“منشيّة” بعلبك بانتظار التمويل كي تُبعث من جديد

خلال تشرين الثاني (نوڤمبر) الماضي، وفي خضمّ الحرب الإسرائيليّة المدمّرة على لبنان، استهدفت غارة مبنى “المنشيّة” الأثري قرب هياكل بعلبك وحوّلته إلى ركام. الحدث لم يكن عاديّا أبدًا، والخسارة أيضًا، فأن تغدو بعلبك بلا “منشيتها” لهو حدث كبير وخسارة في آن. ليست المنشيّة مبنىً تراثيًّا يعود إلى عقودٍ خلت، بل هي شاهدة على تحوّلات بعلبك وحارسة لذاكرة المدينة وتاريخها، وبزوالها لا يغيب حيّز مهمّ من مشهد بعلبك البصريّ فحسب، بل معلم رسخ في ذاكرة البعلبكيّين ممّن عايشوه من جيل إلى جيل.
يعود تاريخ بناء المنشيّة (المنشيه هو المكان الرئيس بالمدينة أو القرية أو المركز التجاري فيها) إلى العام 1928 في إبّان الانتداب الفرنسيّ على لبنان، وذلك بحسب نقش منحوت على أحد أحجارها. بنيت قبالة أوتيل “بالميرا” الشهير، وتعتبر أوّل مقهى في بعلبك، إذ كانت عبارة عن “بار” و”بوفّيه”، يرتادها الضبّاط الفرنسيّون، ثمّ تبدّلت وظيفتها على مرّ الأيام وانتهت أخيرًا تلك النهاية المأسويّة بقذائف طائرات الموت الإسرائيليّة.
اليوم، ينتظر كثر من أبناء بعلبك والجوار نهوض “المنشيّة” من بين ركام الحرب وأن تُبعث من جديد، إذ إنّ إعادتها إلى الحياة ليست مجرّد ترميم لحجارة عبثت بها الحرب، بل محاولة لاستعادة جزءٍ من روح المدينة وإرثها، وأيضًا من مشهدها البصريّ الذي حاول الاحتلال الإسرائيليّ تدميره.

معلمٌ وحّد الأصالة والتراث
يتألّف مبنى “المنشيّة” من طابقين، ويصفه الموظّف في المديريّة العامّة للآثار المهندس خالد الرفاعي، بأنّه “عمارة تقليديّة قديمة بُنيت على الطراز العثمانيّ، بنوافذ حديدية طويلة ومشرّبيات أنيقة، وترّاسٍ جانبي مسوّر بالحديد”. ويتابع الرفاعي لـ “مناطق نت”: “تبدّلت وظيفة المبنى مرّات عدّة منذ بنائه وحتّى تدميره، ففي فترة كان مقهى يرتاده عديد من أهل المدينة وسكّانها، ومن ثمّ تحوّل في فتراتٍ لاحقة إلى معرض للثياب والتصاميم الفولكلوريّة– التراثيّة”.
من جهته، يوضح رئيس بلدية بعلبك مصطفى الشل لـ “مناطق نت” أنّ “هذا المبنى التاريخيّ ارتبط بمهرجانات بعلبك الدوليّة، واستُخدم خلال إحدى الفترات كمعرض للثياب والعباءات التراثيّة البعلبكيّة، وكان ضيوف المهرجانات يزورون المعرض”.
الترميم حلمٌ مؤجّل
لا شكّ من أنّ مبنى يحمل هذه القيمة التراثيّة والتاريخيّة، ويمثّل جزءًا من هويّة بعلبك، يستحقّ إعادة إعماره حفاظًا على ذاكرة المدينة. وهنا، يشدّد الشل على “أهمّيّة المنشيّة كمعلمٍ تاريخيّ شاهد على مراحل مختلفة من ذاكرة المدينة”. كذلك يكتسب أهمّيّة إضافيّة لقربه من فندق “بالميرا” الشهير الذي استضاف على مدار عقود، شخصيّات بارزة زارت بعلبك.

وبالفعل، نفّذ رئيس بلدية المدينة الخطوة الأولى نحو إعادة الإعمار، ويُؤكّد أنّه تواصل “مع مالكي المنشيّة، إذ إنّها ملكيّة خاصّة وفي الوقت نفسه مبنى مصنّف من قبل المديريّة العامّة للآثار على لائحة الجرد العام”. ويضيف الشل “طلبتُ إعداد تصميم يضمّ تفاصيل المبنى تاريخيًّا لمعرفة تكوينه وهندسته، لنباشر الترميم في حال تأمّن تمويل خارجيّ، ولا أزال حتّى اليوم أنتظر ردّ مالكي العقار”.
وبحسب الشل “ففي مثل هذه الحالات، تتولّى جهات مانحة دوليّة عمليات بناء وترميم المباني التراثيّة على نحو مبنى المنشيّة، لأنّ المديرّية العامّة للآثار غير قادرة على تنفيذها بسبب كلفتها المرتفعة، وكونها تتطلّب فريقاً متخصّصًا”. ويوضح الشلّ أنّ طلبه “استند إلى ما شاهده على التلفزيون التركيّ الذي طرح فكرة إعادة بناء المنشيّة التراثيّة”. ويشير إلى “عدم تبلور أيّ مشروع جدّيّ، إذ لم تتحرّك بعد أيّ جهة مانحة، لذا لا يتوافر الآن أيّ تمويل لمشروع إعادة البناء”.
المنشيّة بين الركام والأمل
ويلفت الشل إلى “ضرورة إعادة بناء المنشيّة وفقًا للشروط والمعايير التي تحدّدها المديريّة العامّة للآثار”. ويضيف “في حال لم نتمكّن من إعادة بنائها، يجب أن يحظر أيّ بناء على العقار، أو استعماله لأيّ غرضٍ كان”.
الشل: طلبتُ إعداد تصميم يضمّ تفاصيل المبنى تاريخيًّا لمعرفة تكوينه وهندسته، لنباشر الترميم في حال تأمّن تمويل خارجيّ، ولا أزال حتّى اليوم أنتظر ردّ مالكي العقار
وفي هذا الصدد، يشير الرفاعي إلى “وجود نيّة لدى أصحاب العقار لإعادة بناء المنشيّة كما كانت، بترخيص وتحت إشراف المديريّة العامّة للآثار وبالتنسيق معها”. ويؤكّد أنّ “مشروع إعادة بنائها ضمن المواصفات نفسها والطراز المعماريّ العثمانيّ، مع الحفاظ على جميع التفاصيل والموادّ المستعملة، أُعدّ وعُرض على المديريّة العامّة للآثار ووافقت عليه مبدئيًّا، وسيبدأ الترميم قريبًا في حال توافر التمويل اللازم”.
“وفي حال توافرت أموال وكلف الترميم وانطلاق العمل بالمشروع، فإنّه لا يتطلّب أكثر من سنة ليصبح ناجزًا وتعود المنشيّة التراثيّة مثلما كانت” بحسب الرفاعي. لذا، يُعدّ التمويل الآن عثرة وحيدة تقف عائقاً أمام إعادة البناء.
ويختم الشل حديثه بالقول إنّ “الهدف من تدمير المنشيّة هو تدمير تراث بعلبك، وإعادة بنائها أمرٌ ضروريّ للحفاظ على هذا التراث”.