوات تتعلق بالحصاد كالزوابر وفي موسم حراثة الأرض كان يصنع أدوات الحراثة وبيطرة الحيوانات.
[rev_slider alias=”goodnews-header” slidertitle=”Goodnews Header”][/rev_slider]بلكنته الجنوبية الصافية يروي كسرواني كيف كان “ينيع” فم الثور، مساعداً لوالده في ذلك. ويشرح بشغف عن تفاصيل عملية الحدادة التي عايشها عن كثب، حيث شهد كيف كان والده بمعية عمه ينفخ بتلك الآلة نار الحديد حيث كانا يضربان الحديد بسرعة وهو حامٍ لكي يلين ويستقيم. يتابع كسرواني شرحه لـ “مناطق” التي زارت المتحف وأمضت ساعات فيه عن المناشير القديمة والفؤوس وأفخاخ العصافير والفئران والحواليش التي كان والده يصنع أنواعاً منها مخصصة للنساء بما يتناسب مع أحجام إيديهنّ بحيث لا تكون ثقيلة فترهق مستخدميها.
بالنسبة لبيطرة الحيوانات، يؤكد كسرواني خبرته في هذا المجال كونه شارك والده فيها. ومن بين قطع أثرية قديمة يشير إلى قطعة نادرة وهي لتصنيع المسامير حيث كان يقوم والده بوضع حديدٍ حامٍ على تلك القطعة التي يوجد ثقب فيها فيخرج الحديد على هيئة مسمار يستخدم لبيطرة حوافر الدوابّ. ووصف الفنان كسرواني تلك العملية بأنها كانت دقيقة جداً، أي خطأ فيها يكون قاتلاً وممكن أن يودي بالحيوان التي تُجرى له عملية البيطرة إلى الهلاك. وأشار كسرواني إلى أنه يشرح كيفية تطبير الحيوانات ووضع المسمار بطريقة آمنة للتلاميذ الذين يزورون المتحف.
من الحرب إلى الفنّ والمأكولات
الغرفة الثانية من المتحف هي غرفة جبلية تراثية بامتياز، وهي مقسمة إلى قسمين. القسم الأول يضمّ قطع أثرية قديمة من خوابي وأواني فخارية ونحاسية وزجاجية إضافة إلى مجموعة أخرى من الغرابيل وصواني القش والسدور، وأيضاً مجموعة من القناديل والفوانيس والسرج.
خصص الفنان كسرواني غرفة في المتحف وأسماها “غرفة الفنون” لأعماله المسرحية. وهي تُؤرخ لمسيرته الفنية وتضم صوراً عديدة منها بالأبيض والأسود ومنها ملون، وهي عبارة عن مقتطفات من أعماله المسرحية. تضم الغرفة أيضاً ثياب الممثلين والعديد من الملصقات والشهادات التي حصل عليها، إضافة إلى بعض الآلات الموسيقية والكاميرات.
لا تكتمل مشهدية المتحف من دون الغرفة المخصصة للمونة البلدية، وهي من إنتاج عائلة كسرواني. وفيها ما لذّ وطاب من جميع أنواع المنتجات البلدية من زعتر وكبيس ومكدوس وبهارات وكشك ولبنة. إضافة إلى أنواع عديدة من ماء الورد والعيزقان والزعرور والعرق البلدي.
لم يغب الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة ضده عن المتحف، فخصص له قسماً تحت عنوان “هدايا إسرائيل لاطفال لبنان”. ويضمّ مجموعة من القذائف والصواريخ التي استعملتها اسرائيل في حربها على لبنان. إضافة إلى بعض المأكولات وزجاجات المياه التي أحضرها منير بنفسه من حاويات القمامة التي تركها جنود العدو. وكتب على باب ذلك القسم “أوضة الحمارة أو إسرائيل”.
زوار المتحف بالآلاف…
يقدّر كسرواني عدد الزوار السنوي للمتحف بحوالى 5000 زائر، لكن وبسبب جائحة كورونا تراجعت الأعداد كثيرًا في الآونة الأخيرة. وأوضح أن رسم الدخول للمتحف هو 10 آلاف ليرة للكبار و 5 للصغار، ويمكن لمن لا يملك المال أن يدخل بالمجان.
عن اهتمام وزارة الثقافة بالمتحف ووضعه على لائحة المتاحف، قال كسرواني إنه سعى لذلك أكثر من مرة إلا أن وزارة الثقافة لم تتعاون معه في هذا المجال.
الخروج من متحف منير كسرواني في العيشية لن يكون حتماً كالدخول إليه. قطع أثرية قديمة كفيلة بنقلك إلى زمن آخر متحرر من العالم الرقمي ولا يتصل معه بشيء. المتحف يؤرخ للفصول وتواليها، وللأرض وأصحابها وللعاملين فيها رحلة شقاء وتعب. أياديهم لا زالت هنا ممسكة بالمقابض، ورائحة عرقهم يفوح بها المكان. حرثوا الأرض طويلاً وهي رسمت أثلامها تجاعيد على وجوههم التي لوحتها الشمس.
متحف منير أسعد كسرواني في العيشية يعيد رتق ذاكرتنا المثقوبة ويعيد تصويب الحكاية. إنها حكاية بدون كراڤات ولا قفازات، حكاية تقول.. من هنا.. طلعنا على الشمس.
اقرأ أيضًا: استديو شمص في بعلبك.. حكاية أكثر من مليون ونص المليون صورة للمنطقة وأهلها