مساكب التبغ في المنطقة الحدوديّة بانتظار الحقول وهدوء المدافع

“يا سعدى خيرا بغيرا”، هو لسان حال مزارعي القرى الحدوديّة. فوصف التبغ بـ”شتلة الصمود” صار شعارًا حقيقيًّا عند زارعيها، إذ “مجبر أخوك لا بطل”. يعيش مزارعو التبغ اليوم، بين نارين، نار القصف الإسرائيليّ الذي لا يهدأ ليل نهار، ونار لقمة العيش المرّة. والمساكب التي من خلالها تغدو البذور شتلات تُزرع في الحقول جُهّزت، لكنّ معظم الأراضي غير جاهزة حتّى الساعة للزرع، فالمنطقة الحدودية باتت كرة نار مشتعلة، أو قنبلة جاهزة للانفجار في أيّ لحظة.

التوجّه جنوبًا، والوجهة الأساسيّة بلدة رميش الحدوديّة، المعروفة بتاريخها الطويل وباعها مع شتلة التبغ. إنّما حال اليوم لا يشبه بصعوبته أيّ حال آخر، من جائحة “كورونا” والأزمة الاقتصادية، وصولًا إلى الحرب الدائرة على الأرض، يبقى التحدّي الذي يواجهه المزارعون وهو الأصعب هذا الموسم.

تكاد تتطابق أجوبة المزاعين لدى سؤالهم عن خططهم تجاه المستقبل القريب، فلسان حالهم واحد “كلّ شيء مجهول حتّى الساعة، والاستمراريّة رهينة الوضع الأمني القائم”.

مشاتل التبغ في بلدة رميش الحدودية
المساكب جهّزت والحقول تنتظر!

تقع معظم الأراضي الزراعيّة في رميش على الخطّ الحدوديّ المواجه لفلسطين المحتلّة. هذا الأمر يجعل من عملية زراعة الحقول أصعب ممّا كانت عليه في أيّ وقت من الأوقات، فهل يعرّض المرء نفسه للخطر المرّ مقابل لقمة مرّة؟ من يسمع هذا السؤال ربّما يعتبر أنّ هذا هو الجنون بحدّ عينه، لكن لا حلول أخرى أمام المزارعين.

“نحن فلّاحون، لا نملك شيئًا آخر، فماذا نفعل؟”، عبارة بصيغة سؤال يردّدها الجميع، العبارة ذاتها مشوبة باليأس. في حديث لـ”مناطق نت” يشير فرنسوا العَمِيل، وهو أحد مزارعي بلدة رميش الحدوديّة، إلى أنّه جهّز المشاتل، “لكنّ أرضي الواقعة على الخطّ الحدوديّ لن أستطيع زراعتها، وسأكتفي فقط بتلك التي تقع في الداخل وفي النطاق الخلفيّ للقرية”.

ويضيف العميل: “نعتاش من زراعة التبغ والقمح وبعض الزراعات الأخرى، لنؤمّن حاجاتنا الأساسيّة من الطعام والتدفئة فقط لا غير”. ويؤكّد أنّ الوضع الراهن أثّر علينا بشكل كبير، فأنا أملك بستانًا من الزيتون على الخطّ الحدوديّ لم أستطع قطفه، ما أدّى إلى خسارتي للموسم كلّه”.

تقع معظم الأراضي الزراعيّة في رميش على الخطّ الحدوديّ المواجه لفلسطين المحتلّة. هذا الأمر يجعل من عملية زراعة الحقول أصعب ممّا كانت عليه في أيّ وقت من الأوقات.

على الخطى نفسها، يمشي المزارع طوني العلم ابن الستّين عامًا. يأسف كونه لغاية الآن “لم تتوافر لنا حتّى فرصة حراثة الأرض، إذ إنّها تقع على خط المواجهة”. ويلفت في حديث لـ”مناطق نت” إلى أنّه “إذا استمرّ الوضع على حاله، فلن تعود حراثة الأرض ولا تسميدها مجدية، لأنّ ذلك يخضع لأوقات محدّدة، وقد شارفت على الانتهاء”.

في السياق ذاته، أعلنت إدارة “الريجي” في وقت سابق عن “مبادرة إنقاذيّة” تقوم على تجهيز المشاتل بالبذور في أراضٍ تابعة لها، حيث تعتزم توزيع الشتول فور بلوغها “سنّ” الزرع على مزارعي التبغ من أبناء المناطق الحدوديّة، وذلك لعدم تمكّنهم من تجهيز مشاتلهم في الوقت المناسب، والذي يمتدّ من كانون الأول/ ديسمبر إلى شباط/ فبراير، بسبب الأوضاع الأمنيّة الراهنة.

إلّا أنّه يبقى السؤال كيف ستزرع الحقول بتلك الشتول، إذا بقيت تلك الأراضي تحت النيران الإسرائيلية؟ ولم ينسَ أحدٌ بعد كيف كانت قوات الاحتلال ترهب المزارعين على الخطّ الحدوديّ في أيّام السلم، فكيف في أيّام الحرب؟

منهم من بدأ ومنهم من ينتظر

بدأ مزارعو رميش بزراعة أراضيهم التي تقع ضمن نطاق البلدة، إلّا أنّ إمكانيّة “القطيفة” عندما يحين أوانها ليست محسومة، فكلّ شيء يبقى رهن تطوّر الأوضاع جنوبًا، والتي لا تبشّر بالخير، حيث يقع المزارعون تحت نار الأسعار التي تكويهم من جهة، ونيران العدوان التي تحرق مواسمهم من كلّ حدب وصوب. وهم يتنقّلون بحيرة مطلقة إمّا بين خطر الوضع الأمنيّ الساري منذ أكثر من أربعة أشهر، أو خطر فقدان لقمة العيش الوحيدة، والجهات المعنيّة لا تحرّك ساكنًا، وهم لا يتلقّون إلّا الوعود تلو الوعود.

يقول يوسف العلم في حديث لـ”مناطق نت”: “إنّني ومنذ صغري نشأت وأنا أقلّب أوراق التبغ بين يديّ ومستمرّ حتّى اليوم، حيث قاربت الخمسين من العمر”. ينتظر يوسف العلم “خبرًا يبشّر بانتهاء الحرب، فأركض صوب أرضي التي تقع على الخطوط الأماميّة، فأمسّد جراحها وأقلّبها وأزرعها تبغًا وحبًّا”.

“ما في حلّ تاني”، يصف الحال كما هو ويستمرّ: “مجبرون على الانتظار وحياكة الأمل، فتلك الأرض أرضنا ولا نملك سواها”. ويشير في حديثه إلى “أنّني خسرت الكثير من رزقي على مدى الأيّام الماضية، فأنا عدا عن الزراعة أربّي المواشي، وفقدت أكثر من نصفها جراء القنابل الفسفوريّة والقصف المتواصل”.

يؤكّد هؤلاء المزارعون أنّهم لا يزرعون الشتلة المرّة طمعًا بثراء وثروة، هم يزرعون فقط كي يأكلوا وعيالهم، وحتّى المدارس لم تعد تكفيها عائدات التبغ.

النقابة تتابع الأوضاع

ربما لم يبق لهؤلاء المزارعين الجنوبيّين سوى نقابتهم، لعلّها ترفع صوتهم قليلًا، برغم أصوات الاعتداءات. وفي هذا السياق يشير رئيس اتّحاد نقابات العاملين في زراعة التبغ والتنباك ونائب رئيس الاتّحاد العماليّ العام حسن فقيه في اتصال مع “مناطق نت” إلى “أنّ معظم مزارعي الجنوب اليوم نازحون، والأراضي تحتاج للحرث بين أربع أو خمس مرات، وهذا غير ممكن في ظلّ الوضع الراهن، ما يؤكّد أنّ الموسم على طريق الفشل، بالرغم من وجود الشتول، وقد طلبت النقابة من المزارعين في القرى والبلدات الخلفيّة زيادة عدد الشتول بغية توزيعها لاحقًا على الأهالي المنكوبين”. إلا أنّه وكما هو واضح، “ربما لن تبقى أيّ قرية خلفيّة، فالاعتداءات الاسرائيليّة باتت تشمل مناطق بعيدة نسبيًّا عن الحدود وقرى المواجهة”.

أمّا عن الاجراءات التي تعمل عليها النقابة، فيلفت إلى “أنّ النقابة على تواصل مع الجهات المعنيّة، ونحن بصدد البحث مع الحكومة اللبنانيّة في موضوع التعويض على المزارعين بقيمة محاصيلهم. لا يمكن أبدًا ترك المزارعين إلى قدرهم عند انتهاء الحرب، فمعظمهم يعتمد على العائدات التي يجنيها كي يستمرّ ويعيش حتّى الموسم التالي، وإلّا ستقع على رؤوسهم سقوف ما هو أدنى من خطّ الفقر”.

ويشير فقيه إلى “أنّ في رميش لوحدها هناك نحو ألف رخصة يستغلّها المزارعون، وعدد كبير من سكّان البلدة ما زالوا يزاولون هذه الزراعة الشاقّة، لذا لا يمكن تركهم إلى أقدارهم”.

فقيه: في رميش لوحدها هناك نحو ألف رخصة يستغلّها المزارعون، وعدد كبير من سكّان البلدة ما زالوا يزاولون هذه الزراعة الشاقّة، لذا لا يمكن تركهم إلى أقدارهم

تطال مرارة معاناة مزارعي التبغ من عيتا الشعب، إلى رميش ودبل وعين إبل وعيترون وبليدا وغيرها من البلدات والقرى التي تشكّل العمود الفقريّ لزراعة التبغ جنوبًا؛ يبلغ عدد مزارعي التبغ الجنوبيين 17 ألف عائلة، ومساحة الأراضي المزروعة تبغًا نحو 5 ملايين و500 ألف متر مربع، وهي في خلال الأسابيع القليلة القادمة على محكّ الاستمرار أو ضياع موسم السنة.

تمرّ زراعة شتلة التبغ بمراحل طويلة، وتستمرّ على مدى أشهر السنة كلّها ويدخل الموسم في الموسم نحو شهرين إضافيّين. فالتبغ موسمه 14 شهرًا ولقمته مرّة، هذا لسان حال مزارعي التبغ جميعهم. فالعمل في الموسم يظل متواصلاً طوال السنة، وقبل أن يبدأ تسليم الموسم إلى الريجي يكون العمل في الموسم التالي قد انطلق على قدم وساق.

تبدأ المراحل الأولى لموسم التبغ بإعداد المشاتل بين كانون الأول/ ديسمبر وشباط/ فبراير، مع ما تتطلّبه من عناية وأسمدة وأدوية، لتنطلق في شهر آذار/ مارس ورشة نقل النبتة من المشاتل وغرسها في الأرض، ما يقتضي توافر يد عاملة تقوم بزراعة الشتول واحدة واحدة بعد إعداد الأرض بشكل ملائم. ومع شهر أيار/مايو وما يليه تنطلق عمليّة القطاف وما تتبعها من مراحل صعبة يتكبّدها المزارع ليكون موسمه جاهزًا للتسليم إلى الريجي مقابل سعر خمسة دولارات أميركيّة للكيلوغرام الواحد، على ألّا يتعدّى محصول دونم الرخصة مئة كيلوغرام.

تغنّت مئات القصائد بشتلة التبغ، بمرارتها وصمودها وتعبها. لكن اليوم لا تريد هذه الشتلة سوى العدل، من أصحاب الشأن. قسريّة هي الحرب على الجنوب، لكن التعويض على هؤلاء المزارعين إلزامي لا مفرّ منه، وإلّا كيف سيصمدون من دون ثمن الخبز والملح، ومن دون ثمن الورقة والقلم؟ لطالما حقّقت إدارة الريجي الأرباح الكثيرة من تعب المزارعين وضنى أجسادهم، فهل ستردّ لهم اليوم بعضًا من الجميل جزاء اما قدّموه وتعويضًا عمّا لا ذنب لهم به؟ سؤال ينتظر الإجابة. وحدها إجابة واضحة تبقى برغم كلّ الغموض الذي يسود: “إذا واقف جنوب واقف بولاده” فقط لا غير.

مشهد عام لزراعة التبغ في بلدة رميش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى