لاجئون سوريّون وأحلام العبور إلى أوروبا

حوّلت سنوات الحرب السوريّة الـ13، حياة غالبيّة اللاجئين السوريّين في لبنان إلى ما يشبه الجحيم، خصوصًا أولئك الذين قدِموا إلى لبنان على اعتباره بلد عبور نحو تحقيق أحلامهم  في إعادة توطينهم في بلد ثالث، والأرجح في أوروبّا، حيث تمنحهم تلك الدول إقامة دائمة، ويحيون حياة كريمة بعدما فرّوا من الدمار والقتل، ليجدوا أنفسهم مقيمين في لبنان طوال أكثر من عقد، وسط تحدّيات وصعوبات معيشيّة واقتصاديّة وأمنيّة، وأسوأ ما في الأمر أنّهم لا يعلمون بما ستؤول إليه أوضاعهم مستقبلًا، وأين سيمضون السنوات  الباقية من حياتهم.

بالأرقام

وفقاً للتقديرات الرسميّة للحكومة اللبنانيّة، هنالك حوالي 1.5 مليون لاجئ سوري في لبنان. وهذا التقدير هو أيضاً رقم تخطيطيّ معتمد من قبل المنظّمات الوطنيّة والدوليّة.

تمّ تعليق عمليّة تسجيل اللاجئين السوريّين في لبنان لدى المفوّضيّة السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين، منذ شهر أيار/ مايو العام 2015، تبعًا لقرار الحكومة اللبنانيّة آنذاك. ومنذ ذلك الحين، تواصل المفوضيّة تتبّع أرقام اللاجئين المسجّلين قبل العام 2015، علمًا أنه، في نهاية شهر حزيران/ يونيو 2024، بلغ عدد اللاجئين السوريّين المسجّلين في البلاد 774.697 وفق ما تؤكّده المفوضيّة لـ”مناطق نت”.

صورة تعبيرية (من موقع info migrants)
قصص وروايات

أحمد (42 سنة)، واحد من هؤلاء، قدِم إلى لبنان في العام 2012، هاربًا من ويلات القصف والحرب التي اندلعت في البلاد. “كنت من أوائل الذين تقدموا بطلب إعادة توطين في بلد ثالث، عندما وصلت إلى لبنان، لكنّني لا أزال قيد الإنتظار” يقول أحمد الذي يعيش راهنًا في الدكوانة (قضاء المتن) حيث يعمل في إحدى ورش ميكانيك السيارات.

ويضيف لـ”مناطق نت”: “للأسف كلّ محاولاتي بالسؤال عن ملفي ومصيره باءت بالفشل. لم أتلقَّ أيّ رد حتّى الآن”، وكذلك فعل أحمد مع منظّمات خارجيّة لكنّه لم يلقَ أيّ إجابة تفيده.

يتابع أحمد أخبار عائلته عبر الهاتف، قسم منها، لا يزال يعيش شمال حلب، ومنهم من هُجّر إلى تركيّا، ويشعر بالخوف من كلّ تصعيد قد يطرأ على أهله في سوريّا وتركيّا. في العام 2013، قتلت “داعش” شقيقه الأصغر، ولم يتمكّن من توديع شقيقه الأكبر الذي توفي في العام 2020 في سوريّا وكان بمثابة والده.

تحدّيات وصعوبات

منذ وصوله إلى لبنان، عاش أحمد تحدّيات كثيرة، اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة ونفسيّة وصولًا إلى تهديدات شخصيّة وكلّ أنواع التميّيز والعنصريّة، تنقّل بين منزل وآخر، في سدّ البوشرية وبرج حمّود ثمّ الدّكوانة، بفعل الأحداث والظروف، وقرارات السلطات المحلّيّة الأخيرة.

في العام 2020، أصيب أحمد بمرض في الكبد، ومنذ ذلك الحين بدأت رحلة العلاج مع المرض، “ثمن الدواء مرتفع جدًّا في لبنان، لذا أؤمّنه، عبر أصدقاء من سوريا، على رغم أنّه ليس كالأجنبيّ، لكنّ سعره يوازي 20 دولارًا، أيّ أقلّ بكثير من الأوروبّيّ”. وافقت المفوّضيّة على تقديم مساعدة طبّيّة موّقتة لمدّة عام، بقيمة ثلاثة ملايين ليرة في العام 2021، لكنّها استمرت إلى سبعة أشهر فقط، وفق أحمد.

“لم تأخذ المفوضيّة حالتي الصحيّة في الاعتبار كونها سببًا إضافيًّا يخولني الحصول على إعادة التوطين في بلد ثالث. علمًا أنّ كثرًا تمت إعادة توطينهم، مع أنهم أتوا أخيرًا الى لبنان” يقول أحمد الذي نال في الأحداث الأخيّرة حصّته من الضرب والأذى.

أحمد: لم تأخذ المفوضيّة حالتي الصحيّة في الاعتبار كونها سببًا إضافيًّا يخولني الحصول على إعادة التوطين في بلد ثالث. علمًا أنّ كثرًا تمت إعادة توطينهم، مع أنهم أتوا أخيرًا الى لبنان

تهجير قسريّ

وشهدت مناطق لبنانيّة كثيرة، مثل سدّ البوشريّة وبرج حمّود والجديدة وجبيل وجونية وذوق مصبح وغيرها، سلسلة اعتداءات طالت لاجئين سوريّين عزّل بحجّة تهديد الأمن والسلامة العامّة، إثر مقتل مسؤول حزب القوّات اللبنانيّة، بّاسكال سليمان، على يد أفراد عصابة معظمهم من التابعيّة السوريّة، ونقلت جثّته عبر الحدود إلى سوريّا، بحسب ما كشفت الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة آنذاك، ممّا أدّى إلى تداعيات قاسية على السورييّن في لبنان.

هذا الأمر، كان سببًا في بروز سلوكيّات عنصريّة وتمييزيّة وانتقاميّة بحقّ السوريّين. وأسوأ ما فيها أنها عشوائيّة ومن دون أيّ وجه حقّ، إذ لم تكن ردّ فعل على سلوك فرديّ، وحتّى فهذا أمرٌ غير مبرّر، وسط دعوات لترحيلهم وحملات تحريض وكراهيّة ضدّهم. وقد اتّخذت بعض البلديّات إجراءات مشدّدة قيّدت من حركة السوريّين، في حين أعطي بعضهم مهلة زمنيّة لإخلاء المناطق. حتّى أنّ السوريّين في مناطق أخرى تأثّروا في ما حصل.

يروي أحمد كيف عاش لحظات قلق وخوف وترّقب وهروب من منطقة إلى أخرى، بسبب الاعتداءات المتكرّرة التي تعرض لها، “تعرّضت للاعتداء اللفظيّ والجسديّ، شُتمت بسبب جنسيّتي، وشعرت بالخوف من أن أصبح من دون مأوى. ندفع ثمن أشياء لا دخل لنا فيها. بالقرب من منزلي الكائن في الدكوانة شهدت المنطقة تأزمًا وعنفًا اضطررت للمغادرة مرّات عدّة، انتقلت للعيش عند أحد الأصدقاء من دون توضيب حاجاتي الخاصّة. أتحاشى الخروج إلّا للضرورة”.

ويختم: “إلى متى سنعيش هذه الحال؟ أقلّه، فليخبرونا أين أصبحت ملفاتنا؟ كشاب عازب، لا يمكنني العودة إلى سوريّا، مطلوب لخدمة الاحتياط في الجيش السوريّ، وأنا من شمال حلب، وهي منطقة نزاع بين الأتراك والأكراد”.

وكان مرصد السكن، وهو منصّة إلكترونيّة تهدف إلى تعزيز الحقّ في السكن في لبنان، قد تلقّى 48 بلاغًا من سكّان سورييّن تمّ تهديدهم بالإخلاء أو التهديد بذلك خلال المدّة الممتدّة بين الـ25 من نيسان/ أبريل والسادس من حزيران/ يونيو الماضيين، إثر سلسة تعاميم أصدرتها السلطات المحلّيّة في لبنان، وبلغ عدد المتأثّرين بالبلاغات المذكورة 2500 شخص على الأقل.

الهروب من الموت

مثله هرب فادي من الموت في سوريا، “جئت إلى لبنان من معلولة، العام 2013، بعد أحداث خطف الراهبات وحدوث تهجير جماعيّ، على أمل الانتقال إلى بلد ثالث، ألجأ إليه واستقرّ فيه مع زوجتي وأمّي وأبي” يقول فادي، وهو لاجئ سوري في العقد الخامس من العمر، يعيش راهنًا في منطقة سدّ البوشريّة في لبنان.

صورة تعبيريّة (من independent عربيّة)

ويضيف لـ”مناطق نت”: “تسجّلنا، زوجتي وأنا ووالديّ، لدى مفوّضيّة اللاجئين، في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2013، وإلى اليوم لا أعلم أين أصبح طلبي، ولا يوجد أيّ مكننة، كتلك الموجودة في الأردن وتركيّا، التي تمكّن اللاجئ من متابعة تطوّرات ملفّه. يمكننا الاتّصال فقط على الخطّ الساخن الخاصّ بالمفوّضيّة ليس أكثر”.

ويتابع: “لا مشكلة لديّ إلى أين سنذهب. أتمنّى إعادة توطيننا في أيّ بلد، ستكون حالنا أفضل من هنا. إذ خلال 12 سنة لجوء، تركت منزلي مرات عدّة، وامتهنت أعمالًا كثيرة، في أحد أفران المعجّنات، وفي حلاقة الشعر، وكهرباء السيّارات، وصناعة خبز الصاج، واضطررت لتغيير لهجتي كيّ لا يكتشف الناس هويّتي ويمارسون عنصريّتهم ضدّي. كذلك اضطرّت زوجتي للعمل مرّات مقابل تعليم طفلينا”. وكذلك فعلت الوالدة الستينيّة، لإعالة زوجها، والد فادي، قبل أن يتوفّى متأثّرًا بمضاعفات صحّيّة.

خيار العودة إلى سوريا صعب جدًّا بالنسبة إلى فادي وعائلته، “لقد هربت من الحرب، ولا أريد لأولادي أن يعيشوا المآسي التي عشتها في سوريّا. إلى اليوم لا تفارقني مشاهد القتل والذبح. ذبحوا خالي على مرآى من أعيننا، والحرب لم تنتهِ بعد، أخاف أن يُطلب أولادي إلى الخدمة الإلزاميّة حين يكبرون. وأن يكون مصيرهم في قلب الحرب”.

معاناة جماعيّة

يتشارك أحمد وفادي، قصّة العبور إلى لبنان، ظروف الحرب والتشرّد وصعوبات العيش في لبنان، لا سيّما بعد الأزمة الاقتصاديّة والنقديّة الخانقة التي عصفت بلبنان منذ العام 2019، وقد وصفت بأنّها الأسوأ في تاريخ البلاد. وكلّما ارتفعت مخاوفهما بسبب الأحداث الأمنيّة والتهديدات الطارئة “نعيش خوفًا مستمرًّا ومضاعفًا بسبب الظروف المعيشيّة الصعبة من جهة، وبسبب التهديدات الأمنيّة من جهة أخرى” يقول فادي. ولا يمكن أن ننسى ظروف الحرب الحدوديّة التي فاقمت ظروف السوريّين سوءًا، ممّا سيزيد حاجتهم إلى المساعدات الإغاثيّة، لكن، هذه ليست سوى بعض النماذج التي تعكس وتحكي حال عديد من اللاجئين السوريّين، ممّن يعانون منذ قدومهم إلى لبنان.

“من المؤسف أنّ الوضع الاقتصاديّ السيّء في لبنان، ينعكس على اللبنانيّين واللاجئين على حدّ سواء، لكنّ الأخيرة هي الفئة الأكثر تأثّرًا بالأزمة، كونها في الأصل، مهمّشة وضعيفة اقتصاديًّا. علمًا أن 40 في المئة من اللاجئين السوريّين يستفيدون من المساعدات التي تقدّمها مؤسّسات الأمم المتّحدة والجمعيّات غير الحكوميّة” وفق ما يقول رئيس المركز اللبنانيّ لحقوق الإنسان (CLDH) وديع الأسمر لـ”مناطق نت”.

ويلفت الأسمر إلى أنّ نقطة مهمّة وأساسيّة، هي أنّ السوريّين لم يلجأوا إلى لبنان لأسباب اقتصاديّة بحتة، وإنّما هربًا من الحرب الدائرة هناك ومن الاضطهاد. وبالتالي لم يأتوا إلى لبنان بحثًا عن حياة أفضل وإنّما عن الحماية. حتّى أنّ هذه الحماية لم تتحقّق.

فإذًا، “المقاربة هنا حقوقيّة أيضًا وليست اقتصاديّة فحسب” برأي الأسمر و”راهنًا، لا يستطيع كثر العودة إلى سوريّا لأسباب عديدة منها، قانون التجنيد الإجباريّ، تهم الهروب من الجيش، تهم التواصل مع منظّمات إرهابيّة، خسارة منازلهم واحتلالها من قبل بعض الميليشيات”، كذلك هناك مناطق لا تزال غير آمنة في سوريّا.

وديع الأسمر: من المؤسف أنّ الوضع الاقتصاديّ السيّء في لبنان، ينعكس على اللبنانيّين واللاجئين على حدّ سواء، لكنّ الأخيرة هي الفئة الأكثر تأثّرًا بالأزمة، كونها في الأصل، مهمّشة وضعيفة اقتصاديًّا

وعن الخيارات المتاحة، يقول الأسمر “إنّ خيار إعادة توطين مليون ونصف مليون لاجئ في دول أخرى، ليس خيارًا واقعيًّا، وفي الأصل لا يريد غالبيّة السوريّين إعادة توطينهم، وإنّما العودة إلى قراهم ومدنهم وبيوتهم، وأن تستعيد هذه الغالبيّة حياتها في سوريّا. لكن للأسف، الوضع الأمنيّ هناك، لا يسمح بذلك”. ويطالب حقوقيّون بضرورة إعادة توطين اللاجئين السوريّين ممّن لن يتمكّنوا من العودة إلى سوريّا، إلّا أنّ إعادة التوطين لا يمكن أن تشمل أعدادًا كبيرة جدًّا.

مسؤولية مشتركة؟

من جهته، يرى المدافع عن حقوق الإنسان المحامي محمد صبلوح في حديثه إلى لـ”مناطق نت” أنّ “كلّ لاجئ سوريّ هو محطّ أنظار الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة، تتمّ شيطنتهم عند بعضهم، وعلى هذا الأساس يعاملون. وما فاقم الأمر سوءًا، الحملة العنصريّة البشعة والمحرّضة ضدّهم أخيرًا، والتي تتحمّل مسؤوليّتها الحكومة اللبنانيّة أوّلًا، كونها باتت تتعاطى مع اللاجئين على أنّهم أرقام وليسوا بشرًا، ومن ثمّ بعض الأحزاب السياسيّة اللبنانيّة التي لعبت دورًا عنصريًّا في هذا الخصوص، لا سيّما تلك التي تخشى التغيير الديمغرافيّ وتسعى إلى ترحيلهم”.

ويضيف “الواقع صعب جدًّا في لبنان، هناك مسؤوليّة مشتركة بين المجتمع الدوليّ والحكومة اللبنانيّة. على الأمن العام اللبنانيّ، أن يدقّق في البيانات المتوافرة لديه بخصوص اللاجئين السوريّين، لمعرفة من يدخل ويخرج من لبنان إلى سوريّا وبالعكس، ويمكنه بالتالي منع إدخاله مجدّدًا، لكن، لا يمكن معاملة المعارضين من اللاجئين بالمثل، إذ من غير المقبول ترحيلهم وانتهاك حقوقهم وتسليمهم للنظام، وهنا يأتي دور المجتمع الدوليّ من خلال تأمين طلب لجوء إلى دول أخرى، تكون آمنة لهم”.

إعادة التوطين

بصورة عامّة، “تشكّل إعادة التوطين إلى بلدان ثالثّة حلًّا محدودًا لفئات أكثر ضعفًا، وهي تعتمد على الحصص التي تتلقّاها المفوّضيّة من البلدان التي تشكّل وجهة ثالثّة لإعادة التوطين” وفق ما تؤكّده المفوّضيّة، التي “تقوم بتحديد الحالات المُحالة إليها والتي تنطوي على جوانب ضعف محتملة في مجال الحماية من خلال وحداتها وأقسامها المختلفة ووحدات الحماية التابعة للمفوّضيّة في جميع أنحاء لبنان، وتدعو دائماً البلدان الثالثة المستقبلة للاجئين إلى زيادة الحصص المخصّصة لإعادة التوطين إليها”.

ووفق الأرقام التي حصلت عليها “مناطق نت” فإنّ أعداد حالات إعادة التوطين إلى بلدان ثالثة، كعدد إجماليّ، منذ العام 2011 وحتّى نهاية شهر حزيران من العام 2024، تمّت إعادة توطين حوالي 102 ألف لاجئ من لبنان في بلدان ثالثة.

وفي العام 2023 وحده، غادر لبنان 8985 لاجئاً إلى بلدان مختلفة كالأرجنتين وأستراليا وبلجيكا وكندا وفنلندا وفرنسا وألمانيا وإيرلندا وإيطاليا وهولندا ونيوزيلندا والنرويج ورومانيا وإسبانيا والسويد وسويسرا والولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة.

وفي العام 2023، تمّ تسجيل زيادة بنسبة 9.25 في المئة في حالات المغادرة لإعادة التوطين في بلدان ثالثة مقارنة بالعام 2022 وأعلى رقم منذ العام 2017. وحتى هذا التاريخ من العام 2024، تمّت إعادة توطين 2803 لاجئين في بلدان ثالثة.

وهكذا، يعيش اللاجئ السوريّ في لبنان راهنًا، ظروفًا لا يحسد عليها، وكذلك في تركيا، إثر سلسلة اعتداءات طالت كثرًا منهم، فيما توجد أزمة في الدول الأوروبّيّة بشأن المهاجرين، فإلى أين ستكون الوجهة مستقبلًا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى