مؤتمر وادي الحجير.. من تاريخ جبل عامل الضائع
كتب المؤرّخ كمال الصليبي “بيت بمنازل كثيرة: الكيان اللبناني بين التصّور والواقع” (1988)، ليشير لانقسام الرؤية حول ركائزه. كما أبدع أحمد بيضون في كلامه عن “الصراع على تاريخ لبنان” (1989)، وشمل الخلاف التأريخ لوقائع جبل عامل، بحسب الهوى والموقع الفكرويّ.
وأيّ حدث بعينه، يكون موضع تجاذب واختلاف في سرده وبيان حاله، باختلاف غايات الناظرين إليه، وأفكارهم القارّة في وعيهم ولا وعيهم. وكما عبّر منذر جابر (1979)، نزيل بنت جبيل: “فالتاريخ في جبل عامل ما زال ختياراً له لحيـة بيضاء يروي أخباراً متناقلة عن الماضي، ومجموعة من الذكريات غير البعيدة في الزمن، والمحفوظة في صدور أقلّيّة من الناس تردّد ما يخطر لها منه في حلقات ومجالس ضيّقة، وما زال تسلية مثقّفين، دينيّين على الأغلب، لا شاغلاً جماعيّاً أو تراثاً شعبيّاً لجماعة تجد فيه صوراً لنفسها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً”.
في مبرّرات انعقاده
ومناط قولنا هنا عن مؤتمر وادي الحجير، المنعقد في تلك البقعة الجغرافيّة من الجبل (بين مرجعيون وبنت جبيل والنبطية) نهار السبت في 24 نيسان من العام 1920، بدعوة من كبير القوم آنذاك، كامل بك الأسعد (1870- 1924)، زعيم البلاد، ومن السيّد عبد الحسين شرف الدين (1872- 1957) المرجع الدينيّ الكبير. وذلك للعامليّين من وجهاء وعامّة، للتشاور وإبداء الرأي، بحضور قادة المسلّحين المقاومين للإنتداب الفرنسيّ (في صيغة أولى)، والإحتلال الفرنسيّ (في صيغة أخرى): أدهم خنجر وصادق حمزة ومحمود أحمد البزّي، المتّهمين بتشكيل عصابات وإثارة القلاقل. والهدف من الاجتماع العامّ هذا كان أخذ موقف واضح من الفرنسيّين ووجودهم، ومن الدخول في مشروع سوريّا الكبرى، كما الموقف من الأعمال المخلّة بأمن واستقرار الجبل.
وقد تعدّدت الروايات يومها حول المؤتمر، وما جرى التداول فيه وحول مقرّراته، لما لها من تداعيات على العامليّين وعلى الكيان اللبنانيّ بعامّة، واستمر الجدال التاريخيّ حوله. وقد جمعت “مدوّنة جبل عامل” بعضاً من هذه الروايات المختلفة، من دون إبداء رأي أو التعليق عليها.
أكثر من رواية
يعرض العلّامة السيّد عبد الحسين شرف، في كتابه “بغية الراغبين”، روايته عن مؤتمر وادي الحجير فيقول: “إنه بعد ورود رسُل العشائر العربيّة لكامل الأسعد تطلب منه الإنضمام للثورة المرتقبة، استمهل كامل بك عشائر الفضل للتباحث مع العلماء والزعماء.
فعقد المؤتمر في اليوم الموعود، وكان الوادي يضيق بالرايات، ويضجّ بالهتافات، ويدويّ بالمفرقعات. وقد خلص المؤتمر إلى تفويض السيّد عبد الحسين شرف الدين والسيّد عبد الحسين نور الدين، والسيد محسن الأمين ( المُقيم بدمشق) بالتداول مع الملك فيصل في مصير الجبل، وكُتبت وثيقة بذلك وقّعها المؤتمرون”.
وبعدها خطب السيّد عبد الحسين خطبة، توقّف فيها عند الفوضى الدائرة، وأحضر زعماء الثوّار (صادق وأدهم ومحمود البزّي) وهدّدهم بأن يكفّوا عمّا هم فيه! وإلّا فالعقوبة والمطاردة والمصادرة!.
أمّا سليمان ظاهر، في مؤلّفه “صفحات من تاريخ جبل عامل”، فقدّر أنّ حضور الثوار المؤتمر أتى بغرض أخذ التعهّد من الحاضرين بعدم التعرّض للوطنيّين. وقد حاول كبير علماء جبل عامل الشيخ حسين مغنيّة التوسّط لدى الثوّار لوقف أعمالهم، لكنّهم تجاهلوا نصيحته ورفضوا مقابلته.
أمّا السيّد حسن محسن الأمين، الذي حضر وكان فتى برفقة عمّه السيد عبد الحسين محمود الأمين وبعض من أبناء عمومته، فله رأي آخر ومختلف في المؤتمر المذكور وحيثيّات انعقاده. إذ يرى في مؤلّفه “سراب الإستقلال في بلاد الشام 1918 – 1920″، (1998)، “إنّ ما يُسمّى مؤتمر وادي الحجير لا يعدو كونه اجتماعاً ليس إلّا، وإنّ دور رجال الدين فيه لا يعدو دور أيّ جماعة من الذين حضروا ذاك الإجتماع”.
والقصّة كما يرويها، هي أنّ “كامل الأسعد (الجدّ) دعا أهل الحلّ والعقد إلى لقاء على نبع الحجير، وذلك للنظر في دعوة أحمد المريود وسعيد العاص للعامليّين من أجل الإنضمام إلى الثورة المزمع إطلاقها ضدّ الفرنسيّين. وقد حضر بعض رجال الدين، وكان شأنهم شأن باقي الحاضرين من الأفنديّة والبكوات”.
بعض المقرّرات
وقد تقرّر إرسال رسالة موقّعة من الأعيان، بتأييد استقلال سوريّا وضمّ جبل عامل إليها، وإعلان فيصل ملكاً، على أن يتمتّع الجبل بنوع من اللامركزيّة الإداريّة، كما تقرّر استشارة فيصل بشأن الإنضمام للثورة من عدمه.
أمّا المؤرّخ محمّد جابر آل صفا، فيروي في “تاريخ جبل عامل” (1998) أحداث مؤتمر وادي الحجير فيقول: “إنّه لمّا استفحل أمر الثوّار واشتدّ استياء العقلاء من هذا الحال، دعا كامل الأسعد إلى مؤتمر حضره الأعيان والعلماء والمفكّرون، وكان برئاسته. وكلّف المؤتمرون كلّ من السّادة: أحمد رضا، وسليمان ضاهر، ومحمّد جابر صفا، وإسماعيل الخليل والشيخ عزّ الدين علي عزّ الدين كتابة مقرّرات المؤتمر.
ويمكن تلخيص مقرّراته، في: الوحدة مع سوريا، والمناداة بفيصل ملكاً، ورفض الإنتداب الفرنسيّ. ومن ثمّ كلّف المؤتمر السيد عبد الحسين شرف الدين والسيد عبد الحسين نور الدين حمل مقرّرات المؤتمر إلى حكومة دمشق.
أهمّيّة المؤتمر
إنّ أهمّيّة المؤتمر، في زعم الباحثة، تمارا شلبي، كاتبة “شيعة جبل عامل ونشوء الدولة اللبنانيّة (1918 – 1943)”، (2010)، تنبع من محاولته تحديد العلاقة بين العامليّين والفرنسيّين في سنوات الإنتداب الأولى، وقد كان “حدثاً إشكاليّاً لخطاب الشيعة السياسيّ والتاريخيّ”، ظهر فيه نفوذ الزعماء العامليّين. والأبرز، في رأيها، أنّ الشيعة ميّزوا أنفسهم عن الهيئة الإسلاميّة العامّة في اجتماعهم “كجماعة طائفيّة بحتة”، تقدّمت بولائها من فيصل بن الحسين.
إنّ أهمّيّة المؤتمر تنبع من محاولته تحديد العلاقة بين العامليّين والفرنسيّين في سنوات الإنتداب الأولى، وقد كان حدثاً إشكاليّاً لخطاب الشيعة السياسيّ والتاريخيّ.
ومع اختفاء أو فقدان محضر اللقاء، وما جرى لاحقاً للتخفيف من آثاره، بدا أنّ هناك جهداً عامليّاً لإعادة كتابة تاريخ هذا الاجتماع، منعاً للحساسيّات الطائفيّة وحرصاً على تاريخ جماعة وطنيّة انضوت تحت لواء لبنان الكبير.
أسباب الفشل
قد يكون الدكتور منذر جابر، أوّل من درس مؤتمر وادي الحجير، دراسة أكّاديميّة، في رسالة علميّة نال بعدها شهادة الكفاءة في التاريخ من كلّيّة التربية (الجامعة اللبنانيّة) في العام الدراسيّ 1972 – 1973 بتفوّق، وأعاد طبعها راهناً في نسخة أولى أعمل فيها الناشر مشرطه، بما لا يرضي الكاتب، فأعاد هذا الأخير إصدارها بتمامها تحت عنوان “مؤتمر وادي الحجير وآثاره” (2023).
وميّزة هذا البحث أنّه، وفي غياب كامل الوثائق الخاصّة بمجريات الاجتماع، لجأ إلى لملمة بعض الوقائع من ذاكرة بعض المشاركين الأحياء حينها، لملء الفراغات التي سكت عنها بعض المؤرّخين العامليّين قصداً. ومن كتب لاحقاً عن الموضوع، كان مصدره الشهادات التي جمعها الدكتور جابر. وتابع الباحث جهده فدرس “السلطة في جبل عامل (1749- 1920)” (بالفرنسيّة) ونال من خلالها شهادة الدكتوراه، فكان له بذلك الباع الطويل في التورخة لجبل عامل.
يطرح جابر، في كتابه، تساؤلاً عن قرارات المؤتمر وكيفيّة أخذها: بالأكثريّة أم بالإجماع؟ وبغضّ النظر عن هذه الكيفيّة، فالثابت أنّ جوّ الخلاف كان سائداً، ولا سيّما بين زعيم البلاد وقادة المسلّحين، والجوّ الآخر هو الحماسة الفائقة الآخذة بلبّ الحشود المؤيّدة لصادق وخنجر، ما انعكس على المقرّرات التي أخذت. ومن الملاحظات التي يسجلها المؤرّخ على المؤتمر، اكتسابه الهويّة الشيعيّة لا العامليّة، ما اعتبره نقطة ضعف.
وفي خلاصة عامة يُقرّ الدكتور جابر أنّ المؤتمر “لم يكن إلّا رافداً صغيراً من الحركة العربيّة آنذاك”، وفشل مقررّاته مرتبط أيضاً بمسّار الحركة العربيّة المنحدر. من دون أن ننسى وطأة الحملة الفرنسيّة بقيادة الجنرال نيجر العام 1920، وتداعياتها الكارثيّة على العامليّين. كما يرى أنّ المقرّرات لم تكن “ترجمة صحيحة لحقيقة المواقف الوطنيّة عند المؤتمرين، بقدر ما كانت مسايّرة للشعور العامّ، والإندفاع الشديد عند الجماهير”.
وقد بيّنت الحوادث الطائفيّة بعد انفضاض المؤتمر (الهجوم على قرية عين إبل المسيحيّة) “سطحيّة” هذه المقرّرات. وفي ميزان الربح والخسّارة، يقول منذر جابر: “إنّ الخاسر من فشل المؤتمر كان عامّة العامليين، إذ استعاد الإقطاع في عهد الإنتداب الإمتيازات والمكاسب التي كان يتمتّع بها سابقاً”.