مشمش بعلبك.. من بساتين ع مدّ النظر إلى ذكرى لوّحتها الشمس

ع الليلكي ع الليلكي/زهر ال ع الصدر ليلكي/ مشمش بعلبك ما استوى/ لولا استوى جبنا لكِ…مشمش بعلبك هالسنة/تعوقت ع الحلوة سنة..

هذه الأغنية التي نسج الرحابنة كلماتها من مشمش بعلبك وغنتها صباح بين عواميد القلعة، أرّخت لمشمش بعلبك الذي بقي اسمه بعد رحيله، ليروي حكايته وشهرته وتميّزه وتفرّد هذه المدينة بطعمه اللذيذ والرائحة الطيبة والجودة العالية. المشمس الذي كان أهالي المناطق اللبنانية يتباهون ويتفاخرون بتذوّقه.

يروي علي أحمد طه وهو أحد مزارعي بعلبك أنّ زراعة المشمش تعود إلى فترة الخمسينيّات، وأنها مرتبطة بتاريخ المدينة، حيث كانت أشبه بالغابات لكثافة الأشجار فيها. وقد قُدّرت حينها مساحة الأراضي المزروعة في بساتين بعلبك بحوالي 10 الاف دونم، شكّلت أشجار المشمش نسبة 80 % منها. يتابع طه أن أشهر هذه المساحات التي امتلأت بأشجار المشمش كانت “وادي حنا”.

اشتهرت بعلبك بداية بزراعة أصناف محددة من المشمش، أهمها نوعان “الكليبي” ومشمش “أم حسين”، ولاحقًا تعرّفت البساتين إلى أصناف جديدة منها المشمش الذهبي والعجمي والفرنساوي.

 

أشجار المشمش في بساتي بعلبك في خمسينيات القرن الماضي (الصورة مأخوذة من “صفحة أرشيف بعلبك”

كان المزارعون القدامى، أي الملّاكين للأراضي في بساتين بعلبك من آل الشياح، الزكرة، الشمالي، الرفاعي، طه، الخرفان، صلح، بيان، قانصوه وشلحة، يزرعون المشمس ويروونه من مياه نبع رأس العين. وجزء كبير من هؤلاء المزارعين البعلبكيين كان يعتاش من تصريف إنتاج هذا المشمش الّذي لاقى رواجًا، وهذا ما يؤكد عليه طه مشيرًا إلى أن الطلب عليه كان كبيراً ولم يكن الموسم يعرف الكساد، بل كان بمجرد نضوجه يتم تصريفه وبيعه.

مشمش عابرٌ للمناطق

ذاع صيت مشمش بعلبك بشكل كبير في المناطق اللبنانيّة كافّة، يعود ذلك إلى جودته الناتجة عن طبيعة الأرض وتربتها الخصبة، المناسِبة لزراعة المشمش والريّ المنتظم. يروي أحد المزارعين البعلبكيين أنه في موسم المشمس كانت تعبق رائحته في البساتين. ويضيف:”كان المشمش البعلبكي يُعد من الهدايا القيّمة التي تقدَّم للضيف الآتي من خارج المدينة سواء كان فاكهة، أو بعد تحويله إلى مربيات”.

لموسم المشمش في بعلبك وقع مميز، وصيت خاص. يقول طه إن الموسم كان ينتظره الناس من المناطق اللبنانية كافة، يقصدون المدينة لشراء المشمش ومربى المشمش. وكانت الكميات التي ينتجها المزارعون في بعلبك أقلّ من نسبة الطلب على هذا المنتج، ويعود ذلك إلى العمل الشاق الّذي يتطلّبه المشمش ليظهر بجودته المميزة الأصيلة، ولطريقة تحضيره حيث يؤكد طه أنّ غالبية نساء المزارعين من آل الشياح والزكرة والخرفان وطه كنّ يحضّرن هذه المنتوجات كما يحضّرنها لمنازلهنّ بعناية واهتمام، وكنّ يجمعن الحطب ويطهين المشمش في “حِلل” كبيرة ليصبح مربى على أنواعه (المفقوش، الممعوس.. وقمر الدين).

ما تبقى من مشمش بعلبك

اليوم، وبعد مرور أكثر من سبعة عقود، بات مشمش بعلبك حاضراً في الذاكرة فقط، ولم يبقَ للبعلبكيين واللبنانيين إلا الحنين إلى مذاقه. قُطع الكثير من أشجار المشمش المعمّرة ولم يبق لها أثر. لم يبقَ في بساتين مدينة بعلبك سوى القليل من أشجار المشمس المزروعة حديثًا، والقليل من أشجار التوت الشامي التي يبلغ عمر بعضها 150 عاماً ولا تزال صامدة حتى اليوم.

نساء المزارعين من آل الشياح والزكرة والخرفان وطه كنّ يحضّرن هذه المنتوجات بعناية واهتمام، وكنّ يجمعن الحطب ويطهين المشمش في “حِلل” كبيرة ليصبح مربى على أنواعه (المفقوش، الممعوس.. وقمر الدين).

شيئًا فشيئًا بدأت زراعة المشمش في مدينة بعلبك بالتراجع، ليختفي مع الوقت أكثر من 70 % من بساتينها، التي أصبحت مجرّد ذكرى وجزءًا من التراث الزراعي للمنطقة. يعود سبب التراجع هذا إلى أسباب عدة تضافرت وتآمرت على تلك الفاكهة التي كانت جزءًا لا يتجزأ من هويّة بعلبك.

من هذه الأسباب كما يشير طه، العمران والبناء الذي غزا منطقة البساتين بجزء كبير وحولها إلى أحياء سكنية، بالاضافة إلى عوامل تتعلق بالزراعة نفسها مثل قلة اليد العاملة، ونقص المياه لا سيما مع التعديات على مجاري نبع رأس العين، وحفر الآبار الإرتوازية في محيط البياضة. بالإضافة إلى ذلك، لم يعد لتلك الزراعة من معين بعد تقاعد المزارعين القدامى الذين كانوا قد أرسلوا أولادهم إلى الخارج لتحصيل العلم، حيث أن حوالي 60 % من هؤلاء الشباب يعملون اليوم في وظائف حكومية، وغيرهم هاجر ولم يعد. ما أدى إلى ابتعاد الناس عن امتهان الزراعة فأُهملت الأرض.

يقول طه: “حتى أولئك الذين استمرّوا في زراعة أراضيهم حتى اليوم، وأنا منهم، قمنا بقطع أشجار المشمش، وتوجهنا نحو الزراعات البديلة كالبطاطا والقمح خوفاً من موجات الصقيع التي تهدد موسم المشمش في ظل غياب التعويضات من قبل الدولة”.

بالرغم من أفول زراعة المشمش في بعلبك المدينة، وتحولها إلى ذكرى لوحتها الشمس، إلا أن منطقتها من قرى وبلدات شكّلت الوريث الطبيعي لتلك الزراعة التي انتشرت في معظم بلدات وقرى قضاء بعلبك وخصوصًا الشمالي منها، حيث جرى تطوير تلك الزراعة، لا سيما بعد إدخال أصناف جديدة منها. وبالرغم من محاولات حفاظ المنطقة على هذه الإرث إلا أن غياب الخطط الزراعية الخاصة بتصريف الإنتاج تقف عائقًا أمام المزارع الذي يشقى دون أن يلقى ثمار تعبه.

بعض الصور مأخوذ من “صفحة أرشيف بعلبك”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى