متخرجو الأطراف ودوّامة البحث عن العمل وسط ضياع الأمل
يرزح اللبنانيّ تحت أكوام المشاكل، يُولد مع متلازمة أبديّة “البلد ع كفّ عفريت” لكن لا الموت الرحيم تمّ ولا موعد الشفاء تقرّر.
إنّ أبرز ضحايا مشاكل لبنان هم الشباب، خصوصًا شباب الأطراف والأرياف، يتخرّجون آملين بمستقبل زاهر رسموه بمخيّلاتهم الورديّة، لكنّ الواقع يصدمهم بين البطالة أو العمل بأجر زهيد وبطالة مُقنّعة، المحظيّ منهم من تُفتح له أبواب الهجرة والسفر.
يقول الباحث في الدوليّة للمعلومات مُحمّد شمس الدين في حديث لـ”مناطق نت”: “يدخل سوق العمل في لبنان سنويًّا 37 ألف متخرّج هم من الفئات الشابّة، لكن مع الأسف، اليوم سوق العمل مُشبع، وهناك صرف للعمّال ولا يُوجد توظيف إلّا في مجالات محدودة جدًّا، الوظائف التي يُؤمّنها القطاع الخاصّ وبعض الإدارات الحكوميّة لا تزيد على خمسة آلاف وظيفة، ما يعني أنّ 32 ألفًا من المتخرّجين تدركهم البطالة”.
إنّ أبرز ضحايا مشاكل لبنان هم الشباب، خصوصًا شباب الأطراف والأرياف، يتخرّجون آملين بمستقبل زاهر رسموه بمخيّلاتهم الورديّة، لكنّ الواقع يصدمهم بين البطالة أو العمل بأجر زهيد وبطالة مُقنّعة
يتابع شمس الدين: “تسعى غالبيّة المتخرّجين إلى الهجرة والسفر، ما يُخفّض نسبة البطالة بشكل كبير. نحن نعلم أنّ 180 ألف لبنانيّ سافروا وهاجروا العام الماضي، هناك نسبة70 بالمئة من الشباب المتخرّجين العاملين هم من سافروا للعمل، لقد ساهم السفر والهجرة في خفض نسبة البطالة في صفوف الشباب اللبنانيين التي تصل إلى 38 بالمئة وهي نسبة عالية بالتأكيد”.
تناقض المناهج وسوق العمل
من أسباب البطالة أيضًا، يضيف شمس الدين: “إضافة إلى الرُكود الاقتصاديّ الذي يعيشه لبنان ويُقلص فرص العمل، هناك عدم مواءمة وتطابق بين المناهج التعليميّة وبين سوق العمل، اليوم هناك اختصاصات في سوق العمل مُشبعّة سواء في لبنان أو في المنطقة. الطالب الذي يُقدم على دراسة أحدها حُكما يعرف أنّ هناك احتمال كبير، وكبير جدًّا، أن يكون عاطلًا عن العمل، أعداد المهندسين هناك فائض، أعداد المُدرّسين هناك فائض، لا سيما مُدرّسي اللغات والتاريخ والجغرافيا والآداب”.
يختم شمس الدين: “يجب القيام بتوجيه مهنيّ كي نصوّب الطلاب نحو حاجات سوق العمل، وكي يجدوا فرص عمل بعد التخرّج، الوضع الاقتصاديّ السيّء في البلد مسؤول بالتأكيد، لكن انعدام التوجيه مسؤول أكثر”.
نقص فيتامين الواسطة
ضياء الأطرش شابة تخرجت من كلّيّة الصيدلة في الجامعة اللبنانيّة الدوليّة LIU العام 2022، انتسبت إلى نقابة الصيادلة العام 2023، تقول في حديث لـ”مناطق نت”: في البداية كان هدفي كلّيّة الطبّ، لكن تعذّر ذلك في حينه لأسباب خارج إرادتي، فكانت كلّيّة الصيدلة الخيار البديل، تخرّجت منذ سنتين وانتسبت للنقابة، فرص العمل شبه معدومة، المُتوافر منها في شركات الدواء أو في الصيدليّات بدله زهيد جدًّا قياسًا على المجهود”.
وتضيف: “إذا أردت فتح صيدليتي الخاصّة فأنا بحاجة لـ 20 ألف دولار أميركي لكي أبدأ، علمًا أنّ سوق الدواء في بلدتنا ضيّق جدًّا بسبب تقديمات المستوصفات والمراكز الصحّيّة للاجئين السوريّين”
تتابع الأطرش “معظم الشباب المتخرجين العاطلين عن العمل في بلدتنا أو منطقتنا لا يعانون من نقص في الكفاءة العلميّة والخبرة، للأسف يعانون من نقص في “فيتامين الواسطة”، ففي لبنان كلّنا نعرف معايير التوظيف، مثال بسيط: طلبت منذ مدّة إحدى الجمعيّات الطبّيّة الدوليّة عبر الدليل وظيفة صيدليّ قانونيّ بشرط الانتساب إلى النقابة وفي النهاية قامت بتوظيف ممرّض”.
فقدان الأمل بالوطن
حول الخيارات المتاحة حاليًّا تقول ضياء: “عُدت إلى الجامعة والدراسة، وسوف أتخرج هذا العام باختصاص التغذية، ربّما يُشكّل خيارًا بديلًا في العمل، لكنّني فعليًّا فقدت الأمل بهذا البلد، مثل معظم شبابه ممّن يدرسون ويتعبون بلا جدوى. تقدمت بطلب للدارسة والعمل في فرنسا منذ سنتين لكن الحظّ لم يحالفني، وحاليًّا أترقّب أيّ فرصة للسفر والهجرة، يبدو أن معاناتنا في هذا البلد طويلة وشاقّة”.
تختم الأطرش فتقول: “ظننّا أنّ الشهادة الجامعيّة درعًا لصاحبها تقيه خطر البطالة، حتّى لو تجاوزنا البعد المادّيّ لطلب الحصول على وظيفة، لكن المسألة أصبحت أخلاقيّة بالأساس، تجري رياح الواقع الذي نعيشه بما لا تشتهيه سفن حملة الشهادات الجامعيّة، اذ تُغرقنا البطالة، تدمّر أحلامنا وطموحاتنا، تحجز لنا تذكرة المغادرة بعد أن خلّفت فينا ندوبًا نفسيّة، أصابتنا بالإحباط والقلق والضياع في ظلّ غياب الرؤى المستقبليّة”.
أزمة سكن ومواصلات
لا تقف مشكلة البطالة عند حدود المناطق البعيدة، فمن يحصل على وظيفة في بيروت أو منطقة بعيدة يعاني من أزمة السكن والتنقّل والمواصلات.
روان سكّريّة ابنة بلدة الفاكهة البقاعيّة، صبيةّ في مقتبل العمر، أتمّت دراستها في الجامعة اللبنانية العام 2020، كلّيّة الآداب متخصّصة في هندسة اللغات والتواصل.
تقول في حديث لـ “مناطق نت”: “إنّ فرص العمل بشكل عام ضئيلة جدًّا، خصوصًا في منطقتنا، نظرًا لاهتراء معظم القطاعات الاقتصاديّة على مستوى لبنان والمنطقة”. وتضيف: “بعد إتمام دراستي عملت مدّة في جمعيّة لتدريس الطلّاب السوريّين، بعدها عملت في بيروت في التسويق والمبيعات، لكن كان ذلك بمثابة تعبئة وقت، فالبدل ضئيل ولا يكفي مصروفًا شخصيًّا، عدا السكن والمواصلات وغيرها”.
تتابع سكّريّة: “أنا مثل جميع الشباب اللبنانيّ، تعلّمت لأعمل وليس لأضع شهادتي على الحائط، لكن الواقع صعبٌ للأسف، السفر والهجرة طموح الأغلبية، إلى جانب العمل نكتسب مهارات وخبرات متنوّعة، نتعرّف على شعوب وثقافات جديدة، نحن في عصر الميديا والتواصل، لكنّ أملنا الأوّل والأخير هو العيش في بلدنا، بعد عودة الهدوء والأمان إلى ربوعه، فنعيش حياة حرّة كريمة هادئة”.
البطالة المُقنّعة
تكون البطالة أحيانًا مستترة أو مُقنّعة، ظاهرها عمل وإنتاج لكنّها في غير مهنة الشابة أو الشاب واختصاصهما.
صلاح الرفاعي ابن السادسة والعشرين عامًا، متخرّج من كلّيّة إدارة الأعمال في العام 2022 يقول لـ”مناطق نت”: “فُرص العمل ضمن اختصاصي شبه معدومة في لبنان أو ربّما معدومة كليًّا. بعد تخرُّجي عملت في محمصة بُزورات، ثمّ مع جمعيّة تعليم طلّاب سوريّين عدّة أشهر، بعدها عملت في معمل بلاستيك، وحاليًّا أحاول القيام بأعمال تجارة خاصّة “لكن عقدة” لأنّني بحاجة لرأس مال، البلد منهار، كلّ الناس تعيش كل يوم بيوم ولا نعرف ما سيحصل غدًا”.
يتابع الرفاعي: “المشكلة ليست في اختصاصي فقط، بل هي مشكلة عامة. تخرجت أختي قبلي بسنتين في هندسة الديكور وفرص العمل المتوافرة لها “ما بتجيب همّها”، نحن نعيش أزمة بلد خانقة، صحيح أنّ جيلنا أكثر من يدفع ثمنها، لكنّها أزمة عامّة، حتّى الهجرة أو السفر ليس بالسهولة المتوقّعة ولا هو مضمون النجاح، كلنا نسمع ونقرأ عن أزمة الهجرة والمهاجرين عالميًّا، يبقى الأمل “إنو يصير عنّا دولة متل خلق الله” وعندها كلّ المشاكل تزول”.
ثورة المناهج
لكل مشكلة أسباب عديدة وأوجه حلّها عديدة كذلك، صحيح أنّ إهتراء الاقتصاد اللبنانيّ من أسباب البطالة المتفشيّة، لكنّ غياب التوجيه المهنيّ والمعرفة العلميّة بأحوال سوق العمل من الأسباب الأساسيّة أيضًا.
يطالب الباحث الأكّاديميّ والأستاذ في الجامعة اللبنانية– كلّيّة العلوم الاجتماعية الدكتور مُحسن الموسوي بإحداث ثورة في المناهج الدراسيّة الأكّاديميّة والمهنيّة. يقول في حديث لـ”مناطق نت”: “لا بدّ من تعديل المناهج التربويّة بما يتلاءم مع الواقع الذي نعيشه اليوم، فالمناهج القديمة سبقها الزمن ولا تتناسب مع الحداثة والتطوّر في العالم. هذه الإجراءات سلسلة مترابطة تبدأ بالتنسيق بين المدرسة وأجهزة وزارة التربية وصولًا إلى التعليم العالي”.
يؤكّد الموسويّ: “يجب أن يُشكّل تحديث القطاع التربويّ أولويّة أساسيّة عند الدولة وأصحاب القرار، لأنّ تحديث المناهج يُوجب إعداد وتأهيل الكادر التعليميّ القادر على إنتاج نُخب وكفاءات علميّة بناءً على حاجة سوق العمل، يجب إحداث ثورة تربوية في بلدنا تُشكّل حلًّا للمشاكل كلّها على الصُعد جميعها، الاقتصاديّة والماليّة والسياسيّة والصحّيّة وسواها”.
في المحصّلة يدفع اللبنانيّ وخصوصًا الشباب في الأطراف والأماكن النائية ثمن غياب الرؤى والخطط التنمويّة الإنمائيّة لدى طبقة سياسيّة فاشلة، طبقة لا همّ لها سوى تأبيد نفسها على الكراسي، فيما يد العوز والفقر والمعاناة تطرق باب كلّ بيت لبنانيّ.