للأزمات وجه آخر.. ظاهرة تربية المواشي تعود جنوباً
تُكرّر العجوز التسعينيّة الحاجة ديبة فواز، المتحدّرة من بلدة الغسّانيّة (الزهراني) بشكل مستمرّ حكاية تعرّفها على زوجها، التي مضى عليها أكثر من سبعين عاماً. تقول: “كنت رايحة ودّي البقرة عـا “العجّال” وشافني ولحقني لعند إمّي”.
كثر منّا لم يسمع بكلمة “العجّال” ولا يعرف معناها، لكن بالتأكيد أنّ كبار السنّ، وخصوصاً ممّن ولدوا وترعرعوا في القرى والرّيف، يعرفون تماماً تلك الكلمة وعايشوها. العجَّال: عبارة عن قطيع من المواشي قد يصل عدده إلى مائة رأس، ويضمّ أبقاراً وماعزاً وغيرها، أصحابها لا يستطيعون رعيها بسبب مشاغلهم، أو لأنّ تلك المواشي لا تزال صغيرة العمر، فيرسلونها إلى العجّال الذي كان يتولّى أمره رجل متمكّن، يسرح به نحو المراعي صباحاً ويعود به مساءً، حيث كان يتقاضى أجره في آخر العام، أنواعاً متعدّدة من المؤونة البيتيّة، يخصّه بها أصحاب هذه المواشي.
لقد شكّلت تربية الماشية حتّى سبعينيّات أو ثمانينيّات القرن الماضي، جزءاً أساسيّاً من الدورة الاقتصاديّة والمعيشيّة لأهل القرى، إذ كانت العائلات على اختلاف طبقاتها، تمتلك عددًا من رؤوس الماشية، تؤمّن حاجة الأسرة والأقارب كذلك، وتشكّل في الوقت نفسه مصدر رزق لهم.
في حينه، كانت الماشية تُغني المنازل بخيراتها، من الحليب والألبان واللحوم والجلود والصّوف التي تدخل في صناعة الملابس وأثاث المنازل. وإلى عقدين سابقين أو أكثر قليلاً، كانت تربية المواشي مهنة رئيسة لبعض الأسر اللبنانيّة، بالرغم من تراجع هذه الظاهرة وشبه انقراضها في بلدات وقرى بحدّ ذاتها، بسبب طغيان ظروف الحياة العصريّة وتبدّل نمط العيش كثيرًا.
لم تصدُف غالبية الناس، في الأعوام الأخيرة، إلّا نادراً، “عجّالاً” من رؤوس أبقار وأغنام وماشية على أنواعها، تُرعى على جوانب الطرقات، في القرى أو أطراف المدن، إلى أن حلّت الأزمة الإقتصاديّة والنقديّة الأخيرة في البلاد، فعادت ظاهرة تربية المواشي إلى الواجهة من جديد.
اقتناء المواشي إلى ازدياد
لقد أثبت هذا الواقع، برغم مساوئه، أنّ للأزمات وجهاً آخر. غير ذلك السلبيّ الذي يطغى على المشهد العام، وجهاً يظهر إلى العلن مع كلّ محاولة للعيش والتأقلم وخلق فرصة جديدة للعمل، وإيجاد مصدر رزق جديد، في ظلّ الإنهيارات النقديّة والماليّة والمعيشيّة وحتى الاجتماعيّة التي تعيشها البلاد والعباد.
كذلك فعل جنوبيّون كثر، حينما بدأوا باقتناء رؤوس قليلة من المواشي، على اختلاف أنواعها، من بقر وغنم وماعز، وأنتجوا الحليب ليصنعوا الألبان والأجبان، وبعضهم باع ما توافر منه في السوق المحلّيّة أو على مستوى العائلة. لقد حفّزت الأزمة الإقتصادية الراهنة الناس على تربية المواشي في الأرياف، بل وزاد الإقبال عليها، خصوصًا لمن وجد فيها تجارة بميزانيّة متواضعة بعض الشيء، أو عمل رديف ليس فيه مخاطر كثيرة.
لقد حفّزت الأزمة الإقتصادية الراهنة الناس على تربية المواشي في الأرياف، بل وزاد الإقبال عليها، خصوصًا لمن وجد فيها تجارة بميزانيّة متواضعة بعض الشيء، أو عمل رديف ليس فيه مخاطر كثيرة.
في هذا السياق، تروي رولا سلمان، التي تقتني قطيع ماعز منذ سنوات طويلة في قرية كفرحتّى الجنوبيّة، لـ”مناطق نت” كيف اقتنت عائلات كثيرة، رؤوساً قليلة من الماشية، أخيراً، “حتّى صار في كلّ بيت رأسا طرش أو ثلاثة، ماعز وأغنام أو بقر، تكفي حاجة العائلة”. هذا الأمر وإن أتى لصالح العائلات التي لجأت إلى تربية المواشي، غير أنّه تسبّب بانخفاض المبيعات لدى رولا، إلى جانب انخفاض القدرة الشرائيّة عند الناس وأزمة كورونا. “علمًا أنّ الطلب كان قد ارتفع كثيرًا، مع بداية الأزمة في العام 2019، ثمّ عاد لينخفض كثيرًا” حسبما تقول.
دأبت رولا على تربية الماشية منذ زواجها في تسعينيّات القرن الماضي وحتى اليوم، تربطها علاقة مميّزة مع 125 رأس ماعز تمتلكها راهنًا، هي وأولادها الثلاثة وزوجها، تقول: “عشنا وربّينا عيلتنا من خير الماشية. أولادي فخورون بمهنتنا وبيحبّو كتير المعزة”.
تبيع رولا سطل اللبن، حجم 5 كيلوغرامات بـ400 ألف ليرة لبنانية فقط، وهو سعر منخفض مقارنة بأسعار لبن الماعز راهنًا. وهي تبيع منتوجاتها من الحليب واللبن واللبنة والأجبان، محلّيًا، أيّ في داخل قريتها. لكنّها، تضطرّ في أحيان كثيرة إلى توزيع الحليب واللبن على أقاربها أو على الأصدقاء، قبل أن يفسُد وتنتهي صلاحيته، بسبب قلّة التصريف. وهي إلى ذلك، تتكبّد تكاليف مرتفعة على تربية ماعزها، من طبابة ودواء وتبن وشعير، “الشتاء الماضي كنت غير قادرة على تأمين الحاجات الضروريّة لها، خصوصًا إنو ما عنا منتوج بالشتاء”.
علي والعودة إلى تربية المواشي
على مقلب آخر، يجد من اقتنى، ماشية في أعوام الأزمة الأربعة الماضية، خيارًا جيّدًا ومهمًّا في ظلّ ما آلت إليه الظروف. علي عبّاس، إبن بلدة كفرا الجنوبيّة، واحد من هؤلاء، يمتلك اليوم 22 رأس ماعز، ويعتاش هو وعائلته المؤلّفة من خمسة أفراد من تربيتها. “مع بداية الأزمة، اشتريت 8 معزايات وربّيتهن حتى بيع حليبهن واستفيد. وقتها كنت بيع خضار ع الڤان، وبلش يغلا البنزين، وبطّلِت توفّي معي. لهيك اشتريت معزايات وخلّفوا وصاروا 22″، يقول لـ”مناطق نت”، ويضيف: “أبيع ما أنتجه يوميًّا، أيّ بحدود السطلين (السطل 5 كيلوغرامات)”.
الجميل في قصّة علي، أنّه كان في وقت سابق، وتحديدًا قبل العام 2006 يرعي الغنم والماعز والبقر والدجاج التي كان يمتلكها جدّه، كانت بحدود 300 رأس تقريبًا. في حينه، كان عازباً، قبل أن يتزوّج ويعمل في بيع الخضار، لكن شاءت الأزمة أن تعيده إلى تربية المواشي.
ثمّة أمر آخر، حمل الناس على القيام بمثل هكذا خطوة، هو الطلب على شراء الحليب ومشتقّاته المنتج منزليًّا، بسبب ارتفاع أسعاره في المحال التجارية -اتّخذ منحى تصاعديًّا بسبب استمرار انهيار الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار- ما أمّن للناس منتجًا أكثر توفيرًا وموثوقًا في آن، بسبب بروز ظاهرة الغشّ في تصنيع الألبان والأجبان.
يمتلك علي عبّاس، إبن بلدة كفرا الجنوبيّة، اليوم 22 رأس ماعز، ويعتاش هو وعائلته المؤلّفة من خمسة أفراد من تربيتها
وفي حسبة بسيطة: يُنتج سطل لبن وزنه 5 كيلوغرامات، كيلوغراماً ونصف الكيلو من اللبنة البلديّة تقريبًا، بسعر يقدّر بنحو 400 ألف ليرة لبنانية، بينما يبلغ سعر عبوة لبنة (500 غرام) حوالي 400 ألف ليرة. واللافت جدًّا، أنّ مربّي الماشية باتوا يستخدمون أساليب حديثة ومتطوّرة للترويج لها عبر “السوشيال ميديا” أو بيعها وتوصيلها عبر خدمة “واتس أبّ”.
لكن، هل عادت حقًا تربية المواشي بكثرة وبصورة واضحة ولافتة؟
“لا يوجد كثرة في المواشي، وما لدينا قبل الأزمة كان يشكّل نحو47 بالمئة من الاستهلاك المحلّيّ،
ما يعني أنّه لدينا نقصٌ كبير بكمّيّة الحليب المنتجة”، وفق ما تؤكّد مصادر نقابة مربّي الأبقار في الجنوب لـ”مناطق نت”. وتضيف المصادر: “لا إحصاءات واضحة، ولكنّ الأرقام تشير إلى خسارة نحو 50 في المئة من الثروة الحيوانيّة، وخصوصًا الأبقار”.
صعوبات كثيرة، يعاني منها مربّو المواشي، مثل، تقلّب سعر صرف الدولار، وانخفاض القيمة الشرائيّة عند المواطن، وعدم التزام المعامل بتسعيرة الحليب الرسميّة. كذلك يعانون من غياب الدعم والحماية والرقابة من قبل وزارة الزراعة والوزارات المعنيّة، إذ أنّ هذا القطاع لم يلقَ أيّ اهتمام أو دعم من وزارة الزراعة، ومن خلفها الحكومات والسياسات الإقتصاديّة المتعاقبة، ما دفع مربّي الماشية، ربّما، للعزوف عن هذه المهنة، بالطبع، إضافة إلى عوامل أخرى لعبت دورًا مهمًّا في ذلك.
إلى ذلك، تلفت النقابة إلى إرتفاع ظاهرة الغشّ في الألبان والأجبان، وبالأخصّ تلك المصنّعة من زيوت النخيل والنشاء والجيلاتين والإضافات الأخرى، وعدم مطابقتها للشروط الصحّيّة ومعايير تصنيع الغذاء، والتي يجذب سعرها المنخفض المستهلكين.