مسار الحرب الإسرائيلية من التوسعة حتى العودة
لم يمرّ انتهاء المهلة المفترضة للانسحاب الإسرائيليّ من جنوب لبنان، البالغة 60 يومًا والتي نصّ عليها اتّفاق وقف إطلاق النار بعد أن دخل حيّز التنفيذ فجر الأربعاء في الـ 27 من تشرين الثاني (نوڤمبر) الماضي، مرور الكرام، بل حلّ مخضّبًا بدماء أبناء القرى الذين لم يكترثوا للتحذيرات الاسرائيلية، فزحفوا فجر الأحد الـ 26 من كانون الثاني (يناير) الجاري، لتفقّد قراهم التي نزحوا عنها لأكثر من 14 شهرًا وهم يعلمون أنها تحوّلت إلى أطلال وأكوام من ركام.
دخول أبناء القرى الحدوديّة إلى بلداتهم على رغم التحذيرات، وُوجه بالرصاص ممّا أدّى إلى سقوط 22 شهيدًا بينهم جنديّ وست سيدات وإصابة 124 بجروح مختلفة بينهم 12 سيّدة ومسعفًا. وحتّى كتابة هذه السطور فقد تمكّن الجيش اللبنانيّ من الدخول إلى بلدات وادي خنسا، عين عرب، بني حيّان، حولا، ميس الجبل، مارون الراس، عيترون، يارون، راميا، الضهيرة، يارين، أم التوت، الزلّوطيّة، الطيبة، دير سريان، بيت ليف، حانين، القنطرة، عيتا الشعب، والقوزح. في حين لم يتمكّن من الدخول إلى بلدات اللبّونة ومروحين وبليدا ومحيبيب ومركبا وكفركلا والعديسة وربّ ثلاثين وطلّوسة وتلّة الحمامص وسردا والوزّاني والعبّاسية والمجيديّة وبسطرة والسدّانة وبركة النقار ودير ميماس.
وبقيت الدعوات متواصلة لاستكمال الدخول إلى البلدات التي لم يتمّ الدخول إليها نهار الأحد، فيما تبدّت القرى التي دخلها أبناؤها منكوبة غير صالحة للسكن وغير قابلة للحياة. لكن كيف بدا مسار الأحداث بدءًا من تاريخ توسّع الحرب في الـ 23 من أيلول (سبتمبر) الماضي وما تلاه من محطّات أساسيّة في مسار الحرب، وصولًا إلى إعلان وقف إطلاق النار في الـ 27 من تشرين الثاني الماضي، وما تضمّنه من مهلة الـ 60 يومًا التي انتظر الجنوبيّون نهايتها، وبخاصّة أبناء القرى الحدوديّة بالأيّام والساعات.
دخول أبناء القرى الحدوديّة إلى بلداتهم على رغم التحذيرات، وُوجه بالرصاص ممّا أدّى إلى سقوط 22 شهيدًا بينهم جنديّ وست سيدات وإصابة 124 بجروح مختلفة بينهم 12 سيّدة ومسعفًا
توسُّع الحرب
لم يكن الإثنين الـ 23 من أيلول الماضي يومًا عاديًّا من أيّام الحرب، التي كان مضى على اندلاعها نحو 11 شهرًا. كان ذاك النهار مفصليًّا إذ شهد لبنان يومًا دمويًّا لم يشهد مثيلا له من قبل، تمثّل بقيام إسرائيل بأعتى حرب وأوسع هجوم واجتياح جوّي فشنّ طيرانها 1100 غارة وقع ضحيّتها حوالي 356 قتيلًا من بينهم أطفال ونساء وحوالي 1024 جريحًا، ليجد لبنان نفسه في بداية نفق أسود معتم لا أفق واضحًا اطلاقًا لنهايته.
ونتجت عن الإثنين المشؤوم موجة نزوح كثيفة من الجنوب، فغصّ أوتوستراد صيدا – بيروت بعشرات الألوف إن لم نقل مئات آلاف السيّارات التي جعلت عمليّة الوصول إلى بيروت أمرًا عصيبًا وشاقًّا إذ أمضى النازحون ساعات طويلة في رحلة تفتيشهم عن مناطق أكثر أمنًا، وهو ما أدّى إلى فتح مئات مراكز إيواء في مختلف المناطق اللبنانيّة لاستيعاب النازحين. هذا النزوح لم يكن الأوّل لأهالي البلدات الحدوديّة ممّن كانوا قد نزحوا منذ بداية حرب الإسناد التي أعلنها “حزب الله” في الثامن من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 إلى مناطق أكثر أمانًا في حينه، لا سيّما مدينة صور ومنطقتها ومدينة النبطية والقرى المجاورة.
وفي مقابل هذا النزوح الكبير الذي قُدّر بأكثر من مليون مواطن، قرّر عددًا لا بأس به من أهالي الجنوب والبقاع البقاء في مدنهم وقراهم على رغم المخاطر المحدقة بهم، وكذلك فإن جزءًا منهم عادوا إلى منازلهم بعدما ذاقوا معاناة التهجير وغلاء إيجارات المنازل في المناطق الآمنة بعد أن ارتفعت بشكل جنونيّ.
بدء العمليّة البرّيّة
تسارعت الأحداث والهجمات الإسرائيليّة، وبعد أقلّ من أسبوع، بدأ الجيش الإسرائيليّ عمليّته العسكريّة البرّيّة الثلاثاء الأوّل من تشرين الأوّل الماضي، ليدخل مسار الحرب مرحلة جديدة لم يتمكن أحد، في ذلك الوقت، من رسم معالمها ومسارها.
يرى العميد الركن حسن جوني، في حديث لـ “مناطق نت”، أنّ “تطوير العمليّة العسكريّة الإسرائيليّة وصولًا إلى اتّخاذ قرار بالدخول البري، جاء بعد سلسلة من الخروقات الأمنيّة، بدءًا من عمليّة تفجير البيجرز واغتيال قادة حزب الله وصولًا إلى اغتيال الأمين العام السيّد حسن نصرالله”، مضيفًا “استغلّت إسرائيل هذه الخروقات وما نتج عنها من دخول حزب الله في لحظة ضعف وضياع، ونفّذت غارات جوّيّة مكثّفة جدًّا على مخازن الصواريخ من دون معرفة نسبة التدمير الذي أحدثته”.
تعديل المهمّة
ويلفت إلى أنّه “بعد هذه الغارات بدأت العمليّة البرّيّة، وأعتقد أنّ الجيش الإسرائيليّ أخطأ بحساباته لأنّه قرّر البدء بالعمليّة البرّيّة اعتقادًا منه بأنّ حزب الله بعد كلّ ما حدث سيكون قد تشتّت أو انتهى ولن يُقاتل في الجنوب وستكون المهمّة سهلة، لذلك حشد خمس فرق عسكريّة، بعدد إجمالي تراوح بين 60 ألف و70 ألف جنديّ”. وأوضح أنّ “هذا الحجم من القوّة العسكريّة كان هدفه الأوّل الوصول إلى نهر الليطانيّ، ولكن عندما زجّ قوى الاستطلاع بالنار، سرعان ما اشتبكت مع عناصر الحزب واكتشفت أنّ هناك دفاعًا صلبًا ومتماسكًا على التخوم الأماميّة ممّا كبّدها خسائر كبيرة”.
بلدات بمرمى الدخول الإسرائيليّ
وحول معالم المهمّة الجديدة التي رسمها الجيش الإسرائيليّ في تلك الفترة، يقول جوني إنّ “تعديل مهمّته جاء على شكل إقامة منطقة عازلة أمام حدوده بعمق ثلاثة إلى خمسة كيلومترات، تقضي بتدمير كلّ شيء من بشر إلى حجر وشجر، كي تكون هذه المنطقة آمنة ومكشوفة بما يمنع 7 أكتوبر جديد من منطقة الجنوب اللبنانيّ، ولمُعاقبة المواطنين الذين يُشكّلون بيئة المقاومة وبنوا منازلهم على الحدود مباشرةً، فالإفراط بالتدمير للقرى الأماميّة وشموليّته لا يقتصر على الضرورات الميدانيّة وإنّما يحمل كذلك نوعًا من الانتقام”.
ويوضح جوني أنّه “في هذه المرحلة، نوّع الجيش الإسرائيليّ هجومه على كامل الجبهة وباتّجاهات مُتعدّدة، بحيث كان يناور وفقًا لمقتضيات الوضع، وركّز على منطقة عيتا الشعب ومارون الراس وكفركلا والعديسة والخيام”. ويؤكّد جوني أنّ سبب تركيزه على هذه البلدات “يعود إلى اصطدامه بمقاومة عنيدة من حزب الله، ولم يعد هدفه احتلال أراضٍ بقدر ما كان يسعى لتصفية مُقاتلي حزب الله”، مضيفًا “في هذه المرحلة اختلف الهدف، فلو كان الجيش الإسرائيليّ يسعى إلى احتلال الأرض كانت المناورة قد اختلفت كليًا واتبع أسلوب القفز فوق بعض المناطق وتطويقها ومحاصرتها وتدميرها، في حين أن هدفه بات قتل عناصر حزب الله ممّا يقتضي الدخول إلى معاقلهم، واعتبر هذه البلدات هي المعاقل الأساسيّة لهم”.
المرحلة الثانية للعمليّة البرّيّة
استمرّ الوضع كذلك أكثر من شهر، حيث كان أهالي الجنوب والبقاع يمكثون في مناطق التهجير بين مراكز الإيواء والشقق السكنيّة، يتابعون أخبار بلداتهم وقراهم بكثير من الحزن والأسى، فمنهم من فقد أحد أقاربه أو أصدقائه أو جيرانه، ومنهم من فقد منزله أو متجره أو أيًّا من ممتلكاته.
وفي بداية شهر تشرين الثاني الماضي، بدأت التسريبات والتصريحات الإسرائيليّة تتراوح بين توجّه الجيش الإسرائيليّ إلى إنهاء عمليّته البرّيّة بعد أن حقّق أهدافه، وبين إعلانه البدء بالمرحلة الثانية من العمليّة البرّيّة التي تستهدف الخطّ الثاني من القرى الاماميّة.
وفي الـ 12 من تشرين الثاني الماضي، حسمت إسرائيل قرارها ببدء المرحلة الثانية، واستبق الجيش الإسرائيليّ ذلك بإنذار سكّان 14 قرية بجنوب لبنان بإخلاء منازلهم “فورًا” تمهيدًا لقصف سينفّذه بتلك المناطق، دون تحديد سقف زمنيّ لعودتهم إليها.
في الـ 12 من تشرين الثاني الماضي، حسمت إسرائيل قرارها ببدء المرحلة الثانية، واستبق الجيش الإسرائيليّ ذلك بإنذار سكّان 14 قرية بجنوب لبنان بإخلاء منازلهم “فورًا” تمهيدًا لقصف سينفّذه بتلك المناطق
يشرح جوني أنّ “المرحلة الثانية من العمليّة البرّيّة لم تشهد أيّ خرق إسرائيليّ فعليّ سوى باتّجاه بلدة شمع وشبه سيطرة على بلدة الخيام”.
ويؤكّد جوني أنّ “الهدف الإسرائيليّ من المرحلة الثانية كان الدخول إلى النسق الثاني من القرى بعد أن دمّر النسق الأوّل ولكنّها كانت أصعب عليه، لأنّ طبيعة الأرض وجغرافيّتها أقسى وتسمح للمقاومة بالعمل بشكل أفضل، إذ إنّ القرى الأماميّة مكشوفة ومراقبة بالكامل وشهدت عامًا كاملًا من القصف والاستهداف في حين أن النسق الثاني كان مُتحضّرًا للمواجهة بشكل أكبر”. ويوضح جوني أنّ “الجيش الإسرائيليّ لم يتمكّن من التمركز وإنّما بقي محافظًا على مناورة متحرّكة مع التواجد في بعض المناطق المفتوحة والمكشوفة، وكان دائمًا يتعرّض لقصف صاروخيّ مستمرّ”.
ما بعد وقف النار والانسحاب
وفي فجر الــ 27 من تشرين الثاني الماضي دخل اتّفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان حيّز التنفيذ برعاية أميركية وفرنسية بعد حرب دامت أكثر من عام تخلّلها توسّع كبير في المواجهات لنحو 66 يومًا. وقد نصّ الاتّفاق على بنود عدّة من بينها انسحاب القوّات الإسرائيليّة من المناطق الحدوديّة التي دخلت إليها أثناء الحرب في مهلة 60 يومًا انتهت يوم الأحد الماضي.
ساعات قليلة على دخول اتّفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ حتّى غصّت الشوارع بأبناء الجنوب والبقاع العائدين إلى قراهم وبلداتهم، باستثناء البلدات الحدوديّة التي كان الجيش الإسرائيليّ لم يزل متمركزًا فيها. وفي هذا الصدد، يوضح جوني أنّه “بعد وقف إطلاق النار دخل الجيش الإسرائيليّ إلى مناطق لم يتمكّن من الدخول إليها خلال الحرب، وهذا انتهاك للاتّفاق ونكث بالعهود”. ولفت إلى أنّه “أثناء الحرب لم يتمكّن الجيش الإسرائيليّ من الدخول إلى بلدة الناقورة ووادي الحجير والطيبة وعيتا الشعب، إلّا أنّه استغلّ الهدنة وانكفاء عناصر حزب الله الذي اعتبر أنّه بعد وقف إطلاق النار لم يعد يستطيع الإسرائيليّ مهاجمة أيّ هدف في لبنان وفقًا للاتّفاق، وقام بالدخول إلى هذه المناطق وواصل عمليّات الهدم والتفجير”.
ويلفت جوني إلى أنّه “في المقابل، فإنّ الدولة اللبنانيّة اتّخذت قرارًا بالالتزام بموجبات القرار 1701 لإحراج إسرائيل والضغط على لجنة المراقبة، والمراهنة على انتهاء مهلة الـ 60 يومًا”.
وفي ما يتعلّق بآلية انسحاب الجيش الإسرائيليّ، أكّد جوني أنّ “الانسحاب دائمًا ما يكون منظّمًا ممّا يقتضي وجود خطّة تُحّدد مسالك التراجع ونمطه، وانسحابه من مناطق قبل مناطق أخرى هو دليل على أنّه لم يعد يريد منها شيئًا ولم يعد يوجد ما يُقلقه فيها بعد أن دمّر جميع البنى التحتيّة”، مضيفًا “بعد كلّ انسحاب للجيش الإسرائيليّ كان الجيش اللبنانيّ ينتشر في المنطقة بالتنسيق مع يونيفيل ويسمح بدخول الأهالي إليها”.
نتائج الحرب الإسرائيليّة
تعدّدت وتنوّعت الاعتداءات الإسرائيليّة على المناطق اللبنانيّة منذ الثامن من تشرين الأول 2023 إذ بلغ العدد الإجماليّ لجميع الاعتداءات 14775 اعتداء )بينها 7753 بعد توسّع الحرب في الـ 23 من أيلول 2024). وتوزّعت هذه الاعتداءات على الشكل الآتي: 13774 قصفٌ وغارات، 284 من قذائف فوسفوريّة، 89 من قذائف فوسفورية وقصف، 286 قنبلة مضيئة/ حارقة/ 196 اطلاق نار (لا يشمل الاشتباكات التي حصلت بين إسرائيل وحزب الله)، 60 قذيفة لم تنفجر، تسعة هدم، 49 تفخيخًا وتفجيرًا، 28 قنبلة عنقوديّة، وفقًا لتقرير المجلس الوطنيّ للبحوث العلميّة.
وبيّن التقرير أنّ محافظتي النبطية والجنوب شهدتا عددًا هو الأكبر من الاعتداءات منذ بداية العدوان، حيث توزّعت الاعتداءات الإسرائيليّة على الشكل التالي: 8574 اعتداءً في محافظة النبطية، 4657 في محافظة الجنوب، 762 اعتداءً في محافظة بعلبك الهرمل، 476 اعتداءً في محافظة جبل لبنان، 267 اعتداءً في محافظة البقاع، خمسة اعتداءات في محافظة الشمال، 24 اعتداءً في محافظة بيروت و10 في محافظة عكّار.
ووفقًا لوزارة الصحّة العامّة اللبنانيّة فقد بلغ العدد الإجماليّ للشهداء منذ بداية العدوان حتّى تاريخ الـ 27 من تشرين الثاني الماضي 3961 شهيدًا موزّعين على 2678 رجلًا و736 إمرأة و248 طفلًا، بالإضافة إلى 16520 جريحًا. موزعين على 12527 رجلًا و2827 إمرأة و1436 طفلًا.
وكما جرت العادة، قدّمت الصحافة اللبنانيّة عددًا من الشهداء خلال العدوان الإسرائيليّ بلغ عددهم 12 شهيدًا وتسعة جرحى.