مرجة رأس العين ـ بعلبك.. في أحوالها المتبدلة
ما زالت ترنّ في أذني عبارة أحد الأصدقاء، وقد هاله ما كان يقع تحت ناظريه من وقائع غريبة، حين قال: “يا أخي خليهن يفكّوها وياخدوها إذا حابّينها هالقد”.. قد يُخيّل للقارىء أنّ الحديث يدور حول آلة ما، أو بناء مؤقّت، أو ربّما خيمة منصوبة في مكان لا يتلاءم مع طبيعتها. لكنّ المقصود بالكلام هي قطعة من الأرض يبلغ طولها أكثر من مئة متر بقليل، وعرضها مماثل لطولها، وتُطلق عليها تسمية: مرجة رأس العين.
السبب الكامن وراء ورود القول المذكور على لسان صاحبنا سوف نعمد إلى تفصيله لاحقًا. أمّا من الناحية الجغرافيّة، فإنّ المرجة تقع في منطقة رأس العين، وقد اكتسبت المنطقة هذا الاسم من خلال علاقتها بالنبع المعروف بالتسمية المذكورة، علمًا أنّها لا تقع قرب النبع مباشرة، بل تفصلها عنه مسافة قصيرة لا تتعدّى عشرات الأمتار.
هكذا، اتّخذ ذاك الحيّز المكانيّ، الواقع في الجانب الشرقيّ من بعلبك، تسمية رأس العين، وهي عبارة كانت قد أطلقت على غير منطقة في مدن لبنانيّة وحتّى عربيّة أخرى، لسبب أو لآخر، لكنّ العنصر الأساس، الذي ينبغي حضوره في المناطق كلّها: الماء – المادّة التي قيل فيها: أرخص موجود وأغلى مفقود.
المكان الذي تتجمّع فيه الماء يُسمّى البيّاضة: بركة ماء صغيرة المساحة وقليلة العمق تسيل إليها ماء النبع، الذي يُقال إنّ الفضل في نشوء المدينة الرومانيّة يعود إليه. وفي واقع الأمر فإنّ تسمية رأس العين تنطبق على هذا المكان بعينه، قبل أن تشمل المنطقة بكاملها. في الجزء الشرقيّ من البركة قام في العهد الروماني معبد نبتون – إله البحر والماء في الميثولوجيا الرومانيّة، الذي يقابل بوسيدون في الميثولوجيا اليونانيّة.
لم يبقَ من المعبد سوى حجارة متناثرة، أعيد تركيب بعضها فوق البعض الآخر، من دون أن يشير المشهد حاضرًا إلى ما يشبه المعبد. أمّا بقايا المعبد الصغير القائم على المساحة المستطيلة، التي يغمر الماء بعض حجارتها، فقد صار في الوقت الحالي مرتعًا لطيور الأوزّ البيضاء والكثيرة التي استوطنت المكان، ومنحته بعدًا بصريًّا خاصًّا من خلال اختلاط ألوانها مع ألوان الحجارة.
قبل بضعة عقود كانت بقايا المعبد مغطّاة بالتراب، ما شكّل شبه جزيرة في قلب البيّاضة، قائمة على مداميك حجريّة، ومزروعة شجرًا نما خلال الزمن. كان المشهد خاطفًا للبصر نظرًا إلى بساطته ومكوّناته، إلى أن أزيلت الأشجار ونُبشت الأرض من أجل إظهار بقايا المعبد.
وُجد تمثال لنبتون في المكان، على ما أفادت أستاذة علم الآثار د. جنى عبد المسيح، لكنّنا لم نرَ هذا التمثال، وربما ينتصب في مكان ما، ضمن المتحف المقام في داخل هياكل بعلبك. لكنّنا واثقون، وكما تفيدنا التجارب، أنّه أضاع رمحه ذا الشعاب الثلاث المدبّبة، نظرًا لهشاشة تكوينه، وهو الذي يُعدّ من “إكسسوارات” نبتون الضروريّة.
وُجد تمثال لنبتون في المكان، على ما أفادت أستاذة علم الآثار د. جنى عبد المسيح، لكنّنا لم نرَ هذا التمثال، وربما ينتصب في مكان ما، ضمن المتحف المقام في داخل هياكل بعلبك.
هذا، فيما احتفظ به ذاك التمثال المصنوع من البرونز، الخاص بالإله ذاته، القائم ضمن بركة ماء في الساحة التي تتوسّط مدينة بولونيا في إيطاليا، وذلك لكونه، أيّ التمثال، كان قد صنعه النحّات جان دي بولوني خلال عصر النهضة الإيطاليّة، في العام 1565، بينما يعود تاريخ صناعة تمثالنا البعلبكيّ إلى ما يقرب من ألفي عام.
في وسط البيّاضة، ثمّة قاعدة تسبح في وسط المياه، تبدو أنّها قاعدة لتمثال. هل كان التمثال قائمًا في هذا المكان بالذات؟ ليس هناك من مستند تاريخيّ موثوق نعرفه شخصيًّا يؤكّد هذه الفرضية. الغريب في الأمر أنّ القاعدة منفصلة إلى قسمين، يفصل بينهما حجر رُحى، لا شكّ لدينا أنّه وضع في مكانه في الزمن الحديث. تقول بعض الروايات، أو بالأحرى الأساطير، إنّ كنزًا مخبّئًا تحت القاعدة، لكن استخراجه يتطلّب إزالة القاعدة الحجريّة. وهنا تضيف الأسطورة أنّ مياه البيّاضة ستبتلعها الحفرة، في حال إزالة القاعدة، ولن تتجمّع المياه من جديد في البركة.
قد يكون هذا الكنز أشبه بذاك الذي يقع في صلب موضوعه المسرحيّة الغنائيّة “جسر القمر”، لفيروز والأخوين رحباني (أقيمت في داخل هياكل بعلبك في العام 1962)، التي تبيّن في نهايتها أنّ الكنز لا وجود مادّيًّا له، بل هو عبارة عن صداقة وأخوّة كان يفتقدها طرفان من ضيعتين مختلفتين، إثر نزاع سكّانهما على الماء، المتوافر بكثرة لدى سكّان القرية التي يترأّسها شيخ المشايخ (الراحل نصري شمس الدين)، والشحيح لدى سكّان “القاطع”، الذين قطع عنهم أهالي القرية المياه بعد عداوة مستفحلة. كاد الوضع أن يؤدّي إلى مجزرة، إلى أن حصلت “الصلحة” بين القريتين، بعد اقتناع الطرفين بضرورة الوفاق، و”دارت الميّ عالقاطع، خليّ تسقي المزارع”، وذلك بفضل .. فيروز.
أمّا الماء، الخاص بالبيّاضة، فلم يكن دائمًا على المستوى نفسه في خلال السنوات الماضية. جفّت البيّاضة تمامًا منذ عدّة أعوام، وخصوصًا في العام 2018، وبانت أرضيّتها، كذلك تسلّلت إليها الشقوق كما في صحراء مجدّبة. استغلّ الفضوليّون الوضع من أجل القيام بنزهة سريعة على الأرض الجافّة، والتقاط صور تذكاريّة في لحظة “تاريخيّة” قد لا تتكرّر، كما استغلّت بلديّة المدينة ووجهات مدنيّة أخرى الظرف من أجل حفر أرض البيّاضة وإزالة تقرّحاتها.
حاولت جرّافة تسوية بعض حجارة السور المحيط بالبركة، فأوقعت خطأ صخرة منحوتة قائمة عند طرف مكان خروج الماء من النبع، ولم تقوَ على إعادتها إلى مكانها لصعوبة القيام بالمناورة، وذلك بالرغم من النصائح الثمينة التي كان يطلقها حوالي خمسين فردًا من الفضوليّين العاطلين عن العمل، الذين اجتمعوا لتتبّع الحدث. لذا، فقد صارت الصخرة ، الباقية على حالها، مائلة وغير منسجمة مع زميلاتها، أشبه برمز يعيد إلى الأذهان ذكريات السنة القاحلة.
أعاد بعضهم المصيبة برمّتها إلى الجفاف الناتج عن قلّة المطر حينذاك، وقال بعض آخر إنّ بئرًا، أو آبار، استحدثت اعتباطيًّا في الهضبة الشرقيّة التي يتغذّى منها النبع، ما تسبّب في ضعف النبع الأساس ونضوب مياهه.
كانت البيّاضة تحوي نوعًا من الأسماك النهريّة، يُقال إنّها نادرة ومصنّفة ضمن خانة الانقراض. ناضلت الأسماك طويلًا بعد تجمّعها في بقع الماء القليلة الباقية، إلى أن أسلمت الروح، واستلقت على التراب. أمّا طيور الأوزّ، وبالرغم من حاجتها إلى الماء، ولو بنسبة أقلّ، فأبت أن تهجر المكان، جاعلة من خلال سلوكها هذا أمثولة في الثبات والصبر قَلّ نظيرهما.
هذا الصبر، ولحسن الحظ، نفذ لدى بعض سكّان المدينة، فحدثت اعتصامات قرب البيّاضة استنكارًا لسبب الجفاف الذي لم يتوضّح تمامًا. قال بعض القدريين إنّها حكمة الخالق الذي أراد تلقين سكّان المدينة درسًا، كي لا يعمدوا إلى إهدار المياه، في حال توافرها، وليس في مقدور أحد التدخّل لقلب الأمور في حالات مماثلة.
تخترق مياه رأس العين المدينة عبر نهر ظاهر للعيّان حينًا، ومختبئًا عن الأنظار تحت مباني المدينة حينًا آخر، وصولًا إلى سور الهياكل، كما في العهد الرومانيّ، وينحرف صوب الجنوب باتّجاه بساتين المدينة، التي سلمت من هجمة البناء، من أجل ريّها. هذه العملية تتمّ ضمن جدول زمنيّ صارم وُضع لتوزيع المياه، وقد يؤدّي تجاوز بنوده إلى “مقتلة”. انقطعت المياه عن بساتين المدينة حينها، وصارت عمليّة الريّ شديدة الصعوبة.
سرت شائعات مغرضة، وغير صحيحة، بين السكّان تفيد بأنّ بعض المزارعين عمدوا إلى ريّ مزروعاتهم من مياه الصرف الصحّيّ. حدثت بلبلة في السوق، واستنكف كثيرون عن شراء الخضار المحلّيّة، ولم تنتهِ المشكلة إلاّ بعد عودة المياه إلى مجاريها، ما يضع هذا المثل الشائع في حالات عديدة مختلفة في إطاره الواقعيّ الصحيح.
أمّا في ما يخصّ عبارة صاحبنا الواردة في بداية المقال، فسنعود إليها في جزء ثان.