العود الأبدي للحنين.. ما السرّ وراء “صور”؟

“الفاصل بين الماضي والحاضر والمستقبل هو وهم عنيد مستمرّ”

بالإذن من فرويد مجدّدًا، نحن لا نمرّ بمرحلة الطّفولة مرّة واحدة، شيء ما يبقى عالقًا في هذه الدّوامة إلى الأبد. الذين عرفوا أنفسهم جيّدًا وصدماتها الماضية وفكّكوا العقَد، سيكرّرونها مرة تلو الأخرى وتُعاد الكرّة. هكذا أتت فكرة الخلاص الوهمي بالفن. دائمًا ما تبدو الكتابة عمليّة بناء لحياةٍ ثانية تجري في بُعد زماني ومكاني لا نعرفه الآن. في حياةٍ قادمة ربما نتشارك حيواتنا مع شخصيّات وإسقاطات نقرؤها الآن في رواية أو قصائد أو نراها في رسومات.

ليس فقط التّاريخ يعيد نفسه، ربما الحياة كذلك. لذلك لن تنتهي الصّدمات ولا الحنين ولا العقَد المستدامة التي فرّغناها في الفنّ ظنًا أننا نتخلّص منها، لأنّنا ببساطة نشعر بالأمان من خلال العودة إلى حميميّة الذكرى حتى لو كانت سوداوية ووحشيّة. سنقابل مخاوفنا المألوفة دائمًا، وكلّ ما تخلّصنا منه وسنصطدم بها بأكثر الطرق عنفًا في الأحلام والحيوات المتتالية ودوران الزّمن وفي العود الأبدي للحنين.

ثلاث قصائد ملحميّة كُتِبَت في حضرة “صور”، وبثلاثة أنواع شعريّة: المحكيّة، الموزون، والنّثر. اجتمع الشّعر، كل الشعر، للكتابة عن هذه المدينة، كلّ شاعر بحسب رؤيته وقصته معها. يُولد الشّعر في قلب الأطراف والقرى، في السّهل والوديان وبين الشجر ويبقى حاضرًا في القصائد حتى لو كُتِبَت في أقصى المدن. الّذين تغنّوا ببيروت في قصائدهم كتبوا عنها وكأنّها أسطورة، صقلوها بالتّمجيد والتّعظيم والوهم. هم ذاتهم حين كتبوا عن قراهم البعيدة حوّلوها إلى حقيقة. ما السّر في “صُور” إذًا؟

بحر صور (من صفحة شباب صور)
صُور عصام العبدالله.. ملحمة تاريخيّة أم رؤية “ولد” صغير؟

يقول زياد الرحباني في مقابلة معه حول قصيدة “صور” التي كتبها صاحب ديوان “سطر النمل” ولحّنها زياد أنها القصيدة الأجمل بالنسبة إليه. لم يخفِ الرحباني إعجابه بقصائد عصام العبدالله الأخرى، فكان قد لحّن له قصيدة “سطر النمل”. ولكن افتتان زياد بقصيدة صور بدا واضحًا حتّى في اللحن الذي عمل عليه لثلاثة أيّام إضافيّة بعد الانتهاء من التلحين. لحّن زياد قصيدة صور من مشاعره اتّجاه القصيدة فأعطاها الطابع الملحميّ. كان عصام يقرأ قصائده بعد أن يكتبها فيتخيّل زياد اللحن في رأسه خلال جلساتهما. امتزج صوت الشاعر إبن بلدة “الخيام” مع لحن زياد فخلقوا لنا خيالًا من أحصنة وخيول وفرسان وقلاع محصّنة تتقاطع بين أبيات القصيدة “المحكيّة”.

لا يُخفى أنّ قصيدة صاحب ديوان “قهوة مرّة” كانت استعراضًا شعريًا لتاريخ صور، مع المرور على بعض الذكريات أو المشاهد الحميميّة الأكثر انطباعًا في ذهن الشاعر، وذلك ما منحها طابع الأسطورة أكثر. لذلك في معظم أبيات القصيدة لا يستجدي العبدالله حضور العاطفة أو الحنين بل الشعور بعظمة هذه المدينة بلغته الذكيّة من خلال الصور الشعرية التي تشبه السينما أحيانًا، وتملؤها روح دعابة عصام العبدالله في أحيانٍ أخرى.

امتزج صوت الشاعر إبن بلدة “الخيام” مع لحن زياد فخلقوا لنا خيالًا من أحصنة وخيول وفرسان وقلاع محصّنة تتقاطع بين أبيات القصيدة “المحكيّة”.

يبدأ العبدالله قصيدة صور بأبيات تصف مشاهد بحر المدينة، بلغة سردٍ شعريّة محيّرة. يفتتح القصيدة قائلًا: “صور/ وقت العصر/ قاعد/ عم يعدّ البحر/ متل الولد”. ومن هذه النّقطة، من هذا “الولد” المجهول يبدأ بوصف البحر. لا يتغزّل به، ولا يحمّله جمالًا فوق طاقته، ولكنّه بالشعر الملغوم وحده، وغير المتوقّع يقفز من مشهد إلى آخر. لا شك أن معجم عصام العبدالله اللغوي هو معجم محير، وقد يكون الأكثر اكتمالًا بين شعراء المحكي في جيله. لا يمكن أن يتوقّع قارئ شعره البيت التالي أو الصورة الشعرية التالية، لذلك تبدو القصيدة مليئة بالمفاجآت. يمكن أن نتوقّع وصف البحر بكثير من المصطلحات والصور لكن عصام يكسّر هذه المصطلحات المعروفة ويخلق صورة جديدة فيقول دلالة على البحر: “قبالو/ سهل من مَي/ ومفتّح زَبَد”. ثم يصف المراكب التي تتربّع وسط البحر فيقول: “شاكك بصدرو مركب/ بيبشبه بلد/يمكن عم يجرّوا الهوا/يمكن عم يجرّوا ولد”.

ميناء صور (من صفحة شباب صور)

في قسم آخر تتحوّل صور في قصيدة الشاعر إلى كائن مؤنّث. يمهّد للدخول في الحديث عنها عبر المساس بالمقدّسات. فيرى البحر على هيئة رجل يسجد ما إن يصدح آذان العصر من أزقة المدينة، فيقول: “شكّ الرمح/ شلح العباية ال كلها من مي/ ومقصّبة بالضو حد الفي/ حط حدها الكيس/ وسجد البحر”. صور عصام العبدالله هي عروس البحر، شعرها زهر الليمون الذي يتدلّى بين حقول المدينة. هي امرأة مصحوبة دائمًا بالسحر، وبشجاعة ناسها، وبالمجد التاريخي. هي المدينة المؤنّثة بالطبع، تجمع القوة والرقة معًا. مدينة “بحر وحجر وزهور/عم يضهرو من الصُّور”. هي حاضنة جبل عامل الذي سرد قصّته صاحب ديوان “مقام الصّوت” بأكثر الطرق شاعريّة فقال كان جبل عامل يشتغل في عزّ الظّهر “بين الصخر والمرجلة/بين العمر والمرحلة”، عطش الجبل فمدّ يده صوب البحر، وأعلنها “صور”. “هاي صور” يقول.

لا شك أن “الولد” الذي انتشله عصام “الختيار” وهو لقبه بين أصدقائه الذين ارتادوا المقاهي سويّةً، ووضعه ذريعة للسرد الشعري في قصيدة صور هو الوجه المخفي والمبهم لذكريات العبدالله أمام صور وبحرها. الحنين يبقى ظاهرًا حتّى لو لم يصرّح عنه الشاعر، فلا ذكريات واضحة يسردها عصام مع صور، كتب القصيدة وسكت. عصام العبدالله هو الولد الذي كبر و”ختير” جاعلًا من صور أسطورة تاريخيّة في وقت العصر وهو “قاعد/ عم يعدّ البحر/ متل الولد”.

“صُور” شوقي بزيع”.. الشعر المجروح

“كنت متابعًا لمجلس العزاء الحسيني، هذا الينبوع الآخر الّذي رفد شعري” (شوقي بزيع)

قد يكون ما يميّز الشّعراء عن بعضهم بأساليبهم ومعاجمهم اللغويّة وتفرّدهم بخلق الصور الشعريّة وتراكيبها، هو الحزن الطفولي المسبي خلفهم من ذاكرة الصغَر. يظل هذا الحزن لامعًا صغيرًا متكوّرًا في الظلّ ولكنّه أكثر ما يلمع في القصيدة وهو ما يجعلها خالدة.

يبدأ صاحب ديوان “أغنية حب على نهر الليطاني” قصيدته “صور” بتنهيدة مستترة وكأن القصيدة بدأت لتظهر لنا بعد حديث طويل بالخفاء بين شوقي ومدينته “صور”. كان يؤلم شوقي حين يشتاق فيكتب، هو الذي كتب “صور” في بداياته. وأقول بتردد طفيف أن شوقي فقد جزءًا كبيرًا من ما يؤلم في الشعر بين المسافة الزمنية الشاسعة الممتدة من ديوانه الأول وديوانه الأخير “الحياة كما لم تحدث”. شوقي الشاعر الذي يُوجع، الذي كان بإمكانه أن يكتب: “والآن يا صور، أيتها الطعنة الأبديّة في جسد البحر”، “وصور الجروح، وصور الهواء الكسيح وقد خنقته الحقيقة”!

على خلاف عصام العبدالله ومدينته صور “الفاضلة” كتب ابن بلدة زبقين قصيدته “صور” بسرد طفولي من الذاكرة. بقيت صور عالقة مع شوقي حتى قال: “آن الأوان لكي أكتب الأغنية”، كأنه يعلن لحظة الخلاص بالفنّ. لا تبدو صور شوقي بزيع تمهيدًا لظهور مدينة اليوتوبيا، ولا مدينة المؤنّث والزهور العادية والإنتصارات الوهميّة. بل هي “زهرة فينيقيا المطفأة” و”الثريّا التي زيّنت شاطئ المتوسط ذات مساء” وأُسقطَت. لماذا كتب شوقي صور بشجن وبحقيقةٍ فجّة؟ لماذا كتب شعرًا مجروحًا؟

صور منطقة المينا (الصورة من صفحة شباب صور)

كتب شوقي بيدين خشنتين شعرًا مجروحًا، سرد قصّته مع صور، القصّة الحقيقية المخفيّة. صور شوقي بزيع هي التي خلع هو ورفاقه ثيابهم أمام أعين بحرها، وحدّقوا في شمسها حتى بكوا، صور هي التي توارثها الملوك وكلاب الملوك، وهي التي كتب فيها الله أهم إنجازاته “إنما أمرُهُ إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون” فقال: “يا صور كوني مدينة” فكانت، صور هي منبع السمك الذي أكلوه حتى الحسك، وصور هي الامرأة والفتاة والتلميذة. هي صوت أمه وبيوت اللاجئين و”زبقين”، والمكان الذي يبدأ الشعر منه، وهي كل الذي “لا نراه فنسميه صور”.

يا صور كوني مدينة” فكانت، صور هي منبع السمك الذي أكلوه حتى الحسك، وصور هي الامرأة والفتاة والتلميذة. هي صوت أمه وبيوت اللاجئين و”زبقين”، والمكان الذي يبدأ الشعر منه، وهي كل الذي “لا نراه فنسميه صور”.

يمر شوقي على تاريخ صور متسلّمًا ذمام الأنا فيتكلّم. فيصف المشاهد التي جمعته والحرب. يحكي عن البكاء الذي سمعه فيقول: “رأيت نساءً يولولن”، يحكي عن الإباحة والإغتصاب فيقول: “عربات خضارٍ تهاجم سربًا من الفتيات وتقضم تفاح أجسادهنّ”، يحكي عن العدوان فيقول: “وأسماك قرش خرافيّة تتقدّم مسرعة وتعضّ المدينة”.

أنا لا أعرف صور ولكنني أعرف صور شوقي، وأعرف الحزن الجنوبي الشيعي الذي تمركز في قصائده، هذا الحزن الذي يصنع فصلًا غائرًا بين الشعراء أجمعين. يحضر هؤلاء الذي استشهدوا قبل ألف سنة في “صور”، رغم أن هذا الشقّ في شعر بزيع يحتاج إلى دراسة منفردة ولكن لا يمكن تجاهله. لولا الحزن الطفولي ولولا ثارات القدامى والمجالس التي بكى فيها بزيع وهو طفلًا دون أن يعرف السبب لما كتب هذا الشعر لاحقًا. لهذا بكى شوقي صغيرًا على ناس ماتوا قبل ألف سنة، بكى لأجل أن يكتب الشعر المجروح لاحقًا.

“صور” عباس بيضون.. النبوءة

“بيوتي التي سكنتها سابقًا كلّها موجودة في قصائدي” (عباس بيضون)

لا أتفق مع عباس بيضون على تصنيف “صور” قصيدة أسطوريّة حول التاريخ. صور عباس بيضون هي حنينه الذي كان قبل الحرب، كتبه خوفًا من فقده بعد وقوعها. هو نفسه يقول إن الحرب كانت نقطة فاصلة، لذلك “صور” هي القصيدة التي لم يعرف كيف يكتب مثلها مجددًا. ولكنه في لا وعيه يعود إليها في أماكن محدودة في قصائده لاحقًا، مع ذلك اختلف أسلوب ابن “شحور” بعد قصيدة “صور” وصار يستر على حنينه المفقود.

صور عباس بيضون هي الإنقسام الحاصل ما بين قبل وقوع الحرب وبعدها. صور عباس قبل الحرب هي التي كانت “جزيرة وحصنًا” وكان ليلها لا يكفي للأحلام وكانت سماؤها واسعة، وكانوا يرقصون “في النسيم الخفيف” ويرفعون فيها “قصائد وحبًا”. صور عباس بيضون بعد الحرب هي “النسوة المنتظرات تحت الأدراج وفي الغرف العالية”، هي الكلاب الجائعة والأرض التي تغلي بالفئران، وهي “الرصاص الذي يدرز نوافذكِ” و”الدم الذي يلطخ الأبواب”.

صور عباس بيضون هي الإنقسام الحاصل ما بين قبل وقوع الحرب وبعدها. صور عباس قبل الحرب هي التي كانت “جزيرة وحصنًا” وكان ليلها لا يكفي للأحلام وكانت سماؤها واسعة، وكانوا يرقصون “في النسيم الخفيف” ويرفعون فيها “قصائد وحبًا”

الذين كتبوا حاولوا أن يحفظوا شيئًا من أنفسهم ومن ذاكرتهم التي تبتلعها الحروب وتنثرها لحمًا على الحيطان فتغسلها أكياس الإسمنت الجديد وورش إعادة الإعمار. صور عباس هي النبوءة بالحرب التي عصفت في المكان وفي قلب الشاعر مباشرة. كلّما قرأت صور خُيّل لي عباس واقفًا فوق بحر مدينته ويحاول مستعجلًا أن يتخلّص من حنينه وذاكرة المكان، كلّ المكان، على الورق حتى يتمكّن من العودة إلى حضن القرية متى شاء قبل أن يفقد كلّ شيء بعد انتهاء الحرب. الآن، بعد “صور” أخذنا جميعًا معه إليها، إلى القصيدة التي ستتكرّر إلى الأبد.

نبكي علانيةً بعد أن نخرج قسرًا من أرحام أمّهاتنا، ونبكي خفاءً حين نخرج قسرًا من بيوتنا القديمة، ثم نفقد القدرة على البكاء حين نهاجر البلد، ثم نبكي علانيّة دون أن يرانا أحد قبل الموت بقليل. وكلّ ذلك “خروج” بطريقة ما ودوامة حنين لا تنتهي. وهذه هي العودة الدائمة إلى نقطة البداية الأولى، لحظة الخروج من رحم الأمّ. والأمران سيّان عند عباس: الأمّ هي البيت، والبيت هو الأمّ. عباس المؤمن دائمًا بدوامة الأماكن وبفلسفة العودة إلى ذاكرة البيوت، أحدثت الحرب التي تنبّأ بها في “صور” فجوة في قلبه، فقد قدرته على تذكّر “صور” التي كتبها عام ١٩٨٥ وربما تناسى تلك الكلمات “حين نزلنا إليكِ انتزعتِ من حناجرنا الوتر الفلاحيّ وها نحن بالكلمات التي تعلّمناها منكِ لا نستطيع أن نصفكِ”. وصار يقول “صور صارت خارج تاريخي. أوّل قصيدة أصدرتها هي القصيدة ما بعد “صور” بالنسبة لي”.

سنعود دائمًا إلى العود الأبدي للحنين. سيكرّر أحدهم “صور”، وسيتكرّر حنين الشعراء الثّلاثة الذين كتبوا صور وخلّدوها، فخلّدت قصائدهم. ما السرّ في صور إذًا؟ السّر في حنين ناسها الذي لن يتخلّى عن أبديّته أبدًا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى