لزّاب الهرمل والجرود في قبضة فؤوس التجّار والحطّابين ومناشيرهم

إعدام أشجار اللزّاب في بعلبك -الهرمل

لم يغفر لها عمرها المتراوح بين ألف، وسبعة آلاف عام، لكي يرتدع المجرمون عن قطعها، وتتوقّف فؤوسهم ومناشيرهم الكهربائيّة عن النيل منها، بل أمعنوا في “إجرامهم” من دون حسيب أو رقيب، وسط صمت مريب من الجهات المعنيّة التي لم تحرّك ساكناً حتّى الآن، لإنقاذ شجر اللزّاب المعمّر المستوطن الجرود العالية في منطقة الهرمل، ويشكّل ثروة طبيعيّة حقيقيّة قلّ نظيرها، تمتاز بها تلك المنطقة.

ثمّة جريمة حقيقيّة وموصوفة تُرتكب بحقّ تلك الأشجار، المزيّنة جرود السلسلة الغربيّة وأحراجها. والقطع الجائر لها من أجل التدفئة أو التجارة لا يُغتفر، في ظلّ الحديث عن مساحات شاسعة من أشجار اللزّاب تمّ القضاء عليها، إذ تقدّر نسبة القطع في بعض الأحراج بنحو خمسين في المائة، وهذه النسبة مرشّحة للزيادة كلّما دنت أشهر الشتاء.

شجرة لزّاب مقطوعة في جرود الهرمل (الصورة من أرشيف كامل جابر)

اللزّاب شجرٌ معمّر، أشجاره تبهر الرائي بعظمتها وشموخها، وخشوعها ارتفاعاً نحو السماء، وقطعها يعني القضاء عليها نهائيّا،ً فهي من الأشجار التي لا تنمو مجدّداً بعد القطع، وزراعة البديل يحتاج إلى آلاف الأعوام، ليصبح على شبه سلفه من حيث الارتفاع والإتّساع.

تستوطن أشجار اللزّاب الجرد الغربيّ بأكمله في منطقة الهرمل، بدءاً من “دار الواسعة” وجرود اليمّونة ودير الأحمر وعيون أرغش، إلى جرد نبحا وحربتا وحلبتا، وادي فعرا، المعيصرة، وادي العسّ، وادي النيرة، وادي بنيت، الجباب والسوح، وادي التركمان، وادي الرطل، الزويتيّة، وادي الكرم، مرجحين، زغرين، الشربيني (البعول والتفاحة)، فيسان، الحميرة، جوار الحشيش، السويسة وصولاً إلى القمّوعة- عكّار.

جريمة القطع…

لم تقتصر جريمة قطع أشجار اللزّاب على منطقة معيّنة بحدّ ذاتها، في الجرود، بل امتدّت إلى كلّ مكان تستطيع الوصول إليه مناشير الحطّابين وفؤوسهم، حيث تفاوتت نسب القطع بين منطقة وأخرى. ففي حلبتا على سبيل المثال، وصلت أعمال قطع اللزّاب إلى نسبة خمسين بالمائة من مجمل الأشجار الموجودة، وهي بمثابة عمليّة إعدام حقيقيّة لتلك الأحراج، ما يعني القضاء على ما يقارب نصف أشجار اللزّاب في ذاك الجرد، وهذا الأمر ينطبق على الكثير من المناطق الأخرى.

لم تقتصر جريمة قطع أشجار اللزّاب على منطقة معيّنة بحدّ ذاتها، في الجرود، بل امتدّت إلى كلّ مكان تستطيع الوصول إليه مناشير الحطّابين وفؤوسهم، حيث تفاوتت نسب القطع بين منطقة وأخرى

في منطقة جوار الحشيش، لا يختلف المشهد كثيراً، لا بل هو أكثر إيلاماً، فهناك أكلت الكسّارات ثلاثة أرباع الثروة الحرجيّة، بينما تكفّل تجّار الحطب وقطعهم الجائر للأشجار بالباقي، حيث تفيد المعلومات عن “ترحيل” الأشجار المقطّعة شمالاً، عن طريق التهريب باتّجاه سوريا. الجدير ذكره إنّ نسبة القطع ترتفع كذلك في جرود الهرمل العميري، على الحدود مع محافظة الشمال، سواء لجهة الأراضي التابعة لها، أو لجهة الأراضي التي تتبع جرد الهرمل. وأعمال القطع هناك تتمّ بشكل كبير، حيث يتمّ قطع حوالي أربعين طنّاً من اللزّاب والشوح والأرز سنوياً.

جريمة موصوفة تُرتكب بحق أشجار اللزاب في الجرود والدولة غائبة (الصورة من أرشيف كامل جابر)

يتحدّث الناشط البيئيّ، رئيس تجمّع شباب الهرمل لحماية البيئة مُخلص أمهز لـ “مناطق نت” فيقول: “إنّ نسبة قطع أشجار اللزّاب وصلت إلى نحو أربعين في المائة في العديد من جرود الهرمل، بينما لم تتجاوز خمسة وعشرين بالمائة في منطقة “البويب” حيث يشكّل وجود منتجع اللزّاب في المنطقة رادعاً لقطع الأشجار”.

تجدر الإشارة إلى أنّ منطقة “البويب” التي ترتفع 1825 متراً عن سطح البحر، تُعتبر الأكثر كثافة في أشجار اللزّاب، بينما تتنوّع الثروة الحرجيّة بين لزّاب وشوح وأرز وسنديان وعرعر في باقي الجرود.

تجّار قطع متذرّعون بغطاء رسميّ

عند الحديث عن عمليّة القطع الجائر لأشجار اللزّاب، يتبيّن أنّ الجريمة الحقيقيّة تتأتّى من أصحاب المهنة المستجدّة وهم “تجّار الحطب” ممّن يجزّون الأشجار بهدف بيعها. واللافت في الأمر، أنّ القطع لا يتمّ فقط ضمن نطاق أراضيهم، بل يتعدّاه إلى المشاعات التي تعتبر أملاكاً عامّة، من المفترض أن تكون محميّة من أيّ اعتداء أو انتهاك ، إذ إنّ نحو سبعين بالمائة من هذه الجرود هي ملك الدولة اللبنانيّة.

جريمة قطع اللزّاب تتأتّى من أصحاب المهنة المستجدّة وهم “تجّار الحطب” ممّن يجزّون الأشجار بهدف بيعها. واللافت في الأمر، أنّ القطع لا يتمّ فقط ضمن نطاق أراضيهم، بل يتعدّاه إلى المشاعات التي تعتبر أملاكاً عامّة

المفارقة في الموضوع، أنّ من يمتلك مثلاً، مئة دونم في المنطقة، وضع يده على أكثر من 700 دونم، علماً أنّ معظم هؤلاء هم من تجّار الحطب، يتذرّعون بـ”الغطاء الرسميّ” وبأنّهم مدعومون، ولا يستطيع أيّ كان محاسبتهم، مع العلم أنّ القانون لا يسمح حتّى لمن يمتلك أرضاً تحتوي أشجاراً نادرة أو معمّرة بقطعها و”ذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية”.

المراقبة نائمة والمحاسبة غائبة…

لعلّ المثل الشعبيّ الشائع “الرزق السائب بيعلّم الناس الحرام”، هو الأكثر توصيفاً وصدقاً لواقع جريمة إعدام اللزّاب في الجرود. الدولة غائبة، تغطّ في نوم سريريّ، تاركةً البلاد من دون رقابة وقضاءٍ وحساب. ولولا هذا الغياب، لما تجرّأ هؤلاء على اقتراف جرائمهم في قطع اللزّاب، الذي تقع مسؤوليّة حمايته على موظّفي الأحراج (مأموري الأحراج). لكنّ المضحك المبكي، أنّ هؤلاء “لا تتوافر لهم الإمكانيّات اللازمة لذلك، سواء لجهة توافر سيّارة، أو لجهة تأمين مادّة البنزين كي يستطيعوا الخروج، والقيام بالدوريّات والمراقبة المطلوبة”. هذا إن لم يكن بعضهم متورّطاً في “غضّ الطرف”.

الجزء الآخر من المسؤوليّة يقع على عاتق الجيش اللبنانيّ الذي تكتفي حواجزه عادة بمصادرة” كميون” أو “شاحنة” الحطب أو جزء منها. لكنّ بعض التجّار يعمدون إلى تضليل عناصر الجيش، من خلال القول “إنّ هذا الحطب هو حطب قيقب أو لوز، وليس سندياناً أو لزّاباً”. وأحياناً يتلاعبون على الكلام، باستخدام مثلاً عبارة “حطب ملّول” بدلاً من حطب السنديان، مع العلم أنّ الملول هو نفسه السنديان، وبالتالي يقطعون حواجز الجيش بسلام.

شجرة لزّاب معمرة في جرد الهرمل (الصورة من أرشيف كامل جابر)

وفي هذا الإطار، يدعو حسين صبري دندش، صاحب منتجع يقع في منطقة اللزّاب، تصل مساحته مع محيطه إلى نحو ستة آلاف دونم الدولة، “إلى ممارسة سلطاتها وفق القانون، وبالتالي منع الاعتداء السافر على الجرود، ومعاقبة كلّ من يقوم بقطع اللزّاب بالغرامة أو بالسجن”. بدوره يشدّد أمهز على “أنّ ما يحصل يستدعي تدخّلاً سريعاً من قبل السلطات والوزارات المعنيّة من جهة، ومن قبل الجمعيّات البيئيّة من جهة أخرى، من أجل الحفاظ على هذه الثروة الحرجيّة التي إن ذهبت لن تعود”.

اللزّاب.. الشجرة الألفيّة

تتمتّع شجرة اللزّاب بالكثير من المميّزات النادرة، وهي بحسب دندش “الوحيدة التي تعيش على ارتفاع 2800 متر”، موضحاً أنّ شجر الأرز لا يمكنه العيش فوق ارتفاع ألفي متر. ويتابع قائلاً: “تكتفي جذور اللزّاب بالإمتداد حوالي نصف متر عاموديّاً في عمق الأرض، لكنّها تمتد أفقيّاً إلى مسافة ثلاثين متراً بعيداً عن الشجرة الأمّ، ولأنّها من الأشجار المعمّرة، فإنّ جذور شجرة اللزّاب، تمتاز بسماكتها وغلاظتها”.

يشير دندش إلى “أنّ كلّ لزّابة تُقطع فيها انتهاك كبير لحرمة البيئة”، مؤكّداً أنّ بعض اللزّاب في منتجعه “وبحسب فريق من الجامعة اللبنانيّة زار المنطقة، يقُدّر عمره بسبعة آلاف سنة”. بادر دندش في مهمّة الحفاظ على أشجار اللزّاب، إلى زراعة أغراس من أشجار الأرز واللزّاب منذ نحو 25 سنة، “والمفارقة أنّه منذ تاريخ زرعها وحتّى اليوم، لم يتجاوز ارتفاع اللزّابة ثلاثين إلى أربعين سنتيمتراً، فيما بلغ ارتفاع غرسة الأرز حوالي ستّة أمتار”.

يُعتبر خشب اللزّاب خفيفاً، وهذا ما يجعله قابلاً للإشتعال بشكل سريع، لكن في الوقت نفسه يتميّز بأنّه من أمتن أنواع الأخشاب وأصلبها. يضيف دندش: “أيضاً تُستخدم حبوب اللزّاب في صناعة مشروب Gen، ويُصنّع منها كذلك البهارات، وبحسب البعض يمكن استخراج العطور من ثمارها”.

“الكيخن” يزرع والإنسان يقطع

إذا ما بقيت الأمور على ما هي عليه من قطع جائر لهذه الأشجار، وبالوتيرة الحاليّة، في ظل غياب تامّ للدولة وسلطاتها، فإّن اللزّاب مهدّد بالانقراض حتماً، لا سيّما أنّ طريقة زراعتها من جديد تختلف عن زراعة السنديان وباقي أنواع الأشجار، إذ من المعروف أنّ طائر “الكيخن” وهو من أنواع السّمّن، الوحيد القادر على زراعة اللزّاب ونموّه وانتشاره، وذلك من خلال تناول الكيخن بذرة اللزّاب، فتذيب معدته الغشاء الخارجيّ للبذرة، ما يساهم في تخميرها، وتتهيّأ لتكون صالحة للزراعة، وهذا ما يقوم به الكيخن بعد عملية البراز. وعندما ينقرض هذا الطائر بانقراض غذائه، تصبح زراعة اللزّاب مستحيلة.

طائر “الكيخن” هو الوحيد القادر على زراعة اللزّاب ونموّه وانتشاره، وذلك من خلال تناول الكيخن بذرة اللزّاب، فتذيب معدته الغشاء الخارجيّ للبذرة، ما يساهم في تخميرها، وتتهيّأ لتكون صالحة للزراعة، وهذا ما يقوم به الكيخن بعد عملية البراز. وعندما ينقرض هذا الطائر، تصبح زراعة اللزّاب مستحيلة

في هذا الإطار، يشير دندش إلى “أن إنشاء المحميّات بات أمراً ضروريّاً من أجل الحدّ من الإعتداء على الأشجار”، مؤكّداً “أنّنا في كلّ لقاء مع المسؤولين كنّا ننتهز الفرصة لطرح موضوع إنشاء محميّات في المنطقة. حتى عندما كان يُصاب اللزّاب بمرض ما، كان التواصل مع الوزارة يتمّ من أجل معالجته”.

محميّة اللزّاب.. “على الوعد يا كمّون”

على الرغم من غنى جرود الهرمل بأشجار اللزّاب، والإجماع على أهمّيتها، إلّا أنّه حتّى اليوم، لا محميّة رسميّة على امتداد المنطقة، باستثناء مبادرة أطلقها منذ نحو ثلاث سنوات وزير الزراعة السابق الدكتور عباس مرتضى لإقرار محميّة في منطقة “السويسة”، كان يفترض أن تُطلق عليها تسمية “محميّة السيّد موسى الصدر”، لكنّ المبادرة لم تأخذ منحى التنفيذ، ولم تقرّ المحميّة رسميّاً. وثمّة معلومات تشير إلى أنّ هذه المنطقة لم تسلم أبداً من عمليّات القطع الجائر للزّاب والأشجار المعمّرة.

في الجرود المكلومة، المغتالة ثروتها الحرجيّة وظلالها، يروم الصمت على وجع الشجرات المذبوحة، لتسقط الواحدة تلو الأخرى، وحده ضجيج المناشير والفؤوس لا يهدأ أو يستكين ليل نهار. أمّا عصابة القطع الجائر والحطّابين فلن يؤلم أفرادها ضمير مستتر، ولا عقدة ذنب نائمة، فهم متيقظون لا يهدأون، في مهمّة التجارة ولو على حساب تصحير الجبال التي أضحت محميّاتهم التجاريّة والأمنيّة على حدّ سواء، وهي محرّمة على المراقبة والاستفسار، وعلى غيرهم من الاقتراب أو التصوير، وإلّا فمن يقترب، مصيره مصير اللزّابات الذبيحات.

في كلّ عام، ومع اقتراب فصل المطر، تتناقص أعداد شجر اللزّاب في الجرود، وتنحسر مساحاته. يتناقص اللون الأخضر الداكن والجذوع المعمّرة، وتزداد المساحات الجرداء، ومعها التصحّر. تتناقص كمّيّة الأوكسيجين الذي تنتجه شجرة اللزّاب بمقدار هائل، وتنشره في فضائنا الذي سيزداد تلوّثاً.

لا شيء سوى هذا الانهيار الذي لم يقتصر على الحجر والبشر فحسب، بل يكمل زحفه الدامي نحو الشجر.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى