محاولات يائسة لإنقاذ مواسم سهول الوزاني وبساتينها
بعد خسران أكثر من نصف محصول التبغ في القرى والبلدات الحدوديّة المتاخمة للحدود الفلسطينيّة المحتلّة، ثمّة محاصيل أساسيّة حُرم منها مزارعو تلك المنطقة بفعل القصف والتهجير، وهي تشكّل بحدّ ذاتها دورة حياتيّة كاملة، خصوصًا بعد مرور نصف سنة على بدء العدوان ونزوح الأهالي عن قراهم وبيوتهم ومصادر رزقهم.
بعد التحرير في العام 2000 تحوّلت سهول الخيام والوزّاني وسرده والعمرة وإبل السقي (تحوط جميعها بلدة الخيام) من مساحات بور متروكة أكثر من ربع قرن إلى جنّة خضراء، بعدما أتاها المستثمرون من الجوار ومناطق البقاع وغرسوها بالأشجار المثمرة وجرّبوا الزراعات الموسميّة فكانت نتائج عطاءاتها خارج توقّعاتهم من حيث الغزارة والجودة ودخول المواسم قبل أوانها.
اليوم، وبعد نصف سنة من القصف والاعتداءات شبه اليوميّة، لا سيّما على الخيام وجوارها، باتت هذه السهول بحكم المهجورة، بعدما حاول أصحاب الحقول والمستثمرون إنقاذ ما يمكن من مواسمها، ممّا زرعوه قبل أشهر قليلة، أو الموسم الخريفي أو حتّى ما نضج على الأشجار في بساتين الأفوكا على سبيل المثال، بيد أنهم عجزوا أمام استمرار الاعتداءات والرمايات الرشّاشة ومغادرة العمّال المنطقة وجلّهم من السوريين، فكان خسرانهم عظيمًا. لكن وعلى الرغم من كلّ ذلك لم يتخلّوا عن محاولاتهم اليائسة والمستمرّة.
بعد نصف سنة من القصف شبه اليوميّ، باتت سهول الوزاني بحكم المهجورة، بعدما حاول أصحاب الحقول إنقاذ ما يمكن من مواسمها.
يستثمر المزارع محمّد شيت من كفركلا في مساحات واسعة من سهل الوزّاني ومحيطه، يقول ردًّا على سؤال: “آخر موسم زرعناه تقريبًا كان بين آب وأيلول 2023، وهذا نسمّيه موسم تشرين، إذ نقطفه عادة في تشرين، زرعنا الباذنجان و”المكدوس” واللوبياء والبامية والملفوف والقرنبيط والخسّ، وكنا في آخر الزراعة يوم اندلعت الحرب وبدأت المعارك، وتركنا كلّ شيء في أرضه”.
يتنهّد ويضيف بحسرة: “يا ريت لم نقطفه فحسب، إلّا أنّ المولّدات وحدائد الأنفاق وأغطيتها كلّها راحت وتلفت وسرقت، خرجنا مدّة شهر وعدنا ولم نجد شيئًا، شلعة غنم الله وكيلك والناس كلّها تعرف، راحت ولم يبقَ منها شيء نهائيًّا”.
ويتابع شيت في حديث إلى “مناطق نت”: “أنا خسارتي إن حسبت المولّدات و”الأمّيات” (شبكة المياه) والغنمات والموسم الذي قُتل، وفوقه ديون الشركات، هي بما يتجاوز مئة ألف دولار أمريكيّ. نحن في أحيان كثيرة نستلم من الشركات البذور والأدوية والأسمدة، نزرع ونسدّد أثمانها مع حصاد المواسم، وكنّا قد خرجنا للتوّ من نكسة المصارف، من أين سنسدّد هذه الديون؟”.
بساتين الوزّاني في خطر
يزرع شيت في حقول وسهول الوزّاني وسرده والعمرة، في المنطقة الخضراء، “عندي نحو 500 دونم بين بساتين وبطّيخ وشمّام وغيرها. باتت الحشائش والأعشاب اليوم تغطّي الأشجار والبساتين، والمشكلة الأكبر إذا ما يبست هذه الأعشاب ولبَدت في البساتين من المؤكّد أن هذه البساتين سوف تيبس هي الأخرى”.
لتنظيف البساتين من أعشابها يحضر شيت عمّالًا سوريّين أجرة الواحد منهم بين 15 و20 دولارًا يوميًّا، “فقط لتنظيف البساتين من الأعشاب إذ إنّنا قادمون على صيف وحرارة، والرزق عزيز جدًّا، والموضوع صار فوق رؤوسنا ويحتاج إلى دول كي تحلّه”.
ويضيف: “بقيت بساتين الأفوكا كلّها على أمّها وكذلك الرمّان والقشطة (القشدة) لم نقطفها كلّها، وهذه البساتين قريبة أصلًا من نهر الوزّاني ومن المستحيل الوصول إليها بأيّ وسيلة بسبب القصف والرمايات الرشّاشة. نحاول أن نعتني حاليًّا ببساتين الدرّاق والخوخ والمشمش، وصار الحَبُّ واضحًا على أشجارها، وبسبب الأعشاب لا يمكننا الدخول إليها، لذلك نحاول إنقاذ الموسم قبل أن يلحق بغيره”.
ويشكر شيت العمّال السوريّين “الذين أتوا معي إلى هنا تحت القصف والخطر، لن أستطيع تنظيفها لوحدي، هم يجدّون معي للحؤول دون يباس البساتين. أمّا النصوب الصغيرة التي زرعناه العام الماضي وقبله فيبست كلّها. لقد خسر المزارعون هذه المنطقة السهليّة التي صنعوها بقوّتهم وإصرارهم طوال 22 عامًا، واستدانوا من أجل زراعتها وتعزيزها وتحويلها إلى واحة خضراء عامرة بالبساتين والمزروعات الموسميّة، واشتغلوا فيها، راحت كلّها في هذه الحرب”.
ويختم شيت حديثه: “أنا في حالة يأس، أقطع كلّ يوم مسافة خمس ساعات ذهابًا وإيّابًا من وإلى سرعين في البقاع كي أتابع المحاصيل، خصوصًا بعدما نزحتُ عن بلدتي كفركلا التي لا يمكن الإقامة فيها حاليًا بسبب ما تتعرّض له من قصف عنيف واعتداءات بشكل يوميّ. هذا عدا عن مصاريف البنزين اليوميّة والتي تبلغ لوحدها خمسين دولارًا، ونحن في وضع مزر وربّما لا نمتلك المصروف اليوميّ. بكلّ أسف المشكل الذي حصل (الحرب) أكبر منّا ولا يمكن أن نحمله لوحدنا”.
محاولة إنقاذ الكروم
حاول المزارع ساري دياب من الوزّاني قبل يومين الوصول إلى كروم العنب وبساتين الدرّاق التابعة له ولشركاء آخرين قرب نهر الوزّاني “لكنّنا تعرّضنا لإطلاق نار من المواقع الإسرائيليّة على الطرف الآخر من نهر الوزّاني، فعدنا أدراجنا، ها أنّنا نحاول اليوم حراثة أرض الكروم وتحضيرها للموسم المقبل، وحتى الآن نجحنا نوعًا ما، ربّما لن ننجح غدًا أو في المرّة التالية”.
لم يزرع دياب وشركاؤه مواسم جديدة خشية عدم تمكّنهم من رعايتها وجني محصولها لاحقًا، إذ لا أمل لديهم بانتهاء الحرب قريبًا.
يقول لـ”مناطق نت”: “إنّ كلّ ما نفعله اليوم هو محاولة إنقاذ المواسم الشجريّة مثل العنب والدرّاق. عادة كنّا نزرع موسم بطيخ وملوخيّة وغيرها من الخضروات في مساحة 40 دونمًا، ولم نستطع زراعة هذا الموسم في أوانه ووقته المتاح بسبب الوضع القائم، لذا نضطرّ للاعتناء بالكرمة وغيرها من الأشجار كي لا تضيع أو تيبس، خصوصًا أنّ مساحتنا المزروعة تتجاوز 50 دونمًا”.
محاولات يائسة لإنقاذ البساتين
كانت ثمّة 12 عائلة سوريّة مزارِعة تشتغل في حقول دياب وشركائه وتعتاش من هذه الزراعة، اضطرّت بسبب الحرب إلى ترك المنطقة والنزوح نحو مناطق أكثر أمنًا، لذا “نحضر اليوم عمّالًا من مناطق آمنة كإبل السقي والقليعة وغيرها للعمل باليوميّة، كانت أجرة الساعة قبل الحرب بين 50 و60 ألف ليرة، اليوم ندفع لهم 150 ألفًا كي يحضروا تحت الخطر” يقول دياب.
لا تتوقّف العناية بكروم العنب وبساتين الدرّاق على حراثة الأرض “بل تحتاج إلى متابعة بين مرّة أو مرّتين على الأقل في الأسبوع الواحد، فهي تحتاج كذلك إلى رشّ بالمبيدات وعناية مستمرّة، إلى توريق وتربيط، وألف قصّة وقصّة”.
ويضيف: “نحن اليوم نخاطر بأنفسنا ونأتي إلى الحقول في محاولات يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه المواسم التي احتاجت إلى سنوات وسنوات كي تصبح بما هي عليه اليوم” يضيف ساري دياب الذي اضطرّ إلى عدم مغادرة الوزّاني ويبيت فيها على رغم الخطر كي يتابع مزروعاته وإنقاذها.
كانت ثمّة 12 عائلة سوريّة مزارِعة تشتغل في حقول دياب وشركائه وتعتاش من هذه الزراعة، اضطرّت بسبب الحرب إلى ترك المنطقة والنزوح نحو مناطق أكثر أمنًا
خسارات المزارع
ويشير دياب إلى أنّ العمل توقّف نهائيًّا في مزرعة الدواجن التابعة لهم “إذ كنّا نربّي فيها نحو 20 ألف طير من دجاج اللحم، وقد تعرّضت المزرعة للقصف، لكنّنا كنّا قد أخرجنا ما فيها قبل تفاقم الوضع الأمنيّ”.
إلى المواسم المنهارة موسمًا تلو الآخر، تتقوّض الثروة الحيوانيّة هي الأخرى، إذ يعجز أصحابها عن رعي ماشيتهم في حقول السهل، خصوصًا أنّ قرية الوزّاني تشتهر بما يمتلكه أهلها من مواشٍ ودواجن وأبقار.
يتلافى أصحاب المزراع الخروج بقطعانهم إلى المراعي، وإن خرجوا يُواجهون بالنيران والقذائف التي تطلق عليهم من المواقع الإسرائيليّة القريبة، هم لا يستطيعون أن يسرحوا بقطعانهم كما يجب، وإن أطعموها علفًا فيقلّلون توفيرًا على أنفسهم من أثمان هذا العلف الباهظة، وإن قلّلوا تضعف الخراف والمواشي وتهزل، وإن ضعفت خسارتها حتميّة وكبيرة.
إنّ ثروتهم الحيوانيّة التي كانت تعتاش منها مئات العائلات، تنهار اليوم أمام أعينهم ولا حول لهم ولا قوّة إلّا الصبر وانتظار انتهاء الحرب وتوقّفها لعلّهم يخرجون منها بأقلّ خسائر ممنكة.