من يُطفئ مكب “الموت” في البيساريّة؟
“إنت وطالع عالجنوب، في مكب بيضل والع.. إيه هونيك”.. أهلًا وسهلا بكم في البيسارية، شارع العاقبية.
تتبع العاقبية إدارياً وعقارياً بلدة البيسارية. أبرز ما يميزها، مكب يحترق على مدار السنة، تحوّل إلى بؤرة للأمراض والتلوث والنسيان، في دولة باتت عاجزة عن معالجة قضايا أساسية ملحة، أولها نفاياتها. المضحك المبكي، أننا نستدل على بعض المناطق بمكباتها أو “تعدياتها”.
لمن يسأل ويتساءل، عمر المكب أكثر من 10 سنوات، سنة وراء سنة، بلدية تلو بلدية ووعود وأرواح وراءها أرواح، لا سميع ولا مجيب. إنّها حكاية ليست مستغربة في لبنان، بل نمط حياة اعتدنا عليه. إضافة إلى ذلك، يمتدّ الحريق الذي يستمرّ بالتوسّع على مدار اليوم، ويتصاعد الدخان منه بشكل دائم، ومن ذلك المكان بالذات دون توقّف أو انحسار.
الاحتراق الدائم للمكب يعود لسببين، الأوّل أنّ بعض النفايات فيه هي بطبيعتها قابلة للاشتعال، أي معرضة للاحتراق الذاتي، وبالتالي تصبح مصدرًا لانبعاث الغازات القابلة للاشتعال لدى ملامستها الماء أو الهواء. وثانيها، أنّ أيدٍ “مباركة” تأتي ليلاً لتحرق ما تيسّر، إخفاءً للجريمة وتخفيفًا من الحمل الثقيل الذي باتت تنوء به الجبال.
وبالرغم من كل التلوث الناتج عن اشتعال المكب بشكل دائم، هناك ما هو مضافاً لذلك ويشكل خطراً على السلامة العامة المرورية، حيث علم “مناطق.نت” أنّ أكثر من شخص نجا من حوادث سير محتّمة على الأوتوستراد الساحلي عند نقطة العاقبية، وذلك بسبب الدخان الذي يغطي المكان ليلاً، والناتج عن المكب الذي يحاذي الأوتوستراد تقريباً، حيث تصبح الرؤية مستحيلة في بعض الأحيان بسبب خليط النفايات التي تحترق وتتسبب في ذلك.
جريمة بحق الطبيعة
المفارقة المحزنة أن مكب النفايات الذي نتحدث عنه ويبقى مشتعلاً طوال الوقت يتوسط بساتين زراعية (حمضيات وموز) وطبيعة جميلة وخلابة. وبين تلك الطبيعة ترتفع جبال النفايات التي تحاذي مجاري مائية (سواقي) تتجه نحو البحر. أيضاً التلوّث البصري لا يقل فداحة عن التلوث الصحي والبيئي، وذلك يتمثّل بأكوام النفايات وهي تتدلى على أشجار الموز والحمضيات في مشهد أقل ما يقال فيه أنه جريمة موصوفة بكل المقاييس.
تُقدّر الكميات التي تُرمى في مكب النفايات في بلدة البيسارية بأكثر من 20 طن يومياً، تُرمى وتُكدّس دون أي معالجة، لا فرز ولا إعادة تدوير، ولا حتى الحد الأدنى من شروط تجميع النفايات. إرمِ و”خليها على الله”.
تُقدّر الكميات التي تُرمى في مكب النفايات في بلدة البيسارية بأكثر من 20 طن يومياً، تُرمى وتُكدّس دون أي معالجة، لا فرز ولا إعادة تدوير، ولا حتى الحد الأدنى من شروط تجميع النفايات.
هكذا يتم التعامل مع معظم النفايات في لبنان، إلا أنّ الفارق في الأمر والأخطر، أنّ مكب البيسارية لم يقتصر على مخلّفات المنازل فقط، بل أصبح مقصداً لنفايات وبقايا مسالخ اللحوم والدجاج المحيطة بالمكب، وهذا ما يجعله يرتقي إلى مجزرة بيئية بامتياز حيث التلوث يطال التربة والهواء والمياه الجوفية، إضافة إلى السلامة المرورية المهددة، بفعل الدخان الناتج عن احتراق المكب والذي يملأ الأوتوستراد المحاذي لبلدتيّ البيسارية وتفاحتا.
عظام وبقايا لحوم ودجاج وكل ما لا يخطر على البال، ترمى دون أدنى مسؤولية وضمير، تتكدس فوق بعضها البعض، لتنتج حفنة أمراض وميكروبات وسموم وروائح وحشرات لا يمكن أن تجتمع في مكان آخر. ما يأخذنا إلى تساؤل:”من قال أنّنا لا نخترع وننتج!”.
مكبّات الموت المؤجّل
وثّقت دراسات علمية عدة مخاطر الانبعاثات من المحارق في الهواء الطلق على صحة الإنسان. منها التعرّض لجزيئات دقيقة، الديوكسين، المركّبات العضوية المتطايرة، ومركبات كل من الهيدروكربون العطري متعدد الحلقات وثنائي الفينيل متعدد الكلور، التي ترتبط بأمراض القلب والسرطان وأمراض الجلد والربو وأمراض تنفسية. كما ينتهك الحرق في الهواء الطلق قوانين حماية البيئة اللبنانية، التي تمنع انبعاث الملوثات في الهواء، بما فيها الروائح المضرّة والمزعجة. افتقار الحكومة للعمل الفعال في مواجهة انتشار حرق النفايات في الهواء الطلق، ونقص المراقبة الملائمة والمعلومات حول ضررها على الصحة، ينتهكان التزامات لبنان بموجب القانون الدولي، منها واجب الحكومة احترام وحماية حق التّمتّع بصحّة سليمة.
في حديثه لـ “مناطق.نت” أكّد أستاذ العلوم الجرثومية في كليّة الزراعة والعلوم الغذائية في الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة جورجيا في أميركا الدكتور “عصمت قاسم”، أنّ هذا النوع من المكبات التي تنتشر وسط أراضٍ زراعية خصبة، ليس محصوراً في بلدة البيسارية، بل هو موجود في بلدات جنوبية عدة أبرزها “طيردبا”. وبالنسبة للمخاطر، قال قاسم إنّ مجموعة من المواد الكيميائية عالية السمّية تؤدي إلى الإصابة بالسرطان وهي موجودة في الهواء المحيط الناتج عن ظاهرة حرق النفايات، وهي الـ«ديوكسين» والـ«هيدروكربونات» العطرية متعددة الحلقات. ولفت إلى خطورة الـ«ديوكسين» قائلًا إنّه يُعدّ من الملوّثات الثابتة التي تبقى في الهواء وتعلق على السطوح كالأجسام الجامدة والأجسام الحية.
هذا النوع من المكبات التي تنتشر وسط أراضٍ زراعية خصبة، ليس محصوراً في بلدة البيسارية، بل هو موجود في بلدات جنوبية عدة أبرزها “طيردبا”
قاسم الذي أشار إلى أنّ الحرق العشوائي وغير المكتمل يؤدي لنشر مواد كيميائية مسرطنة تؤثر على البشر وتلوث المياه وسلسلة الغذاء، شدّد على أنّ موضوع المكبات في الجنوب هو موضوع يتابعونه منذ فترة طويلة. وأكّد أنّ معظم مكبّات الجنوب لا تُعالج النفايات، وتدمر مساحات زراعية وسياحية هائلة، هذا فضلاً عن صحة المواطنين المهدّدة نتيجة هذه المكبّات.
بحسب باحثين في “الجامعة الأميركية في بيروت”، فإن 10 إلى 12% فقط من نفايات لبنان لا يمكن تسبيخها (تحويلها إلى سماد) أو إعادة تدويرها، مع ذلك فإن 77 % من تلك النفايات تُرمى في مكبات مكشوفة أو تُطمَر. وبالاعتماد على أرقام وزارة البيئة، هناك 941 مكباً مكشوفاً في البلاد، منها 617 للنفايات المنزلية الصلبة، أكثر من 150 منها تُحرّق في الهواء الطلق بمعدل مرة واحدة في الأسبوع على الأقل.
أمام كل ذلك، هناك غياب تام لوزارة البيئة بوزرائها الذين مروا على مدى سنين. لا من “يشم” أو من يمرض. يمرون في زيارات كل سنة مرة، “يسّمّعون” التصاريح ذاتها ويمضون على جثث من أصيبوا بالسرطان أو بمشاكل صحية أخرى ساهمت في مشاريع موتهم المؤجّلة.
مكبّ البيساريّة.. وراثة “بلدية”
يقول الناشط البيئي سليم يونس لـ”مناطق.نت” إنّه منذ سنوات عديدة حاول مع بلدية البيسارية المساعدة في الوصول إلى حل لذلك المكب، إلا أنّ لا نتيجة. وعود واجتماعات ومبادرات، كلها لم تصل إلى خاتمة سعيدة. “حاولنا الفرز من المصدر، معالجة بعض النفايات، والكثير الكثير.. إلا أنّني لم أستطع وحدي حل مشاكل نفايات بلدات بكاملها دون أي مساعدة أو مساندة”، يقول يونس.
ويضيف ساخراً أنّه بصدد دراسة تتركز على محاولة فهم تفكير قاطني تلك المناطق، فكيف لهم أن يقفوا متفرجين، دون أدنى شكوى أو احتجاج؟ موت يحيط بهم وأمراض تتغذى على أجسادهم وصحة أطفالهم وأحبابهم، ولا من يعي حجم الكارثة. ربما هو الموت “الوطني”، الذي يمكننا تعريفه بأنّه حالة من الاستسلام لواقع وطن لا أمل منه.
يشير شهود عيان أنّه لا يمكن التجول في تلك المنطقة لدقائق معدودة، حيث يصابون فوراً بصداع من الرائحة الكريهة والسموم المنبعثة، فما حال السكان القريبين من المنطقة، لا بل ما حال الحراس هناك، حيث علمنا أنّه يوجد حارساً للنفايات وباب حديدي للمكب، ربما خوفاً من سرقة هذه الثروة البيئية الضخمة! فيما يؤكد آخرون أنّهم اعتادوا، اكتسبوا “مناعة” على مدى السنين الماضية.
في المقابل، ينفي رئيس بلدية البيسارية نزيه عيد أن يكون المكب مقصداً لما تبقى من المسالخ، ويؤكد أنّه منذ 3 سنوات منع ذلك منعاً تاماً، مشيراً إلى أنّه حاول إيجاد حلول مستدامة إلا أنّ الأزمة الاقتصادية الأخيرة قضت على الأمل المتبقي. وفي حديث مع “مناطق.نت”، لفت عيد إلى أنّه “ورث” المكب من البلدية التي سبقته، وأنّه أسوأ ما يمكن توريثه، مناشداً أي جمعية أو جهة لأن تأتي وترى حال المكب، آسفاً أن يكون عنوان بلدة البيسارية خصوصاً والجنوب عموماً مكب عشوائي كهذا.
وفي السياق، يشير عيد إلى أنّ قاطني بلدة البيسارية يتخطون الـ 22 ألف نسمة، بينهم حوالي 8500 نازح سوري و6000 لبناني من جميع المناطق اللبنانية و1700 فلسطيني، إضافة إلى أهالي البلدة الذين يقدرون بحوالي 5000 نسمة. الأمر الذي يجعل البلدية، خصوصاً في ظل الأزمة المالية التي تعانيها، عاجزة عن معالجة ما يمكن أن ينتج من نفايات خارجة عن قدرتها الاستيعابية.
وعن موضوع الحريق الذي لا ينطفئ، يرفض عيد فكرة أن يكون احتراق المكب بفعل فاعل، ويجزم بأنّ المكب يُغلق تماماً ويمنع الدخول إليه ظهر كل يوم، مؤكداً في الوقت نفسه أنّ الحريق ينتج عن تفاعل النفايات. مضيفاً أنّه كان قد سبق وعالج موضوع الحريق في السابق ليخمده على مدى 3 سنوات، إلا أنّ الأمور عادت وخرجت عن السيطرة.
أزمة النفايات التي شكلت على مدى السنوات الماضية مشكلة يتقاذفها المسؤولون والوزارات والبلديات، هي في النهاية لا تصيب إلا صحة المواطن، فإما أن تحيله على قائمة المرضى بإحدى المشاكل الصحية، أو على لائحة الانتظار. وبطريقها تمر على المساحات الخضراء التي “زمطت” من الحرائق أو العمران، لتحولها إلى منطقة خطرة لا ينصح المرور بجانبها.
جهات عديدة تتحمل المسؤولية، وترميها من يدٍ إلى يد. هي حكاية لم يشأ الفساد والدولة بوزاراتها ومؤسساتها المعنية أن يكتبوا لها نهاية، لا بل تتجدد وتتمدد وتتوسع كلما ازداد بنيان الدولة ومؤسساتها هشاشة. بعد كل هذا، يقف المواطن الجنوبي أمام سؤال واحد يخطر في بال كل من مر مِن أوتوستراد الجنوب “من يطفئ مكب الموت في البيسارية؟”.