لبنان ونكتة الحروب.. نضحك لنعيش ولو تحت الصواريخ

لست أدري إذا ما كان ذاك الحسّ الفكاهيّ، الذي يواكب اندلاع الحرب الإيرانيّة الإسرائيليّة، على صفحات التواصل الاجتماعيّ، مردّه إلى فرحة اللبنانيّين بعدم توريطهم– حتى الآن– بهذه الحرب، من قبل الذراع الإيرانيّ في لبنان، أو أنّ هذا الحسّ الغريب من نوعه حيال الحروب بشكل عام، يقوم على ملازمة الحروب للبنانيّين تاريخيًّا، وصولًا إلى الظنّ أنّ ثمّة “خوشبوشيّة” تجمع بين أهل لبنان والحروب.
من النادر، إذا لم يكن من المستحيل، أن تكون الحرب بعامّة موضوع تندّر ومزاح وسخرية، كما هي الحال في لبنان وليس في الأمر– برأيي الشخصيّ– أيّ انتقاد أو عيب على الأطلاق، ذلك أنّ جميع الحروب التي مرّت على لبنان حتّى الأمس القريب، تجيز هذا النمط من الإلفة و”أخذ الوجّ” على الحروب. وليس من باب العبث أنّ ثمّة من شبّه الحرب بالنصّ الذي يبتكر الناس عديد الأشكال في قراءته وتلقّيه.
ربّماذ تكون مقاربة الحروب عبر التهكّم نمطًا ملتويًا من رفع راية الاستسلام..”زهقنا وما بقى فينا نتحمّل”… أو ربّما تكون وسيلة حذرة يراد عبرها الطبطبة فوق ظهر الحرب كي يُصار إلى التهدئة من روعها، ثمّ تجنّب سوء خلقها قدر الإمكان… “الله يسعدِك ويبعدِك”!! وربّما تكون أشياء أخرى تخصّ طبع هذه المجموعة المتهكّمة أو تلك.
إلّا أنّه وعلى الرغم من الحقائق الفجّة التي تبثّها الحروب فإنّ مقاربتها كموضوع سخرية تراها تلبّي (هذه المقاربة) إلى حدّ عميق أمنية اعتبار الحرب استعارة، مجازًا ولا تمتّ إلى العالم الحقيقيّ للمتهكّمين عليها بصلة.
غالبًا ما تتمتّع الحروب بحيويّة هائلة، إلّا أنّ حاجة الفرار من ويلاتها، أو حاجة تجنّبها– كما هي حال اللبنانيّين اليوم– يفضي إلى حيويّة اللسان الذي يلوذ بالتهكّم والسخرية والاستخفاف والفطنة
“كذبة العمر”
من النافل أنّ النظر إلى الحرب عبر عبارات التهكُّم، يخفّف من وطأتها ويحدّ من شدّة وقعها، ويثير بعض مشاعر الخفّة التي عادة ما تسوق المرء إلى عدم الانقياد للمماهاة مع فجورها، غير أنّ هذا الأمر تراه يستبطن إلى حدّ كبير ما أطلق عليه المسرحيّ النرويجيّ هنريك أبسن مصطلح “كذبة العمر”، أيّ تلك الكذبة التي تسمح للمرء أن يتحمّل عبء الحياة ومنغّصاتها، وما تحفل به من ضروب القتل والتنكيل- وفي الحالة اللبنانيّة– توقّع جرّه للحرب في كلّ آن.
يخال المرء أنّ ثمّة تبجّح أجوف، في مقاربة الحرب عبر مفردات السخرية والتهكّم والاستخفاف والهزل، إلّا أنّه وكما يشهد على ذلك عالم الأدب والحكي والقصّ بالإجمال، فإنّ الكلمات التي تُنتَج عن الحاجة للبقاء وللاستمرار في الحياة وللنجاة، غالبًا ما تنساق إلى نمط خاصّ من التبجّح وهو عندئذ أقرب إلى المتنَفّس النجاتي عبر الكلمات… عبر “الزوربة” بين حدود الحكي والأمل الضبابيّ بالخلاص.
على عكس الرأي السائد بين جمهرة الجدّيين، سواء أكانوا أذكياء أو أغبياء، وما يجمع بينهم من قواسم أو قصر وطول، فإنَّ النظر إلى الحرب بعين الخفّة وأدواتها اللسانيّة، لا يقلّل من قيمة هذه العين بالمرّة، بل ترى هذا النمط من النظر يجيز للعين التسلّل بتحايل، بين خطوط التماس ورشقات الرصاص، وانهمار الصواريخ، ورفع رايات النصر الخرقاء، فوق المباني والقرى المهدّمة.
تهكُّم وسخرية
غالبًا ما تتمتّع الحروب بحيويّة هائلة، إلّا أنّ حاجة الفرار من ويلاتها، أو حاجة تجنّبها– كما هي حال اللبنانيّين اليوم– يفضي إلى حيويّة اللسان الذي يلوذ بالتهكّم والسخرية والاستخفاف والفطنة، كأن يكلّم أحدهم هذه الحرب المندلعة هذه الأيّام بالقول: “كشّ برّا وبعيد”.
إنّ تلك “الخوشبوشيّة” التي تؤسّس علاقة اللبنانيّ مع الحروب، تُجيز له وبملء الصوت أن يقاربها بالطريقة التي يشاء.
ربّما يرى الكائن الثوريّ في استعارة عبارات التندّر لدى التطرُّق إلى الحروب نمطًا خاصًّا من الثوريّة، أمّا النوستالجي فقد يرى في هذا التناول رغبة صادقة باستعادة زمن الهدوء والسلام والطمأنينة. أمّا الشاعر فقد يرى (الله بيعرف)… إلى آخره.
غير أنّ حقيقة الأمر ربّما تقوم على كلّ هذه الاعتبارات بنسب مختلفة، فالإنسان بعامّة مدين في مقاربته للأمور إلى جملة من النزعات فكيف والحال مقاربة الحروب؟ في كتابه الجميل جدًّا “صور المثقّف” يتكّلم الفلسطينيّ/ الأميركيّ إدوارد سعيد عن “اليقينيّات السهلة” ويقصد بها تلك اليقينيّات التي توفّرها لنا خلفيّاتنا التاريخيّة والثقافيّة واللغويّة بشكل خاص، والتي عبرها يُصار إلى قراءة العالم ومقاربة أموره.
الحرب كما أراها
ربّما – كما أحبّ أن أقارب أنا الأمر– ربّما كلّ تلك التناولات “الفيسبوكيّة” للحرب بين إيران وإسرائيل والتي تقوم على المزاح والتندّر والخفّة تُفهم بعمق عطفًا على عبارة سعيد أعلاه.
فالحرب تشكّل بالعمق مجمل خلفيّاتنا في لبنان، فهي– فضلًا عن جبران خليل جبران والأخوين رحباني وإيلي صعب وغيرهم كثر– واجهتنا الأرحب إلى العالم، وهي تختزن معجم مفرداتنا اللغويّة والانفعاليّة والوجدانيّة وهي أيضًا إطارنا الثقافيّ– بالمعنى الأنثروبّولوجيّ للكلمة– الذي يحدّد سلوكنا ومعالم صخبنا وصمتنا وحبّنا لبعضنا البعض وكرهنا، وما تحفل به شاشاتنا المحلّيّة من “توكشويّات” ومحلّلين استراتيجيّين وخبراء وجنرالات وبشائر خير أو شرّ… ولله في خلقه شؤون.
إنّ تلك “الخوشبوشيّة” التي تؤسّس علاقة اللبنانيّ مع الحروب، تُجيز له وبملء الصوت أن يقاربها بالطريقة التي يشاء. فعمق الصحبة وطول العشرة وتقادم عهد الحروب ببلادنا، تبيح للناس عدم فرملة كلماتهم وأحاسيسهم وظهوراتهم الفيسبوكيّة إزاء تبادلهم الأحاديث… وحديث الحرب في لبنان لا يبزّه أيّ حديث آخر، ولا بأس بهذا الصدد من استبدال عنوان كتاب إدوارد سعيد “صور المثقّف” بـ “صور الفيسبوكيّ”.
في نهاية الأمر، وفيما يتجاوز كلّ المقاربات التي تتطرّق إلى الحروب… المقاربات الجديّة والوقورة، أو تلك التي تتّسم باللامبالاة والخفّة، فضلًا عن مقاربات أخرى تقوم على محض الصمت، يبقى الأمل يحدونا إلى النجاة من هذه الحرب الأخيرة، وعدم جرّ لبنان إليها عبر مهندسي الروح الحربجيّة في هذا البلد الجميل، تلك الروح التي لم تودِ بلبنان إلّا إلى الخراب والدمار، ورفع رايات النصر المهلهلة… والله من وراء القصد!!