عن موتٍ لا يفارق الذاكرة والمخيلة
![](https://manateq.net/wp-content/uploads/2025/02/aseel.webp)
“عليكم بتوخّي الحذر” يقول الدفاع المدنيّ مشيرًا إلى العاصفة “أسيل” التي حلّت على البلاد صبيحة الأربعاء الماضي، لتنتهي بعد ثلاثة أيّام مساء الجمعة، كما أعلن عنه، والمقصود بالحذر كان التزام البيوت خوفًا من الأمطار والسيول والرياح الشديدة، وتفاديًا لحوادث السير، لكنّ أحدًا لم يخبر الخارجين من حربٍ طاحنة لم تنته بعد، كيف يتفادون أن يعيدهم صوت البرق والرعد إلى تلك الليالي الطويلة من القصف العنيف في كلّ البلاد؟
وكيف ننسى أنّ هذا الصوت أقرب ما يكون إلى صوت الموت الذي عشناه منذ مدّة ليست ببعيدة؟ وكيف لا تفرّ قلوبهم في تلك الثواني القصيرة التي يحتاجها المرء بعدها لالتقاط أنفاسه، وطرد كثير من الذكريات الموحشة التي لا تزال طريّة في البال؟
رعد مثل الرعد الإسرائيليّ
يدوي الصوت في أرجاء المدينة، تسخر إحداهنّ “رعدة إسرائيليّة”، وفي مقلبٍ آخر يتحدّث كثيرون عن ذكرى محدّدة أعاد الصوت إحياءها في أجسادهم، غارة معيّنة في يوم كذا، كان لها أثر أعمق، أقسى، ولكلٍّ أسبابه ودوافعه ومشاعره الفريدة في هذا الاستحضار الجماعيّ، الذي يلتقي فيه الخوف وتختلف فيه الأسماء والأيّام والأماكن، وتمطر بغزارة، ولا أتذكّر من هذا إلّا المطر الذي تساقط بعد سقوط صاروخ محدّد على مبنى في الطيّونة.
كان ذلك قبل أيّام قليلة من إعلان وقف إطلاق النار، وذهبت مع صديقٍ إلى حيث يحتشد الناس لمراقبة الحدث وتوثيقه مثلما شاع في هذه الحرب، وكان المشهد كالآتي: في اللحظة التي انفجر فيها الصاروخ، هطلت الأمطار بغزارة، وحجبت منظر الدخان الذي خلّفه الانفجار، وغادر الناس ممّن يخافون من الشتاء أكثر ممّا يخافون من البارود والنار على عجلة، قبل أن تتّضح الرؤية، وقبل أن ينقشع الدخان.
يعيدني الصوت وحده إلى صوت الغارات الممنهجة التي استهدفت الضاحية الجنوبيّة، والذي كان يترك، بعد الوجل الطفيف الذي يباغتك لحظة سماعه، شعورًا بالحسرة والخيبة، لأنّك تعرف أنّ هذا الصوت هو بمثابة إعلان جديد عن موتٍ للمكان، وصار بإمكانك اليوم رؤيته على شكل ركام يغطّي الشوارع، وبيوت خسرها سكّانها.
رسائل من الحرب
“غارة على حدود الهرمل”، يصل الخبر إلى مجموعة إخباريّة كانت مخصّصة لبقاعيّين من مختلف المناطق خلال الحرب، للمساعدة في تحديد أماكن سقوط الغارات في ظلّ ضعف التغطية الإعلاميّة التي طغت على منطقة بعلبك الهرمل. واحدٌ من مئات الخروقات التي ارتكبتها اسرائيل منذ إعلان وقف إطلاق النار، ولكن هذه المرّة بقاعًا. أقرأ الرسالة وأتذكّر الأيّام التي أمضيتها في الهرمل وصوت الغارات وعصفها حينما كانت تستهدف المعابر الحدوديّة غير الشرعيّة، كان بعيدًا وضعيفًا، وبالكاد تهتزّ له الستائر، ولم يكن يعني لنا شيئًا، وكيف صارت هذه الغارات تحديدًا مادّة للسخرية بين العشائر التي تمتلك هذه المعابر، وأبناء المدينة ممّن يخافون الموت لكن لا يخافون من صوته.
وبالمقابل اتذكّر صوت الغارات التي استهدفت قلب المدينة، صوت الطائرات الحربيّة الذي ينذر بالخطر، صوت الصاروخ، الثواني ما قبل سقوطه، خوف أمّي بالذات، وذلك الشعور الجماعيّ للحاضرين بأنّ الموت قادم الآن أو أنّه يدنو شيئًا فشيئًا، وهذه هي اللحظات الأخيرة، فيهبّ كلّ واحدٍ منهم ليفعل بنفسه ما يشاء، ثمّة من يصرخ، أو من ينتصب وقوفًا كأنّه لا يريد الموت قعودًا، من يلتحفون خوفًا من الموت عراة، من يعانقون أطفالهم، ومن ينظرون إلى الأعلى كأنّهم ينتظرون شيئًا ما!
وفي اللحظة التي يدوي فيها صوت الانفجار عنيفًا، ويعصف بالنوافذ والأبواب، وتهدأ القلوب والأجساد لبرهةٍ، لأنّها نجت من الموت هذه المرّة، وتتصاعد أعمدة الدخان التي تحدّد مكان سقوط الغارة، للتوالى من بعدها الرسائل التي تحدّد الموقع وأسماء الموتى وصورهم، ثمّة من سرق هذا الصوت حياتهم في لحظة واحدة، فيصير لخوفك وموتهم صوتٌ واحدٌ، ورسالة واحدة.
كما يحلو لنا
في بعض الأحيان كنت أقوم بإرسال الرسالة الأولى على المجموعة، ثمّ أتبعها برسالة للأصدقاء أخبرهم بأنّني بخير، وأجيب على رسائل الأصدقاء الذين يقرأون الخبر متأخّرًا ويهرعون للإطمئنان، وستبقى هذه الرسائل، مع غيرها من رسائل الإبلاغ والتبليغ عن موتٍ، شاهدة على هذه الحرب، وسيبقى في ذاكرة كلّ واحدٍ منّا، رسالة وثّقت خوفه الأكبر، أو خسارته الكبرى، وسيكون من الصعب علينا الآن حذفها، أو تجاهل العودة إليها من وقتٍ إلى آخر، لاسترجاع الشعور الذي اختصرته رسالة واحدة.
“كيف ننجو من موت لم يقتل الجميع؟”، يتساءل صديقٌ وتتعدّد الأجوبة، ولكنّها تنتهي دائمًا عند فكرة واحدة، بإعطائه معنى، وبالإيمان في أنّه لم يكن ثمّة مفرًّا من كلّ ما حدث، من كلّ هذا الموت، من كلّ هذا الدمار الذي حلّ ببلادنا، من ذاكرتنا الجماعيّة المشظّاة، وبأنّ لا فائدة لمزيد من الأسئلة، كلّ ما بوسعنا فعله الآن هو الانشغال بالحاضر، بالممكن والمتاح فيه، بالحزن اليوميّ والسعادة اليوميّة، بالأخبار اليوميّة عمّا يحدث في هذه البلاد، وبأن نترك لذاكرتنا أن تنفجر في لحظة وتهدأ بعدها، ولأجسادنا أن تفرغ ما عبّأته من غضبٍ وخوفٍ وقلقٍ وخيبة، وعلينا الانتظار.
أن ننتظر الأيّام القادمة والموعد المؤجّل لوقف إطلاق النار، انسحاب آخر بندقيّة وصوت آخر رصاصة وآخر غارة، وآخر موت جرّاء هذه الحرب التي لم تتوقّف منذ أمد بعيد، ومرور ما يكفي من الوقت على كلّ ذكرى قاسية وعنيفة ما زالت في مكانٍ ما، تطلّ علينا أو نطلّ عليها، لتصبح أخفّ وطأة، وليصير استرجاعها أقلّ ألمًا. وأن نزرع مكانها صورًا لمستقبل ما، مستقبلٍ لا تأخذنا فيه العواصف برياحها العاتية إلى الماضي، ولا ركام يخدش العين ويؤرقها، ولا موت يتكدّس في ذاكرتنا ورسائلنا واسئلتنا.