لماذا يختصر اسم بعلبك “المدينة” أسماء البلدات حولها؟
لماذا “نضع خطّين تحت اسم المدينة” ويختصر اسم بعلبك كلّ أسماء القرى والبلدات الواقعة في محيطها ويطمس هوياتها، لا بل المحافظة بأكملها وهي محافظة بعلبك –الهرمل؟ يتجلّى هذا بوضوح عند تعريف ابن المناطق المجاورة بأنّه من بعلبك، في الوقت الذي يكون متحدّرًا من شمسطار أو النبي شيت أو سرعين أو تمنين أو إيعات أو بوداي أو حتّى شعت أو قرى أخرى في البقاع الشمالي وليس فقط الأوسط. وبعض هذه البلدات تبعد عن بعلبك المدينة كيلومترات طويلة.
ليس أبناء المناطق المحيطة ببعلبك وحدهم من يقومون بالتدليل هذا، بل كذلك وسائل الإعلام التي تجاريهم في ذلك، فتعتمد التدليل نفسه. وهي في الغالب عندما تتناول خبرًا وقع على بعد عشرات الكيلومترات من مدينة بعلبك، تعمد إلى صياغة الخبر بأنّه وقع في بعلبك، حيث تكون المدينة بعيدة عنه أو “براءً” منه.
خمسة أحرف تختصر وطنًا
“بعلبك”، خمسة أحرف لها أصداء مدويّة على المسامع، ووقعٌ كبير في الآذان. لها هيبتها ووقارها اللذان ينبعان من عوامل مختلفة، وأسباب عديدة تكمن خلف ذلك، يأتي في المقدمة، تاريخ بعلبك العريق المكتسب من هياكل المدينة العظيمة التي تتعدّى آلاف السنين، حيث تخطّت شهرتها لبنان وتجاوزته إلى العالم، بل في أحيان كثيرة طغت على اسم الوطن والبلاد التي تقع ضمنها.
لقد جعل هذا الأمر بين بعلبك والمناطق المحيطة بها هوّة كبيرة، من حيث وقع الاسم وقوّته ورمزيته ودلالاته، بالرغم من أنّ العديد من المناطق المحيطة ببعلبك، لها أسماؤها وتاريخها وتراثها ووقعها أيضًا، لكنّها لم تستطع مجاراة بعلبك في ذلك، فبقيت قاصرة عن اللحاق بها ومماشاتها، وظلّت المدينة تستحوذ على ذلك الصدى الذي طمس كلّ ما من حوله من أمكنة وحيثيّات.
سبب آخر ساهم في ذلك تاريخيًّا، هو اتّساع المدينة وازدهارها، “حيث كانت الثانية بعد دمشق في بلاد الشام، وأكبر مدن لبنان” بحسب بحث للدكتور عبدالله سعيد والذي نشر في “مناطق نت” تحت عنوان “بعلبك في القرن السادس عشر: أكبر مدن لبنان.. وهذه عائلاتها وأحياؤها”. وأيضًا في بحث آخر للدكتور سعيد يشير إلى الاقتصاد البعلبكيّ في حينه والذي كان مزدهرًا، وكانت معه المدينة تضمّ أسواقًا تجاريّة عديدة، وحركة صناعيّة وزراعيّة، استحوذت فيه على مجمل الحركة في المنطقة والتي كانت تصبّ في المدينة.
للأسباب ذاتها استمرّ وهج بعلبك في السطوع، مع بداية القرن الماضي ومنتصفه حيث اختارها الرئيس كميل شمعون لتكون أيقونة لبنان الفنّيّة، من خلال مهرجاناتها التي ذاع صيتها في أرجاء العالم، وكانت تستقطب كبار الفنّانين والفرق الفنّيّة والاستعراضيّة العالميّة، وهذا عزّز من الفوارق بينها وبين المحيط الذي أهملته الدولة، فكانت بعلبك المدينة، أشبه بجزيرة غنّاء وسط حزام من القرى والبلدات التي يسودها البؤس والحرمان.
“نحنا من بعلبك”
كلّ ذلك جعل أبناء القرى والبلدات المحيطة ببعلبك تلقائيًّا، يعرّفون عن أنفسهم أنّهم من المدينة، فوزًا بذلك الانتماء، الذي يُشعر صاحبه أنّه جزء من الإرث التاريخيّ الغنيّ العظيم. لكن وبالرغم من أنّ سنوات الحرب ألغت تلك الميزة عن بعلبك، شأنها شأن العديد من المناطق الأخرى، حيث ذابت الفوارق بينها وبين ما يحوطها، إلّا أنّ التدليل المكانيّ لا يزال ثابتًا عند أبناء المناطق المحيطة ببعلبك، وربّما يعود ذلك إلى تحوّل تلك الدلالة إلى إرث يتناقله أبناء المناطق المحيطة بالمدينة، جيلًا بعد جيل.
للأسباب ذاتها استمرّ وهج بعلبك في السطوع، مع بداية القرن الماضي ومنتصفه حيث اختارها الرئيس كميل شمعون لتكون أيقونة لبنان الفنّيّة، من خلال مهرجاناتها التي ذاع صيتها في أرجاء العالم.
لكن، هل أنّ اختزال كلّ المناطق المحيطة ببعلبك باسم المدينة، أدّى إلى طمس هوية القرى والبلدات الأخرى؟ وهل لذلك تداعيات سلبيّة أم إيجابيّة لتصدّر بعلبك قمّة الهرم؟ يتحدّث الدكتور بلال نصرالله الأستاذ المحاضر في الجامعة اللبنانيّة الدوليّة في علم الحضارات والتاريخ (وأيضًا رئيس لجنة عوائل بعلبك) لـ”مناطق نت” فيقول: “بعلبك من أعرق المدن التي عرفتها البشريّة بتاريخها، وتعتبر من أقدم المدن وهي أكثر عراقة من أثينا وإسبارطة وروما”. مشيرًا إلى أنّ طغيان اسم بعلبك على محيطها وعلى الوطن ككلّ “إنّما يعود إلى العمق التاريخيّ والزمنيّ لهذه المدينة، وبحسب أخبار المغتربين، فإنّ غالبيّة اللبنانيّين في بلاد الاغتراب يُسألوا عن هياكل بعلبك لمجرد معرفة جنسيّتهم اللبنانيّة”.
يضيف د. نصرالله: “يمكن القول إنّ تجذُّر مدينة بعلبك في التاريخ من جهة، بالإضافة إلى جغرافيّتها من جهة أخرى، هو ما جعلها تتصدّر المشهد البقاعيّ عمومًا”، ويشدّد على أنّ “عمر مدينة بعلبك آلاف السنين، وأيضًا نشأتها ومزجها بين الحضارات، فالأباطرة الذين جاؤوا إلى بعلبك هم من حضارات مختلفة في أوروبّا”، لافتًا إلى “أنّ الامبراطور الألمانيّ غليوم، والذي زار بعلبك في العام 1898، كان لديه أمنية أن يسكن فيها”.
نزوح سلبيّ وإيجابيّ
لعلّ تضافر العوامل الآنفة الذكر، جعل مدينة بعلبك تتصدّر كلّ المداولات الدلاليّة المكانيّة في منطقة البقاع، وغيّبت أسماء الكثير من القرى والبلدات التي لها تاريخها هي الأخرى لصالح اسمها ووحدانيّته، فبحسب د. نصرالله “كلّ شعب يفاخر بتجذّره في التاريخ، ونحن كأبناء مدينة بعلبك نفاخر بالانتماء إليها، وهذا حذو أبناء القرى والبلدات المحيطة”، مبديًا أسفه “أنّنا في الآونة الأخيرة ابتعدنا عن القيم البعلبكيّة، التي رسمت عبر التاريخ صورة مدينة بعلبك تدريجيًّا”.
يضيف نصرالله: “لعلّ السبب من دون جزم، هو نزوح أبناء القرى والبلدات المحيطة القريبة والبعيدة نسبيًّا إلى بعلبك، والذي أخذ شكلين، الأوّل نزوح إيجابيّ لشخصيّات أغنت بعلبك وكانت قيمة مضافة لها، والثاني نزوح آخر للأسف حمل كلّ موبقات البيئة التي ينتمي إليها وأسقطها على بعلبك”. مستدركًا “لكلّ بيئة سلبيّاتها وإيجابيّاتها وحتّى التي تعدّ مثاليّة لا تخلو من الشوائب” معتبرًا “أنّ النزوح الثاني بكلّ سيئاته أوجد منهجيّة عيش جديدة”.
يتابع نصرالله: “من هنا بدأ التفاخر بالانتماء إلى مدينة بعلبك، من قبل العديد من أبناء محافظة بعلبك-الهرمل وذلك لشهرتها واسمها الطاغي، وتحاشيًا لذكر عنوان يظنّه مجهولًا، حيث إنّ العديد من القرى والبلدات البقاعيّة غير معروفة لدى العامة، وقد تكون تسمياتها أحيانًا غريبة وغير مألوفة”.
ومن جهة ثانية، يؤكد نصرالله أنّ “التفاوت بين المجتمع المدنيّ الذي يتمثّل بمدينة بعلبك والمجتمع القرويّ في البلدات المحيطة كبير، وهناك من يتعاطى مع ذلك بردّة فعل تشبه الغبن تجاه هذه المجتمعات، وهذا الموضوع مثبت قرآنيًّا، فالخطاب الأوّل دعا إلى تحويل الذهنيّة القبليّة إلى ذهنيّة مدنيّة لها القابلية لحمل رسالة من جهة، وقابليّة العطاء اللامتناهي من جهة ثانية”.
جوار يدفع الثمن
لعلّ التهميش المتعمّد من قبل الدولة على مدى عشرات السنين للقرى والبلدات التي تقع في محيط بعلبك، هو السبب في دفع كثيرين من أبنائها للتعريف عنها بأنّها جارة بعلبك أو جارة جارتها، وهنا يرى نصرالله أنّ “عملية التهميش هذه ليست مدينة بعلبك هي المسؤولة عنها”، موضحًا “أنّ معظم جوانبها نفسيّة”، على الرغم من اعتباره “شهرة بعلبك “المدينة” أكبر من أبناء المدينة نفسها”. ويوضح “أنّ التعريف بأيّ قرية أو بلدة هي مهمّة تقع على عاتق أبنائها للبحث عن جوانب حضاريّة وإنجازات ترفع اسم هذه القرى، والسعي الدائم إلى التعريف بها وعدم اللجوء إلى استخدام بعلبك وشهرتها”.
يزيد الإعلام “الطين بلة”، حيث يساهم من خلال عنونة المقالات والأخبار المتعلّقة بالمحافظة كافة، بأنّها في بعلبك، كأخبار الجرائم والمداهمات والأحداث الأمنيّة والاعتداءات، والتي غالبًا ما تجري في قرى وبلدات بعيدة عن بعلبك المدينة جغرافيًّا، ومحدودة من حيث العدد.
في هذا السياق يجد نصرالله “أنّ الإعلام سلك مسارين اثنين، الأوّل، تعاطى بواقعيّة مع بعلبك كمدينة ومع القرى المحيطة بها، واتّخذ دوره التحفيزيّ والإرشاديّ معبّرًا بإنصاف، والثاني اتّخذ مسارًا سلبيًّا تنميطيًّا، جعل من محافظة بعلبك- الهرمل كلّها مدينة واحدة، أبناؤها خارجون على القانون”.
هي هكذا عواصم المناطق والأقضية والمحافظات تسرق وهج كلّ ما يحوطها من بلدات وقرى قد تتجاوزها بالمساحة وعديد سكّانها وتراثها وحتّى في الحركة الثقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة، من صيدا إلى صور والنبطية وطرابلس وجونية وغيرها، إلّا أنّ هذه اللمعة “فاقعة” جدًّا في بعلبك التي لم تمسح قرى الجوار والقضاء والمحافظة والمنطقة بأكملها، بل كادت تختزل الوطن باسمها، وهذا يعود إلى الأسباب جميعها التي أورناها آنفًا، “وربّما إلى حظّها” كما يحلو لبعض أبناء المدينة التغنّي بهذا الحظّ.