نجيب حنكش.. سيرة بسبع بهارات

من عادة نجيب حنكش، إضافة “التوابل” على كلّ حادثة يرويها، فيقولب عناصرها، خدمةً للخاتمة التي سوف تكون مدوّية، فيضمن إشعال القهقهات في أفواه جمهوره، الذي قد يكون كبيراً، بحجم ستاد كرة قدم، أو متواضعاً، بحجم صالون في بيت رياض الصلح.

مع الوقت، يقوم حنكش بتثبيت تلك الحكاية، بما فيها من إضافات، وزخارف، وكذا، يصعب عليه، وعلى متقفّي أثره، وسيرته، الخروج بخلاصة ثابتة، وحاسمة، ونهائيّة! حتّى لحنه الأشهر “أعطني الناي وغنِّ”، الذي غنّته فيروز، ليتحوّل واحداً من أيقوناتها، لم يتفتّق عن بنات أفكاره، بل كان اقتباساً من لحن أرجنتينيّ شهير، اسمه “لا كومبارسيتا”.

أمّا الزيجة الوحيدة التي أعلنها ذلك العازب، فكانت واحدة من مقالبه التي مرّرها في أوّل نيسان، اليوم الذي يسمح باختلاق الأكاذيب من دون ضرائب، وتبعات. في ذلك اليوم، وعلى شاشة التلفزيون الرسميّ، أعلن حنكش عن زواجه من الاعلاميّة اللبنانيّة بارعة مكناس، التي تواطأت معه في “مزحته” تلك، قبل أن تعود بارعة وتتزوّج فعليّاً من المهندس رمزي علم الدين، ويؤسّسا عائلة في لندن، إحدى أفرادها أمل علم الدين، المحامية التي صارت زوجةً للممثّل العالمي جورج كلوني.

نجيب حنكش وجان عرابي صاحب مقهى عرابي في وادي البردوني في زحلة عام ١٩٦٧ (الصورة مأخوذة من صفحة كمال ديب)
حيّ مار الياس في زحلة

“يُقال” أنّ ولادة نجيب حنكش، توافقت وآخر سنة من القرن التاسع عشر، حيث أبصر النّور في زحلة، في العام 1899، ليصحّح بعضهم الرقم، بأنّه من مواليد 1904.

ترعرع حنكش في “عاصمة الكثلكة”، حيث أمضى طفولة نصف ريفيّة، ونصف مدينيّة، بمقاييس تلك الايام، ومثل غالبيّة العائلات آنذاك، كانت سبل العيش شحيحة، فهاجر الكثيرون من أترابه، ليتبعهم هو بعد مدّة، ميمّماً شطر القارّة اللاتينيّة، تحديداً البرازيل الناطقة بالبرتغاليّة، حيث تجرّع هناك شظف العيش، حاملاً للكشّة Mascate (وتعني بالبرتغالية الصندوق الذي يحتوي أغراض أو أمتعة)، ليعرض بضاعته على أصحاب الدكاكين، قاطعاً المسافات، سيراً على الاقدام.

بعد كثير من الشقاء، استطاع جمع مبلغٍ من المال، خميرة لتوسيع عمله، ومضاعفة أرباحه. وقتذاك، تردّد إلى الديار مرّات عديدة، وبنى علاقات طيّبة مع الطبقة السياسيّة، إذ كانت جلساته مزيجاً من الفكاهة، والنقد اللاذع، بأناقة تحتاجها تلك الصالونات المخمليّة.

وُلد حنكش وترعرع في “عاصمة الكثلكة” زحلة، حيث  كانت سبل العيش شحيحة، فهاجر إلى البرازيل، وهناك تجرّع شظف العيش، حاملاً للكشّة Mascate، يعرض بضاعته على أصحاب الدكاكين، قاطعاً المسافات، سيراً على الاقدام

في تلك الأيام، وزّع نجيب حنكش فيلم “الوردة البيضاء” في الأرجنتين، بينما راح يقدّم بعض الحفلات في “ساو باولو”، كما كانت له مغامرات تجاريّة رابحة، جعلته رجلاً ثريّاً، فاستثمر جزءاً من ثروته في لبنان، وفي قطاع السياحة على وجه التحديد، حيث امتلك مطعم “الأوبرج”، مناصفةً مع إبن شقيقه، وكان شريكاً في مطعم “كازينو الوادي”، على ضفّة نهر البردوني، كما كان شريكاً في فندق “شتورا بارك أوتيل”.

في تلك الأماكن، توطّدت علاقة حنكش بالطبقة الفنيّة، حيث كان معظمهم ينزلون في تلك الفنادق، ويجلسون على تلك الموائد.

ظريف لبنان

في العام 1947 استقرّ حنكش في لبنان، بعدما تأكّد من ذيوع صيته، وشيوع اسمه في الأوساط الفنّيّة، والصحافيّة، والسياسيّة. فرصته الأولى مع الكتابة، منحه إيّاها شكري بخّاش، رئيس تحرير جريدة “زحلة الفتاة”، الذي طلب إلى ابن مدينته تدوين تلك النكات، والخبريّات، على طريقة حنكش، ولو بالمحكيّة اللبنانيّة، واعداً إيّاه أن الجريدة سوف تؤمّن من يدّقق نصّه وينقّحه، فكان “أصدقائي الحمير” مقاله الأوّل، الذي ترك صدىً سريعاً، ووقعاً في الأوساط الثقافيّة، والفنّيّة، لِما في كلامه من غمز ولمز، بل وفلسفة محبّبة.

حنكش مع صباح وأم كلثوم زمن الأبيض والأسود

الخطوة الصحافيّة التالية، كانت مع “التلغراف”، ثمّ مع اسبوعيّة “الصيّاد” التي أطلقها سعيد فريحة، القريب قلباً وقالباً من نجيب حنكش، بأسلوب السهل الممتنع، التلقائيّ، السرديّ. ثم تشعّبت إطلالات حنكش الإعلاميّة، والفنّيّة، فأطلّ من على شاشة تلفزيون لبنان من خلال برامج عديدة، استضاف فيها نخبة النخب من أهل الفنّ، مثل صباح، وديع الصافي، فيروز، الأخوين رحباني، فريد الأطرش، وعبد السلام النابلسي…

في هذا الوقت، كان سعيد فريحة قد أطلق على حنكش لقب “ظريف لبنان”، وشاع اللقب وتكرّس، ليصبح توأمه، فكان أبرز إسم في مجاله بعد عمر الزعنّي، ليستتبعه آخرون، ولو في قوالب مختلفة، مثل رياض شرارة، على سبيل المثال، الذي تمتّع بحسّ الدعابة، إنّما بشكل أكثر رصانة.

ذكريات “حنكشيّة” متنوّعة

أصدر نجيب حنكش، على مراحل، مجموعة من الكتب التي تتقارب باسمائها، مثل: “حنكشيّات متنوّعة”، و”ذكريات حنكشيّة”، وهي تتضمّن خلاصة تجاربه، وطرائفه. أمّا المقدّمات، فمّرة بقلم ميخائيل نعيمة، ومرّة بقلم سعيد فريحة. المؤسف في الأمر أنّ نسخ تلك الكتب هذه غير متوافرة في المكتبات، لكن من حسن الحظّ أن أحد المهتمّين في إمارة أبو ظبي، قد قصد مستودعات الكتب النادرة، ليعثر بعد جهد على كتاب “حنكشيّات متنوّعة”، الصادر عن “مؤسّسة الجمهور للطباعة والنشر”، أمّا عدد الصفحات فهي 194 صفحة من القطع الصغير، بينما يتمحور مضمونه حول هجرته إلى البرازيل في العام 1922، ثمّ عودته إلى لبنان، بعد 25 عاماً، والكثير من الذكريات التي تلت تلك السنوات، وكانت مقالته “أصدقائي الحمير” في أولى صفحات الكتاب.

حنكشيات
غناء وتلحين

قبل اتفاق الأخوين رحباني معه لأخذ اللحن منه، كان نجيب حنكش قد صدح بتلك الأغنية، بصوته، (أعطني الناي وغنِّ)، مختاراً مقاطع أخرى من قصيدة جبران، ليعود “الأخوين”، إلى اختيار مقاطع أخرى، هي التي عرفناها بصوت السيدة فيروز. كذلك غنّى حنكش “فيكِ يا دار الوفا” من ألحان وكلمات خليل القاري، الذي كان قد غنّاها بصوته، ليكون صوت صباح هو الثالث والأخير، الذي أعطى الأغنية مداها، وشهرتها. أمّا “الحلم الهارب”، فكانت قصيدة شفيق المعلوف، غنّاها حنكش، على لحن ترتيلة شهيرة، هي “وا حبيبي”. أيضاً كانت له أغنية على لحن غربيّ، هو نفسه الذي وضعه الرحابنة في ما بعد على أغنية “يا لور حبّكِ”.

من جهة التمثيل، كانت لحنكش تجربة مبتورة في الفيلم الذي لم يكتمل، “المعلّم لطّوف”. وبهذا، سوف نلاحظ أنّ حنكش لم يكن ممثّلاً فعليّاً، ولم يكن ملحّناً محترفاً، ولا مطرباً مكرّساً، ولا حتّى كاتباً بالمعنى الإحترافيّ للعبارة. ربّما نستطيع وصف ذلك الرجل بالمهرجان الذي يمشي على قدمين، أو الساحر الذي لا يكّل من إخراج الأرانب من قبّعته، والطابات من خلف أذنه. كان صانع نكتة، مبدعاً في مجاله.

نقيب البخلاء

إضافة إلى “ظريف لبنان”، كان يطيب لحنكش أن يتهكّم على نفسه، مبتدعاً لقب “نقيب البخلاء”، وقد كان كذلك إنّما بنسبة بسيطة، غطّاها بذلك اللقب المبالغ به، مستبقاً أيّ هجوم قد يطاله، غير أن الفنّان فريد الأطرش قال له في حوار متلفز: “ما تصدقوش كلامو، الراجل دا كريم، وقدّملي أفخر الأكلات في الأوتيل بتاعه”. لكن نجيب ردّ ضاحكاً: “هيك رح تخربلي بيتي”.

إضافة إلى “ظريف لبنان”، كان يطيب لحنكش أن يتهكّم على نفسه، مبتدعاً لقب “نقيب البخلاء”، غير أن الفنّان فريد الأطرش قال له في حوار متلفز: “ما تصدقوش كلامو، الراجل دا كريم، وقدّملي أفخر الأكلات في الأوتيل بتاعه”. لكن نجيب ردّ ضاحكاً: “هيك رح تخربلي بيتي”.

القصيدة التي أبكت حنكش

يقول صالح جودت في مجلّة “الكواكب” المصريّة، العدد 734، إنّه كان ضيفاً على مهرجان الشعر، التكريميّ للأخطل الصغير، في لبنان، فأنصت نجيب حنكش إلى قصيدة جودت، المحمّلة بأبيات من الحزن العميق، ثم عاد وطلبها منه حينما جلسا على حدة. جودت يقرأ، وحنكش يجهش بالبكاء. كان يختزن الكثير من الحزن، من دون أن يعرف كيف يحدّد منابعه. يختم صالح جودت مقالته قائلاً: “حين يخلق الله الهموم، يخلق معها نجيب حنكش، لتخفيف وطأتها”.

وحيداً في غرفة فندق

عن آخر أيام “ظريف لبنان”، يحكي صديقه، عميد كلّيّة الإعلام سابقاً، الدكتور انيس مسلّم: “نجيب عاش بين الفرح والحزن. عند حنكش حزن متجذّر، وعظمته أنّه يستطيع إخفاء حزنه. لا أستطيع نسيان تلك الأيّام. كنت أزور حنكش في أواخر أيامه، في “بّارك أوتيل شتورة”، وكم من مرّة دخلت عليه لأجد الدمعة في عينه. في مرّة تمنّى عليّ بإطالة الجلوس، قائلاً: “يا أنيس أنا كلّ عمري حزين، وما بعرف ليش، يمكن لأنّي تركت لبنان مش متل باقي المغتربين، اللي بيتوقّعوا الحياة الرغيدة برّات البلد. أمّا أنا فهربت من زحلة، من حي مار الياس، طمعاً بأفق أوسع لحياتي. وعندي حزن تاني، هو اليتم، لمّا فقدت أمّي”.

يقول الدكتور انيس مسلّم: كنت أزور حنكش في أواخر أيامه، في “بّارك أوتيل شتورة”، وكم من مرّة دخلت عليه لأجد الدمعة في عينه

ويضيف حنكش: “وين ما كون بيطلبو منّي إحكي نكت، وبس بلّش إحكي بيبلشو ضحك. ليك اليوم، أنا وحيد بهالغرفة بهالأوتيل. بأوقات ما بيدق الباب ولو مرّة بالنهار. ما بيفوت علييّ إلّا الموظّف، اللّي جايبلي وجبة الأكل، مش حتّى عيش، إنّما حتّى ما موت”. لكن نجيب حنكش مات، جرّاء معاناته مع المرض، وتحسّره على الوطن الذي كانت الحرب الأهليّة قد فتكت به، فراقب هول الهدم، بإحساس خاص، كيف لا، وقد احترقَت الفنادق، والمطاعم التي كان يقدّم فيها “مونولوجاته”، ولطالما ضخّ الحياة في أوردة الإسمنت تلك، فكان من نصيبه مشاهدة حفلات الجنون، جولة بعد جولة، حتّى كان رحيله يوم الثلاثاء في 17 نيسان من العام 1979. ليغيب صاحب أشهر جملتين: “يقبرني الله اللّي خلقك”، و”اعطيني بوسة”. كان الجميع يقدّمون جباههم، ووجناتهم، ليقبّلها ذاك المذيع “الضخم”؛ هكذا حتّى زاره الموت، ليقبّله تلك القبلة الأخيرة.

سهرة مع حنكش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى