مزارع الأسماك على العاصي.. ارتفاع الأكلاف وتصريف الإنتاج يضغطان على القطاع
لم يبالِ نهر العاصي بالأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان، فبقي عصيًا عليها وعلى الطبيعة التي يجري عكس أنهارها. لكن مزارع الأسماك التي تنتشر على جانبيه نالت نصيبها من الانهيار الاقتصادي ومن جائحة كورونا، حيث تأثرت تلك المزارع بتداعياتهما الكارثية. وبالرغم من أن عملية إنتاج المزارع لم تتأثر كثيراً، بقيت مشكلات عديدة أبرزها تصريف الإنتاج وارتفاع الأكلاف هما المعضلتين الأساسيتين ومثلتا ولا تزالا تحدياً رئيسياً لعمل تلك المزارع.
يقتصر الانتفاع من مياه نهر العاصي في منطقة الهرمل بالمسامك والمقاهي المنتشرة على ضفافه وري بعض البساتين وبعض الرياضات المائية التي اشتهرت في السنوات الأخيرة. كل تلك المشاريع قامت بجهود فردية وبما تيسر، وهذا حال المسامك الثروة المهملة من المؤسسات الرسمية.
تربية الأسماك ثروة ناهضة
تربية الاسماك من القطاعات الانتاجية الأساسية التي يقوم عليها اقتصاد مدينة الهرمل كما يؤكد الخبراء الاقتصاديون في دراساتهم ويعيه أبناء الهرمل. فالمزارع السمكية هي المساهم الأول في حركة النهوض الحياتية وحافز للتشبث بمقدرات الطبيعة الخاصة للمنطقة. أما انشاء المزارع فأتى بمبادرات فردية تضافرت فيها الجهود لتكون مصدر عيش ورزق لأكثر من 200 عائلة حاليًا. مياه نهر العاصي وتدفقه المستمر والقوي ميزه بمستوى عال من الأوكسيجين داخله وكذا حموضة مياهه، بالإضافة إلى وجود منظفات طبيعية مائية كنبات الحلفاي التي تعتبر منظف طبيعي ومفلتر لمياه النهر. لهذا يعتبر بيئة مثالية لزراعة وتربية سمك الترويت حسب الخبراء.
حوالى 150 مزرعة للأسماك أنشئت على ضفاف نهر العاصي. هذه المشاريع نمت وتكاثرت منذ ثمانينيات القرن الماضي على طول ضفتي النهر المقاربة للعشرين كيلو مترًا. من منبع النهر في عين الزرقاء مرورًا بجسر العاصي وشلالات الدردار وصولًا إلى الشواغير على الحدود اللبنانية السورية. يعتاش من تلك المزارع عائلات وعمال المزارع، والبعض يتشارك في أكثر من مزرعة والآخرون يتشاركون المزرعة عينها، حيث تضم ما بين حوض واحد وعشرة أحواض حسب ما أكد المزارع أيمن علاو.
“مناطق نت” زارت المسامك على العاصي، والتقت عدداً من أصحاب المزارع ولسان حالهم يقول “الرزق بدو صبر وتعب ليعطي، هيدا شغلنا بدنا نتعب لنلاقي والترويت بيستاهل لحمه طيب ومرغوب”.
“بيستاهل الترويت”
“بيستاهل الترويت” فالمتخصصون في المجال الطبي الغذائي يؤكدون أن سمك الترويت يعد موردًا غذائيًا صحيًا لاحتوائه على الأحماض الدهنية غير المشبعة المفيدة للقلب والأوعية الدموية ويساعد في خفض الكولسترول في الدم.
تنتج المزارع على العاصي سمك الترويت لا غير، وتتميز بلحمها الأحمر السومو واللحم الأبيض، ويتراوح الانتاج السنوي الحالي بين ألفين وخمسة آلاف طن تقريبًا.
يقول المزارع أيمن ماجد علاو لـ “مناطق نت” “إن الإنتاج الزراعي لسمك الترويت يُصرّف محليًا في مدينة الهرمل وفي أسواق السمك في بيروت وفي الشمال والجنوب، وأيضًا في المطاعم والمسامك على الاراضي اللبنانية كافة، فسمكة الترويت ذات اللحم الأحمر تُطلب للمطاعم الخاصة بالسوشي لطعمها اللذيذ. وأشار علاو إلى أن التصدير إلى سوريا كان قبل الازمة بالاطنان يوميًا، وذلك لمعرفتهم بهذه السمكة أكثر من السوق اللبنانية. كما يصدر إلى الاردن وقطر ودبي وبعض الدول الأخرى، حيث يُصنع ويعلب كـ “فيليه” ومدخّن بالإضافة إلى تثليجه طازجًا.
الأزمة الاقتصادية عصفت بالقطاع
عن تأثير الازمة الاقتصادية على القطاع تحدث فيصل سلهب الذي يملك مزرعتين وأحواض عدة لـ “مناطق” بالقول “الأزمة الاقتصادية التي ترافقت مع جائحة كورونا كان لها نتائج سلبية مزدوجة على عملنا، فهناك صعوبة في التصدير بسبب إقفال الحدود البرية مع سوريا، وهي البوابة الوحيدة للتصدير للدول العربية وأيضاً إقفال الاجواء الجوية والبحرية بسبب جائحة كورونا عالميًا”. يتابع سلهب “القطاع تأثر سلبًا بارتفاع أسعار الأعلاف الخاصة بالأسماك التي تستورد من الخارج”.
بدوره تحدث المزارع عامر قانصو لـ “مناطق” فقال “إن الأزمة الاقتصادية انسحبت سلبًا على المبيع، إذ انخفضت القدرة الشرائية للمواطنين مما أدى إلى انخفاض الطلب” وأشار قانصو إلى أن الطلب يزداد أحيانًا على سمك الترويت في حال ارتفع سعر الدجاج واللحوم لأن سعر كيلو الترويت لا يزال مقبولًا. وبحسب قانصو فإن الموزعين تضرروا بسبب أزمة المحروقات، أما المتضرر الأكبر فكان المصنعون للترويت الفيليه والترويت المدخن بسبب حاجة التصنيع والتخزين إلى الكهرباء بشكل دائم لتشغيل مولداتهم وإلى الوقود لنقل بضائعهم.
وفي مقارنة للأسعار بين اليوم وقبل الأزمة قال أيمن علاو إن سعر كيلو سمك الترويت الأبيض كان قبل الأزمة يتراوح بين ثلاثة وأربعة دولارات بينما كان الأحمر يزيده بحوالى النصف دولار. أما بعد الأزمة فيبلغ سعر الأبيض حوالى الدولار ونصف الدولار في حين يصل الأحمر إلى 2,8. وأشار علاو إلى أنه رغم انخفاض الأسعار لم يتأثر المزارع كثيراً والسبب في ذلك هو انخفاض كلفة العمالة.
المشكلة الرئيسية
تشكل كلفة الأعلاف المشكلة الرئيسية لمزارعي الأسماك على العاصي، وفي هذا الإطار يقول فيصل سلهب “نشتري الاعلاف من الخارج بالدولار، وهي كبسولات بعدة أحجام تتكون من طحين سمك وحبوب فيتامين وبروتين ودهون”. وأشار إلى أن المزارع يُطعم أفراخ السمك لتعطي إنتاجًا لفترة تتراوح بين الثمانية أشهر والسنتين، وذلك حسب حجم السمك المطلوب.
حال المزارعين الذين التقتهم “مناطق” هو حال العشرات الذين ينتشرون على العاصي ويعانون لوحدهم في ظل غياب أي دعم رسمي أو بلدي للنهوض بهذا القطاع الحيوي المنتج للمنطقة.
مخاطر عديدة يواجهها مزارعو الأسماك على العاصي، لا سيما السيول الموسمية في فصلي الخريف والربيع حيث تقع الكوارث على المسامك والمقاهي على ضفتي النهر. وفي هذا الإطار يقول سلهب “أكثر ما يقلق المزارعين هي مخاطر السيول، فهي تهدد المسامك بشكل دائم، والدولة لغاية الآن متقاعسة عن إنشاء سدود عبارة عن جيوب للتخفيف من اندفاع السيول والأتربة المحملة مع المياه خلال الفيضان.
أما عن الأضرار البيئية التي تخلفها بعض المزارع والمطاعم وتلوث العاصي، للأسف فهي كبيرة وهذا ما يعترف به المزارعون.
مشاكل لا تجد حلولاً
مطالب عديدة يكررها أصحاب المسامك على العاصي، وهي كما يقولون ليست عصية على الحل من قبل الجهات المعنية، لسهولتها وبساطتها ويمكن تنفيذها بلا تكاليف كبيرة وتتمثل بحماية ضفاف النهر أولاً، ومن ثم قوننة قطاع مربي الأسماك وإيجاد أطباء متخصصين بهذه السمكة وأمراضها وتأمين مختبر لفحص أمراض الأسماك مع صيدليه للدواء والمساعدة بدعم الأعلاف أو توزيع قسم منه للمزارعين وإنشاء معمل للفلين.
بالرغم من كل ما يتعرضون له من مشاكل، إلا أن التفاؤل بالمستقبل هو السائد وينسحب على جميع المزارعين حيث يقولون “ليس من مخاطر تهدد استمرار قطاعنا بل على العكس، فالطلب على السمك يتزايد باستمرار، وهو بفضل العمل الدؤوب والمتطور وبفضل المصنعين والمسوّقين”.
تفاؤل المزارعين يستمدونه من العاصي الذي وهب الحياة لشمال البقاع ورسم لوحة ملونة يأمل أبناؤه أن تتشابك أيديهم من جديد وإعادة مجد هذه المنطقة التاريخية، لعل المساحة الخضراء تتسع لتنعم بمائه الرقراق والعذب.