متغيّرات شكلانيّة في شهر الروحانيّة رمضان

لم ينجُ شهر رمضان من موجات التحديث التي اجتاحت تقاليدنا ومناسباتنا، ليصبح في كثير من تفاصيله مشهديًّا بامتياز، مزيجًا من الطقوس العتيقة واللمسات العصريّة التي أضفت عليه طابعًا استهلاكيًّا واضحًا. شأنه في ذلك شأن أعياد أخرى، كعيد الميلاد، وعيد العشّاق، وعيد الأمّ والمعلّم، التي لم تعد مجرّد لحظات احتفاء وجدانيّة، بل تحوّلت إلى مناسبات تُغلّفها أضواء الدعاية التجاريّة وتحفّها زخارف الحداثة.
غير أن خصوصيّة رمضان تكمن في ثنائيّة التناقض بين جوهره الروحانيّ ومتطلّباته الحديثة، حيث يبقى شهرًا للصيام والتقشّف والتأمل، لكنّه في الوقت ذاته لا يخلو من إيقاع احتفاليّ يزدهر عامًا بعد عام. ديكورات المنازل التي لم تكن يومًا جزءًا أصيلًا من طقوس رمضان باتت اليوم علامة من علاماته، فالفوانيس المعلّقة في الأركان، والأهلّة النحاسيّة اللامعة، وصواني التمر والمشمش المجفّف والمكسّرات النيّئة أصبحت امتدادًا بصريًّا للشهر “الفضيل”، تحمل طابعًا جماليًّا لا يُنكر، لكنّها تطرح تساؤلًا: أليس في ذلك قدرٌ من المبالغة؟
رفاهيّة وسط أزمة اقتصاديّة
في ظلّ أزمات اقتصاديّة خانقة، وحروب تتناسل من رحم الأزمات، وأموال مودعين عالقة بين دهاليز البيروقراطيّة الماليّة، يصبح التزيّن برمضان أمرًا ذا دلالة رمزيّة، لا مجرّد ترف. قد يرى البعض أنّ في هذه الإضافات محاولة للهروب من واقع مرير، بينما يراها آخرون تجميلًا لا يضرّ، بل ربّما يُخفّف من وطأة الأيّام.

واللافت أنّ هذا التحديث لم يقتصر على الزينة والديكورات، بل يمتدّ ليشمل الأطفال، الذين صاروا جزءًا من المشهديّة الرمضانيّة بملابس تقليديّة تعيد إنتاج صورة التراث بحلّة عصريّة، فتُلبس الفتيات عباءات إسلاميّة مُطرّزة، ويُزيّن الصبيان بالطربوش الأحمر، في استعادة خجولة لزمن كانت فيه البساطة عنوانًا للفرح.
لكن، مهما تباينت الآراء حول هذه المستجدّات، يظلّ رمضان مناسبة يتجلّى فيها الزمن بروحانيّته الخاصّة. ربّما لم يعد كما كان، لكنّه لم يفقد بريقه. يبقى الشهر الذي يعيد تشكيل ملامح الحياة، ولو بأبعاد مختلفة، إذ تختلط الأجواء الإيمانيّة بلمسات حديثة تضفي على الأيّام طابعًا حميميًّا، كأنّ الزمن يمنحنا فرصةً أخرى للتأمّل، ولكن هذه المرّة، بعيون ترى التفاصيل المعلّقة بين الماضي والحاضر.
إذ يغدو الشهر لقطة فنّيّة
في الجنوب الذي لم يلتئم جرحه بعد، حيث ترقد الأيّام بين ذكريات الألم وأمل التشافي، لم يمنع الواقع القاسي العائلات من البحث عن لحظات توثّق الفرح، حتّى ولو عبر صورة. تخبرنا المصوّرة الفوتوغرافيّة فاي أبو جهجه أنّ “الطلب على الصور ذات الخلفيّات الرمضانيّة أصبح تقليدًا جديدًا، يحاكي الطقوس الموسميّة التي تتجدّد مع حلول الشهر الفضيل. وعلى رغم أنّ الناس يلتقطون الصور في مناسبات عدّة، إلّا أنّ التصوير الرمضانيّ بات أكثر رواجًا، وكأنّ الكاميرا صارت نافذة للعبور إلى أجواء روحانيّة تُجمّلها الديكورات والإضاءة والتفاصيل الرمزيّة”.
المصوّرة الفوتوغرافيّة فاي أبو جهجه أنّ “الطلب على الصور ذات الخلفيّات الرمضانيّة أصبح تقليدًا جديدًا، يحاكي الطقوس الموسميّة التي تتجدّد مع حلول الشهر الفضيل.
تصف فاي كيف استجابت لهذا التوجّه “من خلال تصميم استوديو خاص يحمل بصمة رمضانيّة أصيلة: هلال معلّق، فوانيس مضاءة، ثياب تراثيّة للصغار، مصحف، سبّحة، وكُتب مزيّنة بالخطّ العربيّ، جميعها عناصر تمنح الصورة بُعدًا حسّيًّا يعكس روح الشهر. يتدفّق الزبائن منذ الأيّام الأولى للاقتراب من رمضان، ويستمرّ الإقبال حتّى ما بعد منتصف الشهر، وكأنّ كلّ عائلة تسعى إلى توثيق حضورها في مشهد بصريّ يتجاوز مجرّد الذكرى، ليصبح جزءًا من طقس احتفاليّ مستحدث”.
واللافت أنّ هذه العادة، التي لم تكن رائجة قبل سنوات، تتجاوز مجرّد تسجيل لحظة جميلة، لتعبّر عن رغبة الناس في خلق رمزيّة خاصّة برمضان، تحاكي ما شهده من تحديثات في الزينة والديكور. وبينما كانت عدسة المصوّر تقتصر على التوثيق العائليّ والمناسبات التقليديّة، أصبحت اليوم وسيطًا بين الفلكلور والتكنولوجيا، بين التقاليد القديمة والرؤى الحديثة لجيل يعيش رمضان كاحتفال بصريّ بقدر ما هو روحانيّ.
تختم فاي أبو جهجه متساءلة “هل نحن أمام طقس رمضانيّ جديد يرسّخ مكانه عامًا بعد عام، ليصبح جزءًا من موروث الشهر، تمامًا كالفوانيس وصواني الضيافة؟ أم أنّ الزمن، الذي لا يكفّ عن التبدُّل، سيجعل من هذه الظاهرة مجرّد موضة عابرة؟ الأيام وحدها كفيلة بالإجابة، لكنّ ما هو مؤكّد أنّ الصورة اليوم لم تعد مجرّد انعكاس للواقع، بل أصبحت وسيلة لإعادة تشكيله، وإضافة لمسة من الجمال إلى تفاصيله، حتّى وسط الألم”.
رمضان بحبر المطبعة
في إحدى مطابع الضاحية الجنوبيّة، يروي لنا حسن الصوري، صاحب المطبعة، كيف يتحوّل شهر رمضان إلى موسم للمطبوعات المتخصّصة، التي تأخذ طابعًا دينيًّا وتجاريًّا في آن واحد. ليس الأمر مجرّد إمساكيّات رمضان التي تزيّنها أسماء المحال والشركات كإعلان دعائيّ، بل يمتدّ ليشمل لوائح الطعام الرمضانيّة في المطاعم، التي تعيد تشكيل قوائمها بما يناسب الإفطار والسحور، بالإضافة إلى الكتيّبات الدينيّة التي تحثّ الصائم على تنظيم عباداته وتوثيق أدعيته وأعماله اليوميّة عبر صفحات تُملأ تباعًا، وكأنّها سجلٌّ روحانيٌّ خاصّ بالشهر الفضيل.

رمضان، في لغة المطبعة، ليس مجرّد مناسبة دينيّة، بل موسم للطباعة بامتياز. يزداد الطلب على بطاقات المعايدة، والأظرف المزخرفة، ومطبوعات تراوح بين الفلكلوريّ والدعائيّ، فيما تتفنّن مؤسّسات في تصميم هويّتها الرمضانيّة، مستغلّة هذا الشهر لتحفر اسمها في ذاكرة زبائنها. حتّى المساجد والجمعيّات الدينيّة تدخل في هذه الدورة الإنتاجيّة، بطباعة منشورات تتناول فضائل الشهر وبرامج المحاضرات وحملات الإفطار الخيريّ، ممّا يجعل المطبعة شريكًا غير مرئيّ في صناعة التجربة الرمضانيّة المعاصرة.
ومع تطوّر العصر الرقميّ، لم تخفت أهمّيّة الورق، بل اكتسب بُعدًا جديدًا، حيث لم تعد الإمساكيّة مجرّد جدول للصلاة والإفطار، بل أصبحت تصميمًا فنّيًّا يحمل بعدًا تسويقيًّا ورسالة بصريّة جاذبة. وهذا التحوّل يعكس كيف أصبح رمضان، على رغم ثبات جوهره، يُعاد تشكيله عامًا بعد عام وفق حاجات السوق، وتبدّل العادات، وابتكار أساليب جديدة تربط بين الروحانيّة والتسويق، بين الإيمان والمطبعة، وبين التقاليد والإعلانات.
رمضان بين الزينة والعباءة
مثلما تُضاء شجرة الميلاد احتفاءً بالعيد، يشهد رمضان اليوم طقوسًا ضوئيّة خاصة تُدخل البهجة إلى المنازل، حيث أصبحت أضواء الفوانيس المعلّقة والتصاميم المزخرفة المتناثرة في الزوايا جزءًا لا يتجزّأ من الديكور الرمضانيّ. الفانوس الشهير، الذي كان رمزًا متواضعًا للإضاءة في الأزمنة الماضية، صار اليوم مركزًا لمشهد بصريّ ساحر، تُضاف إليه إكسسوارات ذات طابع صوفيّ وتراثيّ، مثل تمثال الراقص المولويّ الذي يدور بذراعيه المفتوحتين، كأنّه يحتضن الشهر بروحانيّة تتراقص مع الأضواء.
مثلما تُضاء شجرة الميلاد احتفاءً بالعيد، يشهد رمضان اليوم طقوسًا ضوئيّة خاصة تُدخل البهجة إلى المنازل، حيث أصبحت أضواء الفوانيس المعلّقة والتصاميم المزخرفة المتناثرة في الزوايا جزءًا لا يتجزّأ من الديكور الرمضانيّ.
لكن هذا الاحتفال بالمظهر الرمضانيّ لا يقتصر على الديكورات فحسب، بل يمتدّ ليشمل الأزياء، إذ تختار بعض السيّدات عباءات خاصّة للسهرات الرمضانيّة والزيارات الليليّة، التي تبدأ بعد الإفطار وتمتدّ حتّى السحور. هذه العباءات، مستوحاة من الزخارف الشرقيّة، وتحمل بين طيّاتها خيوطًا مذهّبة أو فضّيّة، تتداخل مع تطريزات من الحروفيّة العربيّة، ممّا يمنحها طابعًا أنيقًا ينسجم مع أجواء الشهر الكريم. في بعض الأحيان، تصبح العباءة نفسها بيانًا بصريًّا يعكس هويّة رمضان، كأنّها امتداد للزينة المنتشرة في أرجاء المكان، لكن هذه المرّة على الجسد لا على الجدران.
تحوّلات رمضان المعاصر
لا تقتصر مظاهر رمضان الحديثة على الزينة والإضاءة، بل تمتدّ إلى النسيج والفنّ التشكيليّ، حيث يتجسّد الشهر في أدقّ التفاصيل التي تزيّن المنازل، ليصبح كلّ ركن فيه انعكاسًا للاحتفاء بالمناسبة. تخبرنا التشكيليّة باسمة عطوي أنّ شقيقتها أهدتها شرشفًا ووسادتين مزيّنتين بالخطّ العربيّ، تتوسّطهما عبارة “مبارك عليكم الشهر” بخيوط متداخلة، كأنّما الكلمات تتحوّل إلى زخرفة حيّة تضيف إلى المكان دفئًا رمضانيًّا خاصًّا.
أما ابنتها زينب، فقد اختارت الاحتفاء بالمناسبة بطريقتها، فابتاعت هلالًا مزخرفًا بتجاويف مخصّصة لحمل اللوز والجوز والزبيب والمشمش المجفّف، وكأنّ هذا الشكل لا يقتصر على كونه مجرّد زينة، بل يمزج بين الجمال والوظيفة، ليحمل الطابع التراثيّ بأسلوب عصريّ. إنّها محاولة لعيش رمضان بروحانيّة حسّيّة، إذ لا تكتفي العين بالتأمّل، بل تمتدّ اليد لتلتقط المكسّرات من تجاويف الهلال، في مشهد يبدو كأنّه جزء من لوحة تشكيليّة متحرّكة.
هذه التفاصيل الصغيرة ليست مجرّد إضافات جماليّة، بل انعكاس لتحوّلات رمضان المعاصر، حيث تتداخل الفنون البصريّة مع الطقوس التقليديّة، ليصبح كلّ عنصر في المنزل جزءًا من احتفال يمتدذ من القماش إلى الخشب، ومن الخطّ العربيّ إلى الضوء، ومن الذاكرة إلى اللحظة الحاضرة.
رمضان اليوم لم يعد يقتصر على الصيام والصلاة، بل أصبح حالة فنّيّة يوميّة، تعكسها الوسائد المطرّزة، والمصابيح المنحوتة، والأواني المصمّمة بعناية، وكأنّ الشهر تحوّل إلى لوحة مرسومة بالتفاصيل، تتغيّر ملامحها كلّ عام، لكنّها تحتفظ بروحها العريقة.
