من غزّة إلى الجنوب طفولة تقصفها الحرب وآلات القتل والدمار
في الثمانينيّات غنّت ريمي بندلي، وكانت في حينه، طفلة في السادسة من عمرها “اعطونا الطفولة.. اعطونا السلام”؛ منذ ذلك الوقت يتناقل العالم نوستالجيا الطفولة المقهورة، “يا عالم أرضي محروقة، أرضي حرّيّة مسروقة..”. قبل بندلي غنّى خالد الهبر لأطفال عيترون الذين استشهدوا جرّاء ألعاب مفخّخة كانوا يلهون بها في بلدتهم الواقعة على الحدود مع فلسطين المحتلّة، وذلك في العام 1975 فأنشد: “أطفالك عيترون يضحكون في الخنادق، يلهون بالبنادق، يصنعون من شظايا القذائف ألعابا … يرقصون حول جثّة مناضل، يرقصون كمن يقاتل…”
“لكلّ طفل حقّ أصيل في الحياة” هذا ما تنصّ عليه اتّفاقيّة حقوق الطفل وتزيده من قوانين لحماية الأطفال في زمن الحروب، بصفتهم مدنيّين يحظون بحقّ الحماية من جميع أشكال سوء المعاملة.
وتتعهّد الاتّفاقيّات الدوليّة بحماية حقوق الطفل، وتنصّ في موادها على جملة من المفاهيم، ومنها عدم التمييز، ومصلحة الطفل الفضلى، والحق في البقاء والحياة. وفي اتّفاقيّة جنيف هناك 25 مادّة تتناول حماية الأطفال ضدّ الآثار الناجمة من النزاعات المسلّحة وتجنّب القتال وسط المدنيّين.
لكن، منذ السابع من تشرين الثاني/ أكتوبر 2023 والهشاشة تظهر بكلّ نرجسيّتها لتعكس ضعف هذه القوانين أمام آلة الحرب الإسرائيليّة تحديدًا.
“لكلّ طفل حقّ أصيل في الحياة” هذا ما تنصّ عليه اتّفاقيّة حقوق الطفل وتزيده من قوانين لحماية الأطفال في زمن الحروب، بصفتهم مدنيّين يحظون بحقّ الحماية من جميع أشكال سوء المعاملة.
وكأنّه لا يكفي أن يعيش أطفال الجنوب صدمات أهليهم من الحروب السابقة، لتعيد هذه الحرب الكرَّة في جيل اليوم، وتذكّر العالم بدمويّتها التي لا تراعي ذمّة ولا ضميرًا، وتعود لتنغرس في الحاضر والمستقبل.
“شي انتشلن وأخذن منّي ع عالم تاني”
عايش الأطفال مشاعر القلق والخوف ممّا يحصل في غزّة، رأى كثير منهم مشاهد مروّعة لقتل الأطفال واستباحة دمائهم وذكرياتهم وحقّهم في الحياة، حتّى كان تاريخ الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر 2023 بين بلدتيْ عيترون وعيناثا الحدوديّة مع أرض فلسطين المحتلّة، إذ استهدفت مسيّرة إسرائيليّة سيّارة مدنيّة كانت تقلّ الجدة الحاجّة سميرة أيّوب والحفيدات الثلاث: تالين وليان وريماس شور برفقة والدتهن هدى حجازي.
استشهدت الجدّة والحفيدات الثلاث على الفور، وجُرحت الأمّ لتبقى شاهدًا حيًّا على الفجوة النفسيّة التي خرقها العدوّ في قلب الجنوب. ظهرت الأمّ في المقابلات الصحافيّة ممدّدة على فراش المستشفى، تروي بهدوء انفعاليّ كثيف حكاية بناتها اللواتي كنّ محبّات لضيعتهنّ وينتظرن نهاية الأسبوع لزيارة بيتهن هناك: “ولادي كانوا معلّقين بالضيعة، معلّقين بالجنوب، بريحة الجنوب، طبختلن الطبخات، حطّوا ألعابن، شنط المدرسة وحملنا ألعابن.. مرقنا بعيترون عالتعاونيّة جبتلن ميّ وحلوى وشوكولا، طائرة الاستطلاع الإسرائيليّة كانت فوقنا وشافتنا.. وفجأة طلعت ضربة..”.
وفي ما يشبه المواساة، تضيف: “ما حسّيتن إنّو احترقوا، في شي انتشلن وأخذن منّي ع عالم تاني”. لم تكن الأمّ الثكلى تعلم أنّ همجيّة العدوّ ستطال طريق العودة بين بلدتي عيترون وعيناثا إلى بيروت، ولم تكن تعلم أنّه يومهنّ الأخير في هذه الدنيا، وأن الرحيل قد حلّ من حيث لا تدري، فعبّرت عنه الأمّ بنفس إيمانيّ وروحانيّة عالية، تقاوم الفجيعة بصوت متعب يظنّه السامع برودة أعصاب، ولكنه لا يَخفى على المُصغي وجعه وآثار صدمة ليس لزوالها آنٌ قريب.
“ما أصعب من الموت إلا فراق الأحبة”
كان الأب جلال محسن عائدًا عصر يوم 14 شباط /فبراير 2024 من عمله، على أثر سماعه دويّ انفجار كبير. كان الطريق إلى البيت مغلقًا، وعندما سأل أين حدثت الضربة؟ علم أنّها في بيته. “ما أصعب من الموت إلّا فراق الأحبة”، يقول جلال محسن زوج الشهيدة روعة المحّمد (سوريّة الجنسيّة) ووالد الطفلين الشهيدين حسين محسن (13 عامًا) وأمير محسن (6 أشهر).
ببِذلة الكشّاف، ووقفة طفوليّة متأهّبة، وشعر مرتّب ظهر حسين في الصور التي تناقلتها مواقع الأخبار. في ذاك اليوم، كان الطفل حسين ينتظر سيّارة تقلّه للذهاب إلى بيت جدّه لأمّه ولقاء والدته (اللبنانيّة) هناك.
تروي الجدّة كيف كان حفيدها محبًّا ومؤنسًا ويحبّ تعليمها القراءة والكتابة. في الوداع الأخير كان الأب يحتضن جثتَي طفليه قبل أن يواريهما في الثرى.
ببِذلة الكشّاف، ووقفة طفوليّة متأهّبة، وشعر مرتّب ظهر حسين في الصور التي تناقلتها مواقع الأخبار. في ذاك اليوم، كان الطفل حسين ينتظر سيّارة تقلّه للذهاب إلى بيت جدّه لأمّه ولقاء والدته (اللبنانيّة) هناك.
ضحكات أمير في “فيديو” مصوّر تناغيه والدته تحوّلت إلى مسامير تدقّ في نعش الإنسانيّة الآيلة إلى السقوط في مستنقع العدوان الغاشم، أمام هول الكارثة التي لم ينهل الإعلام اللبنانيّ والحكومة اللبنانيّة منها، سوى كلمات رثاء وعواطف مؤقّتة متأرجحة لا تليق بحجم الكارثة.
الطفولة الشهيدة في النبطية
مسيرة شموع نظّمتها المدرسة الإنجيليّة الوطنيّة في النبطية تحيّة لروح الشهيد الطفل محمود علي عامر، الذي استشهد مساء الأربعاء في 14 شباط/ فبراير 2024 في مجزرة النبطيّة مع أمّه وخمسة شهداء آخرين من عائلة برجاوي، عائلة الجدّ، حيث ارتقت أرواحهم الشهيدة إلى علياء لا نراه ولكن نسمع عنه، وبقيت جثثهم وأشلاؤهم وصمة عار في وجه المجتمع الدوليّ، الذي لا يملك أن ينطق كلمة حقّ في وجه عدو جائر غاشم، لا تثنيه مواثيق ولا حدود، عن استهداف الأطفال وقتلهم. في الصورة يحمل محمود شهادات الروضة، بملامحه الحلوة، وصورته الملائكيّة.
بقي أخوه حسين علي عامر حيًّا بأعجوبة، في المشهد يظهر ابن الرابعة ببيجامته الزرقاء، وبوجه مضرّج بالدماء، ربّما كان نائمًا حينما وقع العدوان. ينظر بريبة واستغراب، وينتظر ببكاء من ينتشل جسده من تحت الركام، يتمسّك بجسد المسعف ويحني رأسه في انتكاسة الألم. عاد حسين إلى بيته في السكسكيّة، لكن من دون أمّه “الحلوة” كما يراها، ومن دون شقيقه محمود.
تمكّنت فرق الإسعاف من انتشال الطفل حسين علي عامر حيًّا بعد ساعات من البحث عن ناجين. والد حسين ما زال في المستشفى يعاني من إصابات بالغة، بانتظار شفائه لعلّه يعوّض على حسين قليلًا من الفقد.
أمل حسين الدرّ ملاك تشظّى
“شو بدّي حدّثكن عن أمل” تقول الأمّ الثكلى للإعلاميّة التي لم تبرح تطرح أسئلة الانتماء والهويّة وفتيل الحزن والتفجّع يغلي في قلب الأمّ. كانت أسئلة خارج إطار المشهد، تعيدنا إلى هشاشة بعض الإعلام اللبنانيّ، الذي لم يعد يرى في الأرواح سوى علامة من علامات تأكيد التمذهب والتحزُب.
“كانت ورايي لمّن طلعت الضربة، كنت حاملة ليلى (ابنتها الصغيرة)، قرّبت عالكراج إحمي ليلى من الحجارة وأمل ضلّت.. ضهرت لقيت أمل بالأرض.. حملت أمل اللي راحت، حدا بيحمل بنتو هي وهيك.. يا ويلي أنا شو بدي قول؟” .
استشهدت أمل ابنة السادسة، في بلدة مجدل زون متأثّرة بجراحها، إلى جانب المواطنة خديجة سلمان، في غارة استهدفت حيّ المشاع في أطراف بلدة المنصوري، لناحية بلدة مجدل زون بتاريخ الأربعاء في 24 شباط/ فبراير 2024.
يقول الأب: “أمل طلعت (شيّعت) من البيوت كلّها”. كان الوالد المفجوع بفلذة كبده يتجنّب أن يرى مشاهد الموت، وهو يحصد أطفال غزّة بلا رحمة، ولم يكن ليعلم بأنّ ما تجنّب رؤيته حدث في بيته، لابنته، “قدّمت ابنتي، وانشالله تكون فداءً عنكن كلكن” بعبارة الصبر والتحسّب، ينتظر الأب ابنته الشهيدة أن تأتيه في منامه لتواسيه وتصبّره على فراقها وتبرّد قلبه وقلب أمها.
“أنا قلت للمسّ إنّك مِتّي” تقول صديقة أمل في مقطع صوتيّ. يدرك الأطفال الموت بحسّهم النامي، وبما يرونه ويسمعونه عن أطفال غزّة: “يعني معشّ بدّك تنزلي عالمدرسة بدك تضلّي ميتة؟”
الموت بالنسبة للأطفال هو نوم، إنّما من نوع آخر. هكذا يصفونه، وهكذا يتراءى لهم من خلف هذا الدمار الذي يلفّنا بمآسيه. وبالرغم من أنّ وقع الموت واحد، إلّا أنّه حين يقترن بالطفولة، يصبح وقعه مضاعفًا وأقسى، وتأثيره أعظم. هكذا تبدّى “موت أمل” التي اجتاحت صورها وسائل التواصل، مع كلّ ما حمله وجهها بما ينضح من أنوثة وطفولة ووجع.